وسط حرب كلامية تصاعدت خلال الأشهر القليلة الماضية بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، كان يحضر فيها الملف الليبي تارة والسوري تارة أخرى، أتت تهنئة الأول للمؤرخ التركي تانير أكشام، في 30 كانون الثاني/ يناير، لتعبّر بشكل أوضح عن الحساسية بين الرجلين.
"أوامر بالقتل: برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية" هو الكتاب الذي أصدره أكشام عام 2018، والذي تسلّم على أساسه "ميدالية الشجاعة" من ماكرون خلال عشاء للمجلس التنسيقي للمنظمات الأرمنية في فرنسا.
احتفى ماكرون بالكاتب الذي "فضح الإنكار التركي للإبادة"، وبالكتاب الذي "يُعدّ إقراراً علمياً بوجود نية واضحة لتنفيذ جريمة منظمة، ما يسمح بالعمل على التاريخ والذاكرة وتحقيق العدالة".
عمل أكشام لسنوات طويلة على توثيق الدور التركي في الإبادة الأرمنية، ووصل عمله إلى ذروته في كتابه "أوامر بالقتل" حتى وصفه البعض بأنه "شيرلوك هولمز الإبادة الأرمنية"، بينما كتبت المؤرخة المهتمة بالإبادة آنيت بايكر مقدمة الكتاب ووصفته بـ"قصة تشويق".
"الدليل الدامغ"
أحدث الكتاب "زلزالاً في عالم دراسات الإبادة الأرمنية"، كما كتبت "جامعة كلارك" التي يدرّس فيها أكشام منذ عام 2000، مشيرة إلى أن مفارقة الكتاب أنه ليس أرمنياً بل هو كتاب تركي ينسف سردية الإنكار التركي للإبادة.
الضجة التي خلقها الكتاب تعود بشكل أساسي إلى ما ذكره المؤرخ التركي في مقابلات عدة حول عثوره على ما يُوصف في سياق قانوني بـ"smoking gun" (الترجمة الحرفية: المسدس الذي يصدر دخاناً)، أي الدليل الدامغ على جريمة معيّنة.
في الكتاب وثيقة اكتشفها المؤرخ التركي تشير إلى الدور المركزي الذي لعبته الحكومة العثمانية في التخطيط للقضاء على السكان الأرمن، مظهرة أن أوامر القتل التي وقعها وزير الداخلية العثماني آنذاك طلعت باشا صحيحة، على عكس ما تزعمه الرواية التركية التي كرّست جهوداً كبيرة للتشكيك في صحة البرقيات التي تضمنت الأوامر ونُشرت سابقاً.
وفي "أوامر القتل" يوثّق المؤرخ التركي مسؤولية جمعية "تركيا الفتاة" من خلال رئيسها بهاء الدين شاكر في المذابح بحق الأرمن، عام 1915. ووفقاً للتقديرات، قُتل ما بين 1.2 مليون و1.5 مليون أرمني أثناء الحرب العالمية الأولى على أيدي قوات السلطنة العثمانية المتحالفة آنذاك مع ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية.
وثيقة اكتشفها المؤرخ التركي تانير أكشام تشير إلى الدور المركزي الذي لعبته الحكومة العثمانية في التخطيط للقضاء على الأرمن، وأظهرت أن أوامر القتل التي وقعها وزير الداخلية طلعت باشا صحيحة... قصة "الدليل الدامغ" الذي نسف السردية التركية
وكانت أكثر من ثلاثين دولة بينها فرنسا قد اعترفت عام 2001 بالإبادة الأرمنية، في حين ترفض تركيا ذلك الوصف مكتفية بالقول إن ما حصل كان حرباً أهلية أدت إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني وتركي، وذلك رغم تأكيد مؤرخين وأكاديميين على أن ما شهده الأرمن آنذاك يستوفي التعريف القانوني لمفهوم الإبادة.
نعود إلى "قصة التشويق" تلك، والتي بدأت من مكتب في مدينة أرضروم التركية، حين أرسل المسؤول رفيع المستوى في الإمبراطورية العثمانية (شاكر) برقية سرية لأحد زملائه في الميدان، طالباً فيها تفاصيل حول عمليات ترحيل وقتل الأرمن في شرق الأناضول، الجزء الشرقي الأقصى في تركيا المعاصرة.
لاحقاً، لعبت هذه الوثيقة دوراً في إدانة شاكر بالتخطيط لقتل أكثر من مليون أرمني، لكن بعدها اختفت معظم الوثائق والشهادات في المحاكم ببساطة شديدة، من دون أن تترك للباحثين خياراً سوى الاعتماد على الصحف العثمانية الرسمية.
الكاهن كريكور غيرغيريان... بطل القصة
أين كانت الوثيقة طوال كل تلك السنوات وكيف تمكن أكشام من إيجادها فهذه قصة بحد ذاتها، نقلتها عنه صحيفة "نيويورك تايمز" وقت صدور الكتاب.
في عام 1922، عمدت الجهات الأرمنية في إسطنبول إلى شحن 24 صندوقاً من وثائق المحاكمات لحفظها في إنكلترا. وهناك، حُفظت من قبل أسقف نقلها لاحقاً إلى فرنسا ومنها نُقلت إلى القدس.
ومنذ الثلاثينيات، بقيت الوثائق محفوظة في البطريركية الأرمنية في القدس كجزء من أرشيف ضخم كان محجوباً على الباحثين لأسباب غير واضحة، وقد حاول أكشام الوصول إليه مراراً لكن دون جدوى.
بعد وصوله إلى "جامعة كلارك" تعرّف أكشام إلى إدموند غيرغيريان في مؤتمر في نيويورك، ونصحه الأخير بالتوجه إلى "الجمعية الأرمنية الأمريكية" التي تحفظ لديها سجلات تعود لعم غيرغيريان. ما وجده أكشام في الجمعية يشكل مدخلاً لنقاش آخر حول السردية التركية سنعود إليه لاحقاً في هذا النص.
ثمة صورة لوثيقة كان يملكها إدموند من أرشيف القدس دفعت المؤرخ للتعمق في البحث، لتتحوّل إلى "الدليل الدامغ" ويتحول عم إدموند إلى "بطل" القصة.
العم هو الكاهن الأرمني الناجي من الإبادة كريكور غيرغيريان، المولود عام 1911 والمتوفي عام 1988. أثناء تقفيه لآثار ما جرى مع الأرمن، وصل إلى القاهرة في الأربعينيات وهناك التقى بالرئيس السابق للمحكمة العسكرية في إسطنبول مصطفى باشا. كان الأخير قد تولى قضية أعضاء من "تركيا الفتاة" بعد اتهامهم بارتكاب انتهاكات بحق الأرمن عام 1919. وقد أخبر مصطفى باشا الكاهن بوجود وثائق في القدس، ما دفع الأخير للتوجه إلى هناك بصفة مراسل، وقد استطاع تصوير كل الوثائق.
"هل تخلصتم من الأرمن؟"
كانت الوثيقة التي وجدها أكشام مروّسة بختم عثماني ومشفرة بأرقام أربعة، وحين قارنها برموز أرشيف أيام السلطنة العثمانية وجد أنها متطابقة.
