شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
صوت تكّة مفتاح أبويا

صوت تكّة مفتاح أبويا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 12 فبراير 202201:39 م


 الخارج إلى الضوء


"تكة مفتاح أبويا

صوت

معناه

هيدخل يجُرّ أمي من شعرها،

ويرميها

في الشارع

قدام الناس".

"لم يخترني أحد

قط

لم يحبني أحد

قط

حتى أنا

لا أحب نفسي

قط".

"كثيرون/ات مثلي، الجميع يخطئ، كم من فتاة سمعتها تعبر عن كراهيتها لأمها، وأخريات نشجن وأنا أتلو حكاياتي في جلسات العلاج النفسي الجماعية".

حكت لي ليلى، وهي ترى أن ما مرت به لا يمثلها فقط، ولكن يشمل أخريات، تجارب ووجهات نظر لم ترها في مقالات، أو أفلام ومسلسلات أو حتى برامج "التوك شو".

شددت علي أن أكتب حكايتها كما روتها، آملة ألّا أقصّ منه شيئاً، هل أفعل ذلك؟ هل أستطيع؟ لقد استمر حديثنا لثلاث ساعات، كما لو أنني أراها وأسمعها لأول مرة.

ما جعلني أرغب في سماعها والكتابة عنها، هي التي لم تتخطّ الـ 26 عاماً، دخلت في علاقات مفتوحة ومتنوعة الأشكال مع رجال مختلفين، مدة كل علاقة قصيرة، أقصرها بضعة أيام، وأطولها امتدّ لستة أشهر، باستثناء علاقتها الأولى وهي قاصر، استمرت لثلاث سنوات.

فهل هذا أمر طبيعي لفتاة من أسرة عادية تنتمي للطبقة المتوسطة؟

أيُّ إجابة غير طبيعية تنتظرني في هذه الحكاية.

النهاية

تعاني ليلى منذ الصغر من مشكلات مع أهلها، أتذكر ما حكته لي قديماً: "أبي رجل مضطرب، شكّاك، اعتدت على رؤية أمي مضروبة ومهانة دون أن تردّ عليه، أو تتخذ موقفاً".

تذكرتُ منشور الطبيب النفسي، أحمد أبو الوفا، قرأت فيه لإحداهن تلك الجملة: "باكره صوت تكة مفتاحه"، قلت لليلى ذلك، فوجدتها تؤكد على الجملة، مستأنفة: "صوت تكة مفتاح أبويا معناه هيدخل يجُر أمي من شعرها، ويرميها قدام الناس في الشارع".

"صوت تكة مفتاح أبويا معناه هيدخل يجُرّ أمي من شعرها، ويرميها في الشارع قدام الناس"

في مناخ نفسي مسمم تنفسته في طفولتها، وكبرت فيه وبه، دفعها لمحاولة التمرد عليه، والتحرر منه، وكان أقرب الأبواب التي قد يحرