وأنا أتهيأ لخوض أولى الامتحانات الجدية في حياتي، مناظرة الدخول إلى التعليم الثّانوي، أو ما نسمّيه في تونس "السيزيام"، قادتني جدّتي ذات الوشميْنِ البربريين إلى "زاوية" أحد الأولياء الصّالحين، وخضّبت رأسي بتراب محيط بقبر عال توضع عليه قماشة خضراء موحشة. أصابني التّراب في كلّ مكان والرّعب في قلبي. راحت جدّتي تتمتم بكلام غير مفهوم، بينما ركّزت عيني على باب ضيق ولعلّني كنت أخطّط للهروب ساعتها. اسم الولي "نصر بن حبّاس".
من الأولياء الصالحين من عُرف بإحيائه للموتى، ومنهم من فجّروا ينابيع مياه لأناس شارفوا على الموت عطشاً، وآخرون داووا البرص والجرب والطّاعون...هذا كله ما جعل الناس يؤمنون بهم إيماناً مطلقاً
مازال الناس إلى اليوم في أنحاء زاوية "نصر بن حبّاس" يحملون تلك الحكاية وحكايات أخرى عديدة، ويقيمون له مهرجاناً سنوياً، فيخيمون حول البناية ذات القباب لأيام طويلة بلياليها، وتردّد أذكار هي عبارة عن إرث شفوي في طريقه للاندثار.
أمّا تاريخياً، فإن هذا الولي الصّالح قادم من ليبيا، "طرهونة" تحديداً، في القرن السّابع عشر، واستقرّ في ذلك المكان بعد أن تتلمذ على شيوخ آخرين، ومنهم "سيدي حمد بوعين" الّذي يرقد في زاوية لا تبعد سوى أربعين كيلومتراً في شمال غرب البلاد التونسية. تعيد بعض المصادر أصل هذا الولي الصالح إلى الحسين بن علي بن أبي طالب، كما يكتب ذلك في زاويته على رخامة فيما يلي صورة لها.
المثير للدّهشة حقّاً، هي مثل تلك الحكايات الّتي تحاك حول هؤلاء الأولياء الصّالحين. فلأي متأمّل أن يلحظ بأنها استعادة لقصص قدّيسين وأنبياء من كلّ الأديان والأطياف. فبن حبّاس هذا، لا يختلف كثيراً عن عيسى بن مريم في إحيائه للموتى. أولياء آخرون فجّروا ينابيع مياه لأناس يشارفون على الموت عطشاً، وآخرون يداوون البرص والجرب والطّاعون... إلخ ممّا سنأتي على بعض الأمثلة في آخر مادّتنا هذه، أمثلة قد تتّسع لها كتب برمّتها.
يؤمن الناس بأولئك الأولياء إيماناً مطلقاً. حتى إن الطرفة المتردّدة على كل لسان أن من يكذب قد يقسم بالله الغائب، بينما لا يستطيع أن يقسم باسم الولي الصّالح الحاضر بزاويته، وبما يسكن الذّاكرة من حكايات لا مجال للشكّ فيها.
غير بعيد عن نصر بن حبّاس، يرقد ولي آخر اسمه "سيدي يونس"، ونحن هنا نتحدّث عن محافظة سليانة بشمال غرب تونس، وبالتّحديد في إحدى أريافها النائية جدّاً حيث يكثر الأولياء الصّالحون. أمّا سيدي يونس هذا فلعلّه شبيه بالصّحابي عمر بن الخطّاب في العدل، فقد كان الناس يلتجئون إليه لفضّ نزاعاتهم.
على كلّ مدينة تشرف زاوية مركزية لأحد هؤلاء الأولياء الصّالحين كأنهم يحرسونها. فزاوية "سيدي عبد الله بومخلوف" الواقعة أعلى المدينة الجبلية التّونسية "الكاف"، وكأنه هناك ليلطّف من شتاءات المدينة القاسية وتضاريسها الصّخرية الناتئة
ذات يوم، زاره متخاصمان، أحدهما يتّهم الآخر بسرقة إحدى عنزاته. عرضا على "سيدي يونس البوّام" الأمر – ويسمّى كذلك لأن بومةً دائماً تعشّش في إحدى شقوق حيطانه المتداعية- ألحّ المتّهم على رفض ما نُسب إليه، بينما ظلّ الشّاكي مصرّاً على التّهمة. فما كان من سيدي يونس إلاّ أن قال: "ها قد سمعتكما، اذهبا الآن!"، وما كادا يخطوان بضعة خطوات حتى ثغت العنز من داخل بطن سارقها.
مازال سيدي يونس إلى وقت متأخّر يحكّم بين الناس، إذ يلجأ المظلوم إلى دفع ظالمه أو سارقه للذّهاب إلى الزّاوية ويقسم أمام قبر من أسمع ثغاء العنزة في بطن سارقها!
تكثر البناءات الصّغيرة ذات القباب حيث يرقد الأولياء الصّالحون في البلاد التّونسية كلّما ازدادت المنطقة وعورةً والظروف المناخية قساوة. لكأنهم قدّيسون صنعوا من أجل تلطيف الحياة وجعلها محتملةً بعض الشيء. وعلى الرغم من ظاهرها الديني إلا أنها ظاهرة تحوّلت إلى معطى ثقافي بحت. بناءات قد تمارَس فيها عادات وثنية بكلّ وضوح: تذبح القرابين ويلقى بقطع نقدية وتعلّق أشرطة من أثواب التي تريد أن "تسرّع مكتوبها" بالزواج.
كما تمارس طقوس من ديانات أخرى: كإشعال الشّموع على الطّريقة المسيحية، وترديد الذّكر كما تردّد المزامير، وتقام ما يسمّونها "الزّردة" بألوان زاهية في مشاهد قد نرى عليها من جملة ما نرى الهندوسية أو البوذية.
على كلّ مدينة تشرف زاوية مركزية لأحد هؤلاء الأولياء الصّالحين كأنهم يحرسونها. فزاوية "سيدي عبد الله بومخلوف" الواقعة أعلى المدينة الجبلية التّونسية "الكاف"، وكأنه هناك ليلطّف من شتاءات المدينة القاسية وتضاريسها الصّخرية الناتئة:
كرامات مقتضبة
سيدي صالح الغضباني: عرفت مدينة القصرين بنفسها الثّوري على مدى تاريخ البلاد، حتّى أنه ينسبون إلى هذا الولي الصّالح، سيدي صالح الغضباني، تنبّؤه بالثورة في قصيدة له ما زال يردّدها الأهالي ومنها:
في الأرض نصبوا الجلسة
بحراك وحديد واصل
وتونس سبب القضية
بيمين قاطع فاصل.
سيدي محمّد الصّالح العمراني، مدينة باجة: صاحب الحجر الطّائر. ولي صالح يقع بأعلى إحدى عيون الماء الّتي يسمّونها "عين الصّابون". بجانب زاويته صخرة مصقولة ومرتفعة قليلاً وكأنها تهيم بالطّيران، يروي الناس أن الولي كان يركبها كلّ ليلة ليقيم اللّيل في مكّة.
سيدي علي عزّوز: متنبّئ الأمراء
سيدي عيش، قفصة الجنوب التّونسي: مفجّر المياه من آبارها حتّى أنه وهب اسمه لمنطقة بكاملها.
ليست هناك ذكورية في مجال "الصّلاح"، إذ تتعدّد في تونس الوليات الصّالحات. منها أسماء معروفة ومذكورة تاريخياً، ومنها الشّعبية المتفرّقة هنا وهناك في مختلف مناطق البلاد، نسوة لا يختلفن في كراماتهن عن ذكور أولياء الله الصّالحين
سيدي سالم السّاطوري جزيرة جربة: محوّل من لا يمتثل للأوامر إلى أصنام، ومحوّل الأنثى إلى ذكر.
سيدي غريب المتعدّد: لا تكاد مدينة واحدة تخلو من "سيدي غريب"، وهي في العموم زاوية تقع خارج المنطقة السّكنية، يقال إن التّسمية قد تعود إلى أن ضيْفاً حلّ بتلك الديار إلاّ أنه توفّي قبل انقضاء مدّة الضّيافة المتراوحة بين 3 و7 أيام. بمعنى أننا قد نجد أولياء من أي جنسية وأي ديانة كانت. فيما يلي شهادة من خادم أحد الأولياء الغرباء "سيدي عبد الله الغريب بمنطقة المزّونة بمحافظة سيدي بوزيد، حيث أن هذا الولي قادر على إحياء الناقة بعد ذبحها وسلخها وتجريد لحمها، وإعادة الجلد على عظمها كما في الرّواية التّالية:
وليات صالحات
ليست هناك ذكورية في مجال "الصّلاح" هذا، إذ تتعدّد في تونس الوليات الصّالحات. منها أسماء معروفة ومذكورة تاريخياً، ومنها الشّعبية المتفرّقة هنا وهناك في مختلف مناطق البلاد، نسوة لا يختلفن في كراماتهن عن ذكور أولياء الله الصّالحين.
بقرة سنوية "لِلاّ الأمّ خولة" بالموقع الرّوماني بمنطقة "دقّة" (محافظة باجة)
أضحية سنوية تشق الآثار الرومانية بدقة. لعلّه طقس يعود إلى ما قبل التاريخ توارثه السكان عن أسلافهم الأوّلين من رومان وبونيقيين وقرطاجيين. عدّة وليات صالحات أو "مبروكات" كما يسمّونهن في كلّ أنحاء البلاد ينتشرن، ولو بصفة أقلّ من الصّالحين الذّكور.
ولعلّ أهمّ ميزة يختصصن بها هي عدم زواجهن، أو خروجهن عن المؤسّسة الزوجية وتفرغهن للحياة المتصوفة والزاهدة. فمن "للا عربية" ملجأ العوانس في العاصمة تونس، إلى الشهيرة السيدة المنوبية التي تعود نشأتها إلى العهد الحفصي، المرأة التي مازال نساء تونس يتخذنها رمزاً نسوياً مستقلاً لرفضها الانخراط في أي مؤسّسة، بما في ذلك مؤسسة الزواج، إلى أم الزين الجمّالية التي يعيد الدارسون نسبَها إلى الخليفة عثمان بن عفّان، وقد كانت مستشارة شعبية يلجأ إليها الناس في حروبهم وتجارتهم وحتى شؤونهم الحياتية.
مزار السيدة المنوبية
تم استهداف مقامات الوليات الصّالحات في عديد المرّات من قبل المدّ السّلفي الّذي ازدهر إبّان ما بات يعرف بالرّبيع العربي، فطالوها تخريباً أو حرقاً، ولعلّ أهمّ ما استهدفوا من تلك المنشآت، زاوية السّيدة المنوبية الواقعة في أحواز العاصمة، وفي ذلك لعلّه غيض ذو منحى ذكوري من جملة مناح أخرى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون