عقب قبوله في كلية التجارة في جامعة الأزهر، قام محمد، الشاب القادم من وسط الدلتا، في الريف المصري، بجولة على أماكن لم يعرفها سابقاً إلا عبر التلفاز، وكانت وجهته الأولى مسجد الحسين، في منطقة دراسته، لقضاء صلاة الجمعة، وزيارة المقام. كانت المرة الأولى التي يصلّي فيها في هذا المسجد.
دخل الشاب العشريني إلى المسجد. شعر بشعور جديد، ربما بسبب الأعداد الكبيرة من المصلين التي لم يرَها من قبل. سلّم متعلقاته وحذاءه للعامل الواقف أمام صناديق الأحذية على الباب، ثم قضى حاجته، وتوضّأ وفرغ إلى صلاته. الأمور حتى هذه اللحظات كانت على ما يرام، وكان الشاب يشعر بالسعادة لزيارته الأولى لهذا المكان، ولكن الأمور انقلبت وهو يهمّ بالانصراف.
أربعة أبواب رئيسية تستقبل الداخلين إلى مسجد الحسين، خلف كل واحد منها رفوف خشبية مقسّمة إلى علب صغيرة توضع داخلها الأحذية، وتشغل هذه "الخزائن" بضعة أمتار من مساحة المسجد، وأمامها يقف رجل أو اثنان من العمال يأخذون متعلقات المصلّين ويضعونها في أماكن محددة بأرقام، وعندما يقرر المصلّي الانصراف، يبرز الورقة التي تحمل رقم مكان متعلقاته.
يروي محمد، وعلامات الدهشة تسيطر على وجهه، أنه عندما أراد أن يأخذ متعلقاته وينصرف، طلب منه العامل المال حتى يردّ له أشياءه. على الفور، أخرج بضعة جنيهات من جيبه، ظناً منه أنها صدقة للمسجد، ولكنه تفاجأ برد العامل بأنه يريد خمسة جنيهات، لأنه ترك حذاءً وشنطةً صغيرة.
السيناريو نفسه تكرر مع الشاب في مسجد السيدة زينب. طلب منه العامل نقوداً، ولكن بطريقة مختلفة: "هات حاجة نستبارك بيها منك أو نفحة". هذه المرة تفاجأ بدرجة أقل، إذ حدث الأمر سابقاً. ومع الوقت، صار طبيعياً بالنسبة إليه؛ فحين يذهب إلى أي مسجد كبير يجهز مبلغاً من النقود في جيبه، ليكافئ به الرجل الذي ائتمنه على أشيائه.
ظاهرة منتشرة
أخذُ الأموال من المصلين ظاهرة منتشرة في العديد من المساجد في مصر، ويقع في شباكها مصريون وأجانب، وينتشر الأمر أكثر في المساجد الشهيرة التي يقصدها السائحون.
قصة محمد جعلتنا نتتبع الأمر لوقت طويل. المبالغ التي تُطلَب تختلف من منطقة إلى أخرى. ففي مصر القديمة مثلاً، يختلف الحال عمّا هو عليه في منطقة "غاردِن سيتي"، والتجمع الخامس. لكل منطقة تسعيرة خاصة، كما أن الأمر أصبح مسلكاً للكثيرين من الأشخاص لجني الأموال من دون وجه حق.
مسجد الحسين في مصر القديمة يُعَدّ الأغلى من حيث المطلوب مقابل قضاء الحاجة، أو الوضوء، فهو يعجّ دائماً بالمصلين ومريدي المقامات والأضرحة، ما جعل الأمر أكثر سهولةً على طالبي الاستفادة منه. هنا، التسعيرة هي خمسة جنيهات للحذاء، وثلاثة لـ"الشبشب".
وبُني هذا المسجد عام 1154، في العهد الفاطمي، بالحجر الأحمر على الطراز الغوطي، وسُمّي بهذا الاسم استناداً إلى رواية دفن رأس الإمام الحسين، حفيد الرسول، في مقام يقع بجانبه. ويُعَدّ من أكبر المساجد المصرية، وتصل مساحته، بعد إجراء آخر عملية توسيع له عام 1953، إلى 3،340 متراً مربعاً، ما يجعله قادراً على استيعاب مئات المصلّين.
فور الوصول إلى مسجد الحسين، يظهر رجل أربعيني يقف على الباب، تتوسط جبهته زبيبة، يستقبل الزوار بابتسامة خفيفة وكلام لطيف، ما يُشعِرهم بالارتياح. يُضطرّ الزائر إلى إعطائه حذاءه ومتعلقاته إلى حين الانتهاء من قضاء حاجته ووضوئه. وبعد الانتهاء والخروج من المسجد، يظهر الأمر على حقيقته.
الرجل الأربعيني الذي يستقبلك قبل الصلاة بكلمات رقيقة، يلاقيك وأنت خارج بجملة "نفحة لسيدك الحسين"، وقد يتحوّل تماماً ويرتفع صوته، ويتشاجر مع مصلّين من أجل النقود.
البعض اعتاد الأمر، وكثيرون من الزوار غير الدائمين لا يفهمون ما يجري. يقترب منه أحد المصلين طالباً حذاءه وفي يده جنيه واحد أراد تقديمه كنوع من المساهمة، ظناً منه أن الأمر عبارة عن تبرّع للمسجد، فتتغيّر هيئته، وبأسلوب حادّ للغاية يقول الأربعيني: "هات خمسة جنيه يا أستاذ".
سأل الرجل المطالَب بخمسة جنيهات ليستعيد حذاءه: "لماذا تجمعون هذه الأموال؟"، فأجاب الأربعيني بسرعة: "بنجيب بيها حاجات للمسجد". "هل الأوقاف على علم بذلك؟"، سأله مجدداً، فردّ عليه: "خلاص يا أستاذ. علشان نشوف غيرك. إنت هتعطلني؟!"، ثم أخذ الجنيه من يده ولم يحدّثه مرةً ثانية.
الرجل الأربعيني الذي يستقبلك قبل الصلاة بكلمات رقيقة، يلاقيك وأنت خارج بجملة "نفحة لسيدك الحسين"، وقد يتحوّل تماماً ويرتفع صوته، ويتشاجر مع مصلّين من أجل النقود
على مقربة من العامل نفسه، وقف الشاب الثلاثيني مصطفى إبراهيم، وبيده خمسة جنيهات ينتظر دوره. مدّ يده إلى العامل وأعطاه خمسة جنيهات مقابل متعلقاته.
يروي مصطفى أن هذه هي المرة الأولى التي يصلي فيها الجمعة في الحسين. جاء برفقة زوجته لزيارة المقام، والدعاء بأن يرزقه الله طفلاً، ولم يكن على دراية بمسألة هذه الأموال التي تُدفع على الباب، ولكنه شاهد الجميع يفعلون ذلك، ففعل مثلهم.
يشير إلى قلقه من ترك حذائه ومتعلقاته بجانب المسجد أو عند مدخله. يخشى سرقتها كما حدث له قبل ذلك في مساجد أخرى.
يظن أنهم يجمعون الأموال من أجل ترميمات للمسجد، كما أنه لا يستبعد أنه من الممكن أن يأخذوا هذه الأموال لأنفسهم. ولكنه قام بدفعها كـ"صدقة، وهم مَن يُسألون عنها أمام الله"، يقول.
ذهبتُ إلى مسجد الحسين ذات أحد، بقصد تتبّع ما يجري أكثر، بعيداً عن أيام الجمعة التي تشهد زحمةً. مثلما يفعل الجميع، سلّمت حذائي ودخلت، وقضيت صلاة الظهر، ثم جلست في المسجد لبرهة من الوقت، وحين قررت الانصراف، حدث السيناريو نفسه: سلّمت الرقم 37 إلى رجل أربعيني واقف أمام الخزائن لأستلم حذائي، فبادرني: "أي بركة منك كده يالا". "لماذا؟"، سألته، فأجاب: "علشان شلت لك الجزمة". "وهي مش خدمة مجانية؟"، قلت له. علامات الغضب سيطرت على وجهه، وتحدث بعنف: "ابقى هات لك شنطة شيل فيها بعد كده... دي حاجة ذوقية. ده أنا أكبر منك". حاولت الاستفسار مرةً ثانيةً: "أليست هذه خدمةً مجانيةً؟"، ليقطع الحديث رجل ستيني أخرج من جيبه بضع جنيهات وأعطاها للعامل، فنظر الأخير إليّ وعلّق: "أهو. هو أنا قُلت له حاجة؟ أصلها بالحب".
الرجل الأربعيني يصرّ على أن فعله صواب، على الرغم من أنه موظف في وزارة الأوقاف يتقاضى راتباً. على مقربة منه، كان يقف الشيخ أشرف فاروق، وهو مؤذن في مسجد الحسين. يقول إن خدمة حفظ الأحذية مجانية تماماً، والعاملون المشرفون على حفظ متعلقات المصلين هم موظفون في الأوقاف، ولكن من الذوق أن تدفع بعض النقود نظير حمل العامل لحذائك.
يشير فاروق إلى أن عمل هؤلاء الموظفين ليس حمل أحذية المصلّين، ولكن نحن نسمح لهم بالوقوف في هذا المكان لخدمة الناس، ويضيف: "حذاؤك يكون متسخاً والرجل يحمله لك، وتالياً من الذوق أن تدفع له"، ويتابع: "وبعدين كل الموضوع خمسة جنيهات ملهاش لَزمة"، مشيراً إلى أن الأوقاف على علم بكل شيء يحدث هنا، ولافتاً إلى أن العامل الذي يقف على الباب لو ارتكب خطأً سنحاسبه، و"لكن دفع المال شيء من الذوق، وليس فرضاً على المصلّي".
في مسجد الشافعي
تحتضن مصر القديمة الكثير من المساجد الشهيرة التي يقصدها مواطنون من أقصى جنوب مصر، ومن شمالها. الأجواء الممزوجة برائحة البخور والأبنية القديمة التي شهدت على حقبات من تاريخ مصر، تثير إعجاب الجميع.
هناك، ترتفع مئذنة مسجد الإمام الشافعي، في حي السيدة عائشة، ويستقبل المسجد، الذي أعيد افتتاحه قبل قرابة سبعة أشهر عقب عمليات ترميمٍ وتجديدٍ استمرت سنوات، مئات المصلين يوم الجمعة، الأمر الذي يفتح مجالاً لبعض الأشخاص للتربّح منهم.
"حذاؤك يكون متسخاً والرجل يحمله لك، وتالياً من الذوق أن تدفع له. وبعدين كل الموضوع خمسة جنيهات ملهاش لَزمة"
رجلٌ بلحية غزاها البياض، يجلس على كرسي خشبي، وأمامه "ترابيزة" صغيرة، وبيده اليمنى علبة من البلاستيك في داخلها نحو عشرين جنيهاً "فكة"، ما يشير إلى أن التسعيرة هنا قد تختلف عن التسعيرة في الحسين، أو تقلّ عنها بعض الشيء، وبيده اليسرى ما يقرب من 200 جنيه هي حصاد ما جمعه خلال الساعات الماضية. لا يتكلم نهائياً، ولكن كل ما يفعله أنه يطرق بالعلبة على المكتب، كنوع من التنبيه إلى أنه يجمع المال، وعلى مقربة منه شخص آخر يردد تحذيرات: "خلي بالك من فلوسك وحاجتك. الحرامي منكم وفيكم"، ما يدفع البعض إلى استسماحه بأن يعير انتباهه إلى متعلقاته إلى حين قضاء حاجته أو انتهائه من الوضوء...
هنا يختلف الوضع قليلاً عمّا هو عليه في مسجد الحسين. دورات المياة التي يتوضأ فيها الناس تقع خارج المسجد، ما يعطي الفرصة للبعض للتربح، بعيداً عن أعين مسؤولي المسجد. وليس هناك مكان مخصص لوضع الأحذية والمتعلقات، ولكن زحمة المصلين تجبر كثيرين على وضع متعلقاتهم مع الأشخاص الجالسين هناك، ويشغلون حيزاً صغيراً من المكان، على أمل أن يحصلوا على شيء من النقود.
يقول الرجل ذو اللحية البيضاء إنه ليس موظفاً في الأوقاف، ولكن صلته بهذا المسجد تعود إلى الصغر، وإن والده كان يتردد على المكان بحكم أنه أحد سكان المنطقة، وإنه يجمع هذه الأموال من أجل شراء أدوات التنظيف للحمامات، وإن ذلك يجري بالتنسيق مع إدارة المسجد.
يروي إمام مسجد الإمام الشافعي وخطيبه، الشيخ سيد عنتر، أن العديد من الزوار من داخل مصر وخارجها يقصدون المكان للتبرّك بمقام الإمام الشافعي.
يستنكر أخذ الأموال من المصلين، مقابل حفظ أحذيتهم وأمتعتهم، مؤكداً أن هذا ليس مقبولاً على الإطلاق، وأن مَن يقفون على أبواب حمامات المسجد لأخذ الأموال، ليسوا موظفين في وزارة الأوقاف، ولكنهم أشخاص وصفهم بـ"الغلابة"، يلجأون إلى ذلك بدلاً من التسول، والنقود التي يجمعونها يأخذونها لأنفسهم، ولكن "في كل الأحوال لا أحد من المصلين مجبر على دفع شيء مقابل قضاء الحاجة، أو الوضوء وحفظ الأحذية، فهذه خدمات مجانية في كل المساجد".
ويقول عنتر إن "وزارة الأوقاف ليست لها صلة بهذا الأمر، وإذا تلقّت شكوى أو بلاغاً عن شخص يجبر المصلين على الدفع، تتعامل معها فوراً وتحاسبه"، ويلفت إلى أن "الأشخاص الذين يجمعون النقود بزعم أنها تبرعات للمسجد، ليسوا صادقين، لأن الأوقاف منعت التبرعات في المساجد نهائياً، حتى من خلال الصناديق، وجعلتها من خلال حساباتها المصرفية فحسب".
في الأحياء "الراقية"
تترك المشاهد المذكورة آثاراً سلبيةً في أذهان الوافدين من بلاد خارجية بغرض الدراسة أو السياحة. الشاب الإندونيسي عمر الذي قدم إلى مصر بغرض الدراسة في كلية الدعوة في جامعة الأزهر، يقول إن "الأمر يبدو غريباً ولم أرَه إلا في مصر".
"في المرة الأولى التي طلب منّي أحدهم فيها أموالاً، لبّيت طلبه، ولكن مع مرور الوقت والتعايش في مصر، تأكدت من أن هؤلاء الأشخاص يجنون هذه الأموال لأنفسهم، لا للمساجد، وشعرت حينها بالأسف الشديد، ومنذ ذلك الحين أجلب معي كيساً بلاستيكياً أضع فيه متعلقاتي حتى أنتهي من الصلاة"، يروي.
الأمر لا يقتصر على الأحياء الشعبية في مصر القديمة، بل يحدث في الأحياء "الراقية" أيضاً. ففي مسجد عمر مكرم في التحرير، يمارَس السلوك نفسه، ولكن باختلاف الكيفية. عند دخولك، ترى رجلاً يشبه السابقين في الهيئة وكبر السن، يجلس عند حاملات الأحذية، وبجواره "كرتونة" صغيرة، ينتظرك حتى تقضي حاجتك وتصلي وتجلس كما تشاء في المسجد، وعند خروجك يهمس لك بصوتٍ خافت، ويتظاهر ببعض الخجل: ضع ما تستطيع أن تضعه من الأموال في هذه الكرتونة، وجزاك الله خيراً، ثم ينتظر وبيده متعلقاتك ليشاهد ماذا ستفعل.
لا يقترح "تسعيرةً"، وطموحه يصل إلى أكثر من خمسة جنيهات، بحكم الوضع الاجتماعي لأبناء المنطقة.
يعلق المتحدث الرسمي باسم وزارة الأوقاف، الدكتور عبد الله حسن، على ظاهرة أخذ الأموال من المواطنين في المساجد مقابل حفظ الأحذية، بأنها مخالفة صريحة لتعليمات الوزارة، لأن خدمة حفظ الأحذية، مجانية في جميع مساجد الجمهورية.
ويضيف أن جميع التعليمات التي تصدرها الوزارة تكون من خلال صفحتها الرسمية وموقعها الرسمي، وقد أعلنّا من قبل أن هذه الخدمة مجانية، ولا تتقاضى الوزارة عليها أي أجر من المصلين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...