يدفعنا الوعي بقيمة التراث ومساهمته في بَلْورة الهوية وصقل الشخصية التونسية، المعروفة بانفتاحها على جميع الحضارات وبتعايشها السلمي والمتسامح مع جميع الأطياف والديانات، إلى البحث عن الإرث اليهودي التونسي، بل وتقودنا رغبة ملحّة في إحياء القليل مما تبقى من هذا التراث الضارب في القدم.
يهود تونس.. تراث مُهمّش وذاكرة منسية
أرشيف يهود تونس عام 1900
إرث إعلامي وفني ضخم
كانت تونس سبّاقة في الصحافة لاحتوائها أكبر مركز للصحافة اليهودية تقريباً في شمال إفريقيا، وكان لها كمّ هائل من الصحف اليهودية التي كانت تنشر، سواء بالفرنسية أو بالعبرية – عربية. يقول الدكتور فوزي البدوي، المختص في الدراسات اليهودية وفي الأديان المقارنة، في حديث مع رصيف22: "كل هذا الإرث انتهى مع بداية الاستقلال، بل لم يبق منه شيء في تونس. ويقال إنه موجود بمعهد (بنزفي) بإسرائيل المهتم بيهود شمال إفريقيا"، مضيفاً أنه بقي لتونس عناوين الجرائد اليهودية التي كانت تصدرها، ولا ننسى طبعا الدور الريادي الذي كانت تلعبه المطابع اليهودية في طباعة الكتب والصحف آنذاك، وخاصة المطابع الموجودة بجهة جربة.
بعد أن كان عدد يهود تونس 120 ألفاً بداية الاستقلال، تقلّص العدد وأصبح لا يتجاوز 2000 شخص، وأمام هذا العدد الضئيل نتساءل عن تراث يهود تونس اليوم وما تبقي منه في ظل هذه التغيرات الجذرية
أكبر كنيس يهودي في شارع الحرية في تونس
بالنظر إلى ما تبقى من تراث يهود تونس نرى بعض المباني والمعابد الدينية، أهمها كنيس شارع الحرية بالعاصمة، ومعبد الغريبة بجربة وبعض المعالم التي غيّر الزمن ملامحها وأنهكها المناخ وأتلفها الإهمال. تراث في طور الانقراض لعدة اعتبارات، أهمها أن يهود تونس لم يعودوا قادرين على تمويل أنشطتهم أو المحافظة على هويتهم وإرثهم، باستثناء بعض الطقوس، كحج الغريبة أو أداء الصلاة داخل فضاء ضيق بكنيست العاصمة، إضافة إلى خرجة الربّي أو ما يسمى بـ"الهيلولة"، أو بعض الأطباق الغذائية المعروفة على غرار "المدفونة" و"البريك اليهودي" و"المِينِينة" (طاجين)، وطقوس أخرى، كطريقة الذبح الحلال عند اليهود التي تسمى "الكاشير"، وتعني طهي وأكل الجزء الأعلى فقط من الذبيحة، دون أن ننسى التراث الموسيقي والفني والمسرحي والسينمائي وحتى الرياضي.
إسهام اليهود في الموسيقى
يقول جاكوب لولوش، مؤسس جمعية حماية التراث التونسي اليهودي "دار الذكرى" لرصيف22: "لا يمكن الحديث عن الإرث اليهودي بمعزل عن التراث الإسلامي، وقد اشتغلنا سابقاً في متحف دار الذاكرة على مواضيع متقاربة ومتشابهة بين الديانتين اليهودية والإسلامية".
كانت تونس سبّاقة في الصحافة لاحتوائها أكبر مركز للصحافة اليهودية تقريباً في شمال إفريقيا، وكان لها كمّ هائل من الصحف اليهودية التي كانت تنشر، سواء بالفرنسية أو بالعبرية–العربية
أُفول الحضور الديني
في الماضي، شيّد اليهود معالم تعبّدهم بالقرب من معابد المسلمين، ومن يعرف المدينة العتيقة جيّداً يلاحظ قرب حارة اليهود من مقام الولي، سيدي محرز بن خلف، ومن جوامع ومساجد حنفية ومالكية، إلا أننا لاحظنا خلال بحثنا هذا اندثار هذه المعابد، إذ لم يبق منها إلاّ أكبر كنيس في تونس وهو "السيناغوغ"، الواقع حالياً بشارع الحرية بالعاصمة التونسية، وقد تم تشييده بين سنتي 1933 و1938، وأصبح منذ ذلك الحين المعبد الرئيسي ليهود تونس، بعد اندثار كنيس "الدروج" الذي كان يقع في حي الحفصية، وكنيس "الحارة"، أو ما يسمى بـ"الصلاة الكبيرة" بالحي اليهودي القديم بالعاصمة، وغيرها من المعابد المهمّشة أو المهدمة بالكامل والتي لم يبق لها أثر.
وتجدر الإشارة إلى أنه للكنيست الكبير الموجود حالياً بالعاصمة التونسية تاريخ كبير وثري، نظراً لأن الهدف من بنائه كان توحيد طائفتين يهوديتين قال عنهما البدوي إنهما قادمتان من مكانين مختلفين: طائفة يهودية تونسية أصلية منذ الأزل حتى قبل قدوم العرب، وطائفة ثانية مقسمة بدورها إلى جزأين، واحدة قادمة من الأندلس والثانية من إيطاليا، هرباً من مضايقات المسيحيين لها. مضيفاً أن الطائفتين كانتا من أصل أندلسي، فكان بذلك يهود تونس نوعين، يهود تونسيون أصليون، ويهود "القْرانة" المشتقة من الكلمة العبرية "قْورنين" وتعني السكان غير الأصليين. طائفتان متناحرتان لا تقبلان حتى المصاهرة، فجاءت فكرة الكنيست للتوحيد بينهما.
معبد "الغريبة"
معبد الغريبة.. أقدم معبد يهودي في شمال إفريقيا
قد تكون هجرة اليهود بداية الاستقلال من أهم أسباب اندثار تراثهم. هجرة شابتها بدورها أسباب كثيرة، أبرزها مسألة تعريب جزء من الإدارة التونسية، وتعريب التعليم وتوحيده، نظراً لأن جزءاً من نخبهم المتعلمة ارتبطوا باللغة الفرنسية وقوانينها زمن الاستعمار
أسباب هجرة اليهود عقب استقلال تونس
قد تكون هجرة اليهود بداية الاستقلال من أهم أسباب اندثار تراثهم. هجرة شابتها بدورها أسباب كثيرة، على حد تعبير د. البدوي، وأبرزها مسألة تعريب جزء من الإدارة التونسية، وتعريب التعليم وتوحيده، نظراً لأن جزءاً من نخبهم المتعلمة ارتبطوا باللغة الفرنسية وقوانينها زمن الاستعمار. توحيد التعليم ألغى مدارس التعليم الخاصة باليهود، فتوصلوا إلى حلول جزئية، كالتعلم مع المسلمين التونسيين كامل أيام الأسبوع باستثناء السبت. يقول د. بدوي: "بعد تلك الحقبة، تكفّلت المؤسسة العالمية l'alliance israélite بتعليم اليهود التونسيين، وكانت موجودة بتونس وصفاقس، فكان من بين أهدافها الأخرى نشر الحركة الصهيونية والحفاظ على الهوية اليهودية وتعليم اليهود وتكوينهم. بينما يتعلم جزء آخر منهم بمدارس يهودية خاصة، على غرار مدرسة نهج جان دارك بالعاصمة، وهي مدرسة دينية تابعة للملياردير الأمريكي Lubavitch الذي يمتلك سلسلة مدارس في كافة أنحاء العالم، ولها تاريخ في تكوين وتعليم اليهود". وإلى حدود الستينيات، كان اليهود موجودون بالمعاهد والجامعات، ولكن كل ذلك انتهى مع بداية الثمانينيات المتزامنة مع صعود الإسلام السياسي وصعود حركة الاتجاه الإسلامي في تونس.
ومن بين الأسباب الأخرى لهجرة يهود تونس مسألة توحيد القضاء التي أدّت إلى إلغاء المحاكم اليهودية، ولم يبق لهم إلا الأحوال الشخصية التي يهتم بها عادة "الرِبّي"، وهي الكلمة التونسية المرادفة ل"رابين" أو "كاهن"، فأدت إلى انحسار قائمة الأحبار ممّن لديهم مكانة في التفسير والحديث، إلى أن غادر جزء آخر سنة 1967 وحرب النكسة والأحداث التي وقعت في تونس. فذهب جزء منهم إلى فرنسا وجزء إلى أمريكا وجزء إلى إسرائيل. يقول د. فوزي البدوي: "اضمحلال الإنتاج الديني والصحفي وغياب أحبار علماء وكفاءات على غرار الربّي خلفون، ساهم في أفول الحضور الديني، ولم يبق إلاّ أحبار متواضعو المعرفة وليس لديهم إنتاجات كتابية".
تراجع الإرث اللاّمادي
اشتهر اليهود بالمأكولات والأطباق التي أخذها اليوم الإسرائيليون عن يهود تونس. يقول الدكتور المختص في التراث اللاّمادي عماد صولة: "تسرب التراث اللاّمادي اليهودي إلى العادات التونسية، خاصة داخل المطبخ، وكان لليهود مطاعم شعبية ببعض أزقّة وأنهج مدينة تونس العتيقة وحلق الوادي، تقدم أطباقاً ومأكولات متنوعة من عمق التراث اليهودي".
