من المؤلم حقاً سماع تلك الأخبار التي تتناقلها وكالات الأنباء بكثرة في الآونة الأخيرة، حول العثور على أطفال رضّع تخلّى عنهم أهلهم في محافظات سورية عدة.
بدأت الحكاية مطلع هذا العام، مع طفلة وُجدَت على باب مستشفى حكومي في محافظة اللاذقية، بتاريخ 8 كانون الثاني/ يناير 2022، وأطلق عليها الأطباء لاحقاً اسم "روح"، ثم بعد أيام، في الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير 2022، عُثر على طفل لا يتجاوز الشهرين من العمر في مدخل أحد الأبنية في ضاحية "أبي الفداء"، في محافظة حماة (كُتِبَ على ورقة بجانبه "ابن حلال").
وبعد أربعة أيام من حادثة حماة، وُجِدَ طفل رضيع قُدِّر عمره بنحو أربعين يوماً فقط، أمام أحد الأبنية في حي "الخضر" في مدينة حمص، ثم جرى تحويله إلى مركز للرعاية وفق ما أفاد مدير مستشفى الباسل في حي "كرم اللوز".
وكان قد سبق هذه الأحداث المؤلمة عثور الأهالي على طفل رضيع بجانب الشارع في حي "الجميلية" في مدينة حلب، في بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر من العام الفائت 2021، وهناك الكثير أيضاً من الحوادث المشابهة في أماكن مختلفة على مساحة سوريا.
لم يسمح لنا ظرف "مرام" بأن نعرف حولها الكثير، فهي لم تشاركنا في الرحلات الترفيهية التي كانت تقوم بها المدرسة، لأنها كانت تتطلّب دفع الرسوم غير المتوفرة لديها، كما أنها لم تكن يوماً حاضرةً في الزيارات التي نتبادلها في الأعياد، أو بين وقت وآخر
حين أسمع بمثل هذه الأخبار المتواترة بين الحين والآخر، لا يمكنني منع نفسي من تذكّر صديقتي "مرام"، أيام المدرسة. هذا التزايد المريب والمخيف في مثل هذا النوع من الحالات يعيدني إلى مراحل الدراسة الابتدائية، إلى تلك الفتاة التي كانت تجلس في المقعد الأخير من الصف، والتي كانت خجولةً جداً وقليلة الكلام.
في تلك الأيام، لم نكن نعرف نحن أبناء الصف الواحد الكثير من المعلومات عن "مرام". جُلّ معرفتنا بها أنها كانت تعيش في سكن مشترك مع أطفال آخرين.
ولم يسمح لنا ظرفها بأن نعرف حولها الكثير، فهي لم تشاركنا في الرحلات الترفيهية التي كانت تقوم بها المدرسة، لأنها كانت تتطلّب دفع الرسوم غير المتوفرة لديها، كما أنها لم تكن يوماً حاضرةً في الزيارات التي نتبادلها في الأعياد، أو بين وقت وآخر. كانت حياتها بالمختصر: من "الميتم" إلى المدرسة، وبالعكس.
"مرام"، كما عَرفتُ لاحقاً، يتيمة، وليست مجهولة النسب. وحين جمعتني الصدفة بها قبل نحو أربعة أعوام في أحد المقاهي الشعبية في دمشق، شرحت لي عن الفارق بين الحالتين، ونظرة المجتمع إلى كلّ منهما، لتؤكد لي في النهاية أن نظرة المجتمع إلى اليتيمة نظرة تعاطف وشفقة، أما مجهولة النسب فتُعدّ وفق وصفها "خطيئةً" في عرف المجتمع، ويحاول الجميع تجاهلها، أو التعامل معها بحذر.
وفي ذلك اللقاء الذي لم يتكرر بعدها، أوضحت لي أنها تسكن في منزل قريبة لها، وهي سيدة مسنّة باتت وحيدةً بعد سفر أبنائها، فأسكنتها معها، مقابل رعايتها والاعتناء بالمنزل. وفهمت منها أيضاً أنها لم تتزوج، وأنها تعمل في محل لبيع الإكسسوارات ومستحضرات التجميل النسائية.
وفي الحقيقة كان فضولي يدفعني للكثير من الأسئلة في ذلك الحين، لكن تفادياً لحدوث أي إحراجات لها، حاولت جاهداً عدم الخوض في تفاصيل حياتها. إلّا أنها سردت لي بعضاً ممّا حصل معها حين أحبّت شاباً رفض أهله أن يقوم بالزواج منها، وذلك "خوفاً من العار الذي سيلحق بسمعة العائلة إن عرف أحد أن أحد أفرادها تزوج من فتاة تربّت في ميتم"!
أتذكر الآن حديثها هذا، وأنا أسمع هذه الأنباء الجديدة والمتواترة عن الأطفال، وأسأل نفسي: تُرى ما هو مستقبل هؤلاء الأطفال في البلاد؟ وكيف من الممكن تغيير نظرة المجتمع إليهم؟!
وفي ضوء معرفتي بحجم المعاناة التي تكبدتها صديقتي "مرام" عبر مسار حياتها، أحاول تخيّل شكل الحياة التي تنتظر "روح" ومئات الأطفال، أو ربما الآلاف، ممّن أنتجتهم هذه الحرب اللعينة.
وفي الحقيقة، عند محاولة التفكير في الحلّ، لا يجد المهتم بالأمر بديلاً من وجود نظام رعاية وضمان اقتصادي-اجتماعي يقدّم يد العون لمثل هؤلاء الأطفال/ الضحايا، وهذا ما لم تحظَ به بلادنا حتى اللحظة مع الأسف. لا بُدّ من وجود نظام رعاية مُدار ومدعوم من قبل جهاز الدولة، ومهيّأ بالكوادر والتجهيزات التي تتيح تأمين حدٍّ لائقٍ من العيش الكريم لهؤلاء الأطفال، على أن يكون هذا مقروناً بالتعليم الإلزامي والمجاني بطبيعة الحال. بالإضافة إلى ضرورة تنمية مهاراتهم ومعارفهم، التي تبني منهم جيلاً منتجاً يساهم إلى جانب بقية أفراد المجتمع في بناء البلاد ودفع عجلة الحياة فيها.
وجود نظام رعاية وضمان اجتماعيين لهؤلاء وغيرهم، ضرورة منذ زمن بعيد في سوريا، لكن تعاظم أعداد مثل هذه الحالات من اليتامى ومجهولي النسب يجعل هذه الضرورة مضاعفةً في مثل هذه الأيام
المشكلة أنه حتى في سنوات ما قبل الحرب، كان الأمر مقتصراً على عدد من دور رعاية الأيتام التي تعود ملكيتها إلى بعض الجمعيات الخيرية، أي بمعنى آخر هي خارج إطار القطاع العام وجهاز الدولة ومؤسساتها، وهي تأوي الأطفال في ظروف غير مناسبة في غالبية الأحيان، ولها مشكلاتها المتعلقة بمحدودية الاستيعاب، غير أن تجهيزاتها وكوادرها ليست على النحو المطلوب.
وجود نظام رعاية وضمان اجتماعيين لهؤلاء وغيرهم، ضرورة منذ زمن بعيد في سوريا، لكن تعاظم أعداد مثل هذه الحالات من اليتامى ومجهولي النسب يجعل هذه الضرورة مضاعفةً في مثل هذه الأيام.
وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى أن الدستور السوري المعمول به حالياً، ينص في مادته الـ46 على التالي: "تكفل الدولة كل مواطن وأسرته في حالات المرض واليتم والعجز والشيخوخة، وتحمي الدولة صحة المواطنين، وتوفر لهم وسائل الوقاية والمعالجة والتداوي". وعليه فإن غياب الضمان الاجتماعي لهؤلاء الأيتام، مخالفة موصوفة للدستور!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...