"هل تخلصتم من الأرمن بعد إبعادهم من هناك؟ وهل جرت تصفية الأشخاص العدائيين الذين أُبعدوا ضمن موجة الترحيل أم أنهم هُجّروا بكل بساطة؟ أرجو أن تكون صادقاً"... قصة "الدليل الدامغ" الذي وجده المؤرخ التركي وأثبت من خلاله ضلوع بلده في إبادة الأرمن
تعود الوثيقة إلى 4 تموز/ يوليو من عام 1914، وكان قد أرسلها شاكر وجاء فيها: "هل تخلصتم من الأرمن بعد إبعادهم من هناك؟ وهل جرت تصفية الأشخاص العدائيين الذين أُبعِدوا في خضم موجة الترحيل أم أنهم هُجّروا بكل بساطة؟ أرجو أن تكون صادقاً في تقريرك". كانت برقية شاكر مشفّرة بنظام مؤلف من أربعة أرقام عربية، أما عن مطابقتها فتمت من خلال وثائق حصل عليها أكشام عام 2016 من وزارة الداخلية التركية حين كان لا يزال بإمكانه زيارة تركيا.
وفي الوثائق التي وجدها أكشام في أرشيف الكاهن الخاص، وردت "مذكرات نعيم أفندي"، وهو موظف عثماني كان قد باع أكثر من 20 وثيقة عثمانية وبرقيات صادرة عن وزارة الداخلية للأرمني آرام أندونيان الذي نشر بعضاً منها عام 1920. أندونيان أصبح لاحقاً مدير مكتبة "نوبار" الباريسية التي ساهمت في حفظ الذاكرة الأرمنية.
وضع الجانب التركي جهده عبر فريق من الباحثين لنسف كتاب أندونيان، فشكّك في أن يكون نعيم أفندي شخصاً حقيقياً، ملمحاً إلى أن برقيات طلعت باشا قد زوّرها أندونيان بنفسه.
في الأرشيف الأرمني في نيويورك إذاً، وجد أكشام مذكرات نعيم أفندي، وكان قد نسخها الكاهن غيرغيريان حين قادته أبحاثه إلى نوبار في باريس. كان ذلك قبل أن يختفي أثر المذكرات في السبعينيات ويموت صاحب المكتبة والكتاب.
من خلال أبحاثه، استطاع أكشام دحض الادعاءين التركيين، فأثبت أن أفندي شخص حقيقي من خلال وثائق أظهرت عمله كمسؤول عن عمليات الترحيل في مخيم مسكنة، وشارك في عمليات الترحيل الشهيرة تاريخياً في حلب. وكان أندونيان قد وصفه بالشخص المفلس والسكير الذي باعه الوثائق.
أما في ما يخص اتهام الأتراك لأندونيان بتزوير برقيات طلعت باشا، فعمل أكشام بجهد كبير على إثبات أصالتها، وبعد مراجعة لآلاف البرقيات التي أرسلتها الحكومة العثمانية، منها برقيات من وزير الداخلية بين عامي 1914 و1918، نسف ادعاء الأتراك حول طرق التشفير وقتها والذي استخدموه لدحض رواية أندونيان.
وبالنسبة للمؤرخين، كانت وثائق المحكمة نقطة في بحر الأدلة التي ظهرت مع السنوات - من بينها، تقارير دبلوماسيين بلغات مختلفة، بعثات، صحافيين شهدوا على الأحداث، وكلها دفعتهم للقول بأن ما شهده الأرمن كان مذبحة تصل حد الإبادة.
ولكن ما الذي جعل أكشام التركي مهتماً بهذا القدر في إثبات ضلوع تركيا في الإبادة؟ أجاب المؤرخ مراراً بأن وظيفته تحتم عليه تثقيف الأجيال الجديدة، وهو إنْ كان يدرك أن التاريخ في منطقة الشرق الأوسط لم يصبح تاريخاً بعد وإنما هو حاضر، فهو مقتنع بأن تركيا لا يمكنها الوصول للديمقراطية ما لم تواجه ماضيها.
"لا ينبغي أن يكون قول الحقيقة فعلاً يستحق الثناء أو عملاً شجاعاً ومثالياً، بقدر ما ينبغي تحويله إلى فعل يومي عادي"، قالها أكشام قبل أشهر قليلة عند استلامه لجائزة أرمنية مرموقة مهدياً الكثير من عمله إلى صديقه الأرمني هرانت دينك الذي قُتل عام 2007، "فقط لأنه أرمني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...