وحتى عقب رحيل أعداد كبيرة من اليهود، بقي أثرهم حيّاً داخل المجتمع التونسي، على غرار الفن اليهودي والمالوف وأغاني حبيبة مسيكة والشيخ العفريت وغيرهما كثر، ولا زالت أطباقهم الغذائية تُطهى في كل بيت. إضافة إلى التراث، يقول د. صولة: "كان لليهود أيضاً أولياء ومقامات على غرار مقام الربّي فرايجي بجهة تستور، وكان يُزار من اليهود ومن العرب المسلمين معاً، وكان هناك أيضاً مقام لولي يهودي اسمه الربي جوزيف بجهة حامة قابس، ويقال إن هذا الولي بُني له مزار داخل إسرائيل بعد ذلك".
بيت الفنانة التونسية اليهودية حبيبة مسيكة
تحدّث عماد صولة عن التسامح الديني، مؤكداً مسألة التوافق بين الأديان وغياب فكرة التصنيفات على أساس ديني، وذكّر أن مسيحياً ومن بعده يهودي اعتكفا بمغارة الولي بلحسن الشاذلي، وأن الشاذلي لم يختر هذه المغارة صدفة بل لأنها تحمل أبعاداً قدسية. كما لا ننسى قرب الحارة من مقر ولي محرز بن خلف، الذي تشير بعض الدراسات التاريخية إلى احتماء اليهود به، بل يذهب التراث الشفوي إلى أن اسم "خلفون" عند اليهود مشتق من اسم محرز بن خلف، وأن النساء اليهوديات كنّ يتبركن بهذا الولي وينذرن مواليدهن إليه ويطلقن عليهم اسم "خلفون".
يبقى التراث اليهودي منطقة شبه محرّمة في فصول التاريخ التونسي وفي الذاكرة والمخيال الجمعي، وهو للأسف محاط بسياج من الأفكار والمفاهيم الجاهزة التي تبرر تهميشه وتعيق مراحل تطوّره وحمايته من الأفول
متحف يهودي
في حوار سابق لي مع الراحل روجي بسميث، رئيس الطائفة اليهودية بتونس العاصمة، قال إنه لا يفكر في إحداث متحف يهودي بقدر ما يبحث عن مصادر تمويل لإعالة الجالية المتبقية والتي يغلب عليها المسنّون. مشروع لم يباركه بسميث فحسب، وإنما أغفلته الدولة التونسية التي لم تعلن رفضها ولا قبولها إلى اليوم.
بل ثمة يهود تونسيون رفضوا فكرة تحويل مبنى المستشفى اليهودي الموجود بجهة الحفصية بالعاصمة، والمغلق منذ عقود، إلى متحف خاص حتى لا يعيدهم المتحف إلى الحارة. يقول المؤرخ المختص في المسألة اليهودية الحبيب الكزدغلي: "انطلقت فكرة إنشاء متحف يهودي إثر انعقاد ندوة علمية بجربة سنة 2016، تكوّنت خلالها لجنة لدراسة المشروع، ترأستها المؤرخة اليهودية لوسات فالنزي، ومنذ أن تقدمنا بهذه الدراسة لرئاسة الجمهورية سنة 2018 لم نتلقّ أي رد إلى اليوم، وهو أمر محيّر"، مذكراً أن جناح "JUDAICA" المخصص للإرث اليهودي بمتحف باردو لم تتم توسعته ضمن بقية الأجنحة المخصصة للحضارات والأديان الأخرى.
جاكوب لولوش، مؤسس جمعية حماية التراث التونسي اليهودي "دار الذكرى"، التي تُعنى بالتراث اليهودي التونسي وأهم خصائصه المعمارية والفنية، اعتبر أن مسألة حماية التراث اليهودي مشروع دولة وليس مهمة فرد أو طائفة، وأوضح أن الطائفة اليهودية سعت عدة مرات إلى التكفّل بترميم الكنائس والمعابد اليهودية المهدّمة داخل الجهات التونسية حتى تكون وجهة سياحية يهودية.
يبقى التراث اليهودي منطقة شبه محرّمة في فصول التاريخ التونسي وفي الذاكرة والمخيال الجمعي، فرغم محاولات المختصين التونسيين من اليهود والمسلمين على حد سواء، لا نعرف عن هذا الإرث المهدد بالاندثار الكثير. وهو للأسف محاط بسياج من الأفكار والمفاهيم الجاهزة التي تبرر تهميشه وتعيق مراحل تطوّره وحمايته من الأفول.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون