شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"حملن أسماءً جديدةً كي تلائم المجتمع"... "سلطانات" الأرمن في عفرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 2 فبراير 202201:43 م

تحتفظ ذاكرتي بملامح امرأة عجوز سمحة، بيضاء البشرة، وجهها ناعم كالحرير، قصيرة القامة، مستقيمة القوام، ترتدي غطاءً أبيض على رأسها، ونظاراتٍ أكبر من أن تلائم وجهها البشوش والمرح، تطرق بابنا كلما ضاقت بها الحياة، وتجالس أمي في المطبخ بأحاديثها الهادئة.

إنها الجدة سلطانة، هكذا عرفتها في طفولتي. أتذكر أني رأيتها أكثر من مرة تبكي بهدوء من دون أن أفهم ما تتحدث عنه لأمي.

وذات يوم اختفت، وامتلأ منزل جيراننا بالمعزّين. ماتت الجدة سلطانة، من دون أن أفهم غيابها، وأدرك سبب اهتمام أمي بها، ورعايتها لها بشكل مختلف عن بقية جيراننا، حتى كبرت وعرفت أن الجدة سلطانة هي فتاة أرمنية كانت تحنّ كل الوقت لأهلها وديارها، بعد أن هربت ووصلت لتقيم لدى عائلة كردية في بلدة جنديرس، ومن ثم تأتي بها الأيام مع ابنها المتزوج وأولاده لتسكن في حارتنا في حلب.

هكذا بدأت أبحث عن غيرها من الفتيات الأرمن اللواتي تزوجن من كرد، وحملن أسماءً جديدةً كي تلائم المجتمع الذي آواهنّ بعد النزوح والهروب من بطش المذابح التي ارتُكبت بحقهم/ ن، حتى نعرفت إلى آركسين المعروفة باسمها الثاني، سلطانة أيضاً.

"هربت آركسين، وهي طفلة لا تبلغ 13 عاماً، مع خالتها وابن خالتها، حتى وصلت إلى قريتنا، وآوتهم عائلة كردية، وأعطتهم غرفةً أقاموا فيها لفترة، حتى زوّجوها من شاب عُرف بلقب كبك، وهو تحريف لاسم طائر الحجل بالكردية، وصار اسمها سلطانة".

كثيرة هي قصص الفتيات الأرمنيات اللواتي هربن من بطش المذابح التركية، مطلع القرن الماضي.

يتذكر إبراهيم نعسان، الخمسيني، من أبناء قرية جقماقة في منطقة جيايي كورمينج، أي جبل الكرد / عفرين في ريف حلب الشمالي الغربي، جدّته الأرمنية، وكيف كانت تتميز بجمالها الأشقر، وبشرتها البيضاء، وشخصيتها الهادئة والمسالمة كما عرفها الجميع.

"هربت مع خالتها"

يسرد إبراهيم، الذي ورث عيونها العسلية، تفاصيل هروبها، فيقول لرصيف22: "كانت جدتي سلطانة من عائلة غنية في بلدها، وحقيقةً لا أعرف من أي منطقة هي بالتحديد في تركيا الحالية. كان والدها القصّاب من المجاهدين، وعندما جاء الدرك العثماني، وفتش المنزل، وجد فيه أسلحةً، فذبحوا جميع أفراد العائلة، لكن الطفلة آركسين استطاعت الهرب، ولجأت إلى خالتها. لم تستطِع الخالة البقاء في البلدة، فنزحت مع ابنها أنطوان وابنة أختها آركسين ومع بعض أقربائهم وبقية الأرمن وتوجهوا نحو الجنوب، حتى وصلوا إلى قريتنا".

تزوجت الفتاة اليافعة كما بقية الفتيات اللواتي وصلن إلى منطقة جياي كورمينج، من شخص كردي سمّاها سلطانة، وأسلمت وصار لديها صبيان هما رشيد وحسن، وبعد مدة توفي زوجها، فتزوجت من أحد أقربائه ويدعى قادر نعسو، وأنجبت منه صبياً وابنةً، هما شيخو والد إبراهيم، وزهيدة "زايدة".

وكانت سلطانة تحب زوجها الأول كبك، وتمدحه دائماً، وهو الذي كان يعزف لها على الطنبور أجمل الأغاني إن أراد أن يرضيها بعد خلاف، حتى أنه هجر زوجته الأولى الكردية لأجلها، على عكس زوجها الثاني قادر الذي تميّز بقسوته.

يقول إبراهيم إن اسمه على اسم أخيها أبراهام: "كان لها أخ هرب إلى روسيا، وبعد نحو 30 سنةً استطاعا التواصل مع بعضهما، وجاء إلى سوريا لرؤيتها، وعرض عليها السفر معه إلى روسيا، لكنها رفضت وفضّلت البقاء مع أولادها".

توفيت آركسين الأرمنية، أو سلطانة الكردية عام 1983، ودُفنت في مزار حنّان المعروف، والقريب من بلدة كفرجنة السياحية في جبل الكرد، وللأسف بقيت صورها في المنزل الريفي، ولم يستطع إبراهيم أن ينقذ الألبوم وغيره من ممتلكات منزله بعد تهجيره منه في آذار/ مارس 2018، إثر العمليات العسكرية التي قادتها تركيا في مناطق ريف حلب الشمالي.

تزوجت الفتاة اليافعة كما بقية الفتيات اللواتي وصلن إلى منطقة جياي كورمينج، من شخص كردي سمّاها سلطانة، وأسلمت وصار لديها صبيان هما رشيد وحسن، وبعد مدة توفي زوجها، فتزوجت من أحد أقربائه ويدعى قادر نعسو، وأنجبت منه صبياً وابنةً

جميل بحري باشا

كثيرة هي قصص الفتيات الأرمنيات اللواتي هربن من بطش المذابح التركية، مطلع القرن الماضي. ففي بداية القرن العشرين، كان هناك نحو 2.5 مليون أرمني يعيشون في الإمبراطورية العثمانية، وكانت حياة القرويين وسكان المدن الأرمن فيها صعبةً، وغالباً ما يقعون ضحايا للعنف أو الاستيلاء على أراضيهم أو مواشيهم أو ممتلكاتهم، حسب دائرة المعارف البريطانية، إلا أن الجريمة الكبرى التي ارتكبها العثمانيون تسببت بمقتل مليون ونصف مليون أرمني عام 1915، أُعدموا وقُتلوا ذبحاً ونُكّل بجثثهم، وتعرضت نساؤهم للاغتصاب، ولاجتثاث الأعضاء.

رحلت بعض العائلات الأرمنية من عفرين إلى حلب، واستقرّوا هناك واندمجوا في المجتمع الحلبي.

في هذه الأثناء، كان الشاب الكردي جميل بحري باشا قائد الجيش العثماني في منطقة رها في كوردستان تركيا، وفي الوقت نفسه كان مسؤولاً عن مصنع السفن العثمانية. تمكّن من إنقاذ المئات من الأرمن الذين جاء بهم الجيش العثماني من جهة ديلوك، أو عنتاب، كرهائن إلى منطقة رها. قام جميل باشا برعايتهم، ولم يرسلهم إلى البادية السورية باتجاه مدينة دير الزور، كما كان مخططاً لهجرتهم، كي يلقوا حتفهم في البراري، بل أمّن فرص العمل للكثيرين منهم في المصانع التي كان يديرها، ثم أرسلهم إلى مناطق ومدن أخرى، مثل منبج وجرابلس وعفرين وحلب، بالإضافة إلى تأمين الطعام لعدد كبير منهم عن طريق الهلال الأحمر الدولي.

هو جميل بحري كنه باشا، من أهالي قرية هوبكا في جياي كورمينج، وُلد عام 1892 في مدينة حلب، ودرس في الأكاديمية البحرية العثمانية وأصبح ملازماً، ثم التحق بكلية الحقوق، وبعد إنهاء الدراسة فيها التحق بالجيش العثماني، وحسب دراسة لباحثين أرمن، تزوج من ابنة راهب أرمني اسمها ديكرانوهي كوليزيان، ومن المثير للاهتمام أنه على الرغم من كونه مسلماً، فإن زوجته حافظت على دينها المسيحي، وأنجبا فتاتين وولدين.

جميل بحري باشا

وفود جماعي

في قرية قطمة، وهي من القرى القديمة المعروفة في المنطقة، محطة قطار يعود تاريخها إلى العام 1912-1913، في أثناء مد الخط الحديدي عبر المنطقة، فأصبحت محطة عبور رئيسيةً على طريق سكة حديد الشرق السريع التي تصل الشرق بالغرب. وصلت المئات من العوائل الأرمنية إلى محطة قطمة عام 1915، وكانت من بينهم الفتاة الصغيرة التي عُرفت في ما بعد باسم خاتون.

يقول المسنّ الإيزيدي أبو كاميران، من أهالي قرية قطمة، لرصيف22: "في سفر برلك، وصل الأرمن إلى محطة قطمة، وتوزعوا على قرى المنطقة، مثل قطمة وسينكة وبافلون، وأتذكر أن قسماً منهم أتى من مرسين، وكانت من بينهم عائلة توفي الأب المريض فيها خلال رحلة نزوحهم بالقطار، ووصلت الأم مع ابنتيها. توفيت إحداهما بعد فترة، والأخرى ذات الأعوام الخمسة عشر تزوجها أحد أقربائنا، وسُجّلت الفتاة على اسم عائلتنا باسم خاتون. كانت ذكيةً تتحدث الأرمنية والتركية والكردية والعربية، ثم انتقلوا بعدها للسكن في حلب".

محطة قطمة

سكنت غالبية العوائل التي وصلت إلى منطقة عفرين في ناحية راجو وبلبل وشران، وما أن وضع الفرنسيون أساس مدينة عفرين عند نهرها، عام 1923، وأقاموا السرايا ودار القائمقام، حتى بدأ الأرمن يقيمون منازلهم حولها، وافتتحوا محالّهم في الشارع الرئيسي، وبنوا كنيستهم وافتتحوا روضةً لأطفالهم، ومن ثم قدِم قسم آخر بعد سلخ لواء إسكندرون عام 1939، وكاتن لهم نحو 200 عائلة في المنطقة.

يقول الكاتب جمعة عبد القادر في كتابه "عفرين أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين"، إن "الصورة التي أحملها عنهم صورة رائعة، مليئة بالمحبة والأخلاق والنبل. أهلي جميعاً تعلموا من جيراننا الأرمن اللغة التركية، لغة أولئك الذين شرّدوهم وقتلوهم. أما أشهر ما كانوا يصنعونه من العنب، فهو الباستيق والسنجق (الملبن)".

سكنت غالبية العوائل التي وصلت إلى منطقة عفرين في ناحية راجو وبلبل وشران، وما أن وضع الفرنسيون أساس مدينة عفرين عند نهرها، عام 1923، وأقاموا السرايا ودار القائمقام، حتى بدأ الأرمن يقيمون منازلهم حولها، وافتتحوا محالّهم في الشارع الرئيسي، وبنوا كنيستهم وافتتحوا روضةً لأطفالهم

مارس الأرمن إلى جانب الصناعات الغذائية عمل الحدادة والنحاس وتبييض الأواني، كما افتتحوا أول معمل للعرق في المنطقة عام 1927.

وفي أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، وبعد الحرب العالمية الثانية، وجّه الرئيس الروسي جوزيف ستالين، نداءً إلى الأرمن المهجّرين من أرمينيا التركية إلى كل أصقاع العالم، للمجيء إلى أرمينيا السوفياتية، وقد لبّى كثيرون منهم الدعوة، ومنهم أرمن عفرین، فباعوا على عجل بيوتهم، وأشياءهم الثمينة والرخيصة، وتركوا ذكرياتهم خلفهم ملبّين دعوة الوطن والأشقاء الأرمن، وفق ما يقول الكاتب عبد القادر.

في الوقت ذاته، بقيت بعض الأسر زمناً في المنطقة، ثم رحلت مثلها مثل الشابة خاتون إلى حلب، واستقرّوا هناك واندمجوا في المجتمع الحلبي، إلا أن بعضهم حافظ على مكان عمله في عفرين، مثل هاروت الحداد، ونوريك الصايغ، أما خاتون فلم تعد إلى عفرين، واختفت أخبارها وفق ما قاله أبو كاميران.

ولم يبقَ سوى الستيني، هاروت كيفورك، آخر أرمني كان يعيش مع عائلته في عفرين، وكانت له محالّ للأدوات الزراعية والمنزلية في شارع عفرين القديمة، وكان وابنه كيفورك الذي كنّا ندعوه "كيفو" باللكنة الكردية، يستقبلنا في محله بابتسامة كبيرة، ويتحدث الكردية والعربية بشكل جيد، حتى فقدنا أثر بعضنا مع تهجيرنا من المنطقة قبل نحو أربعة أعوام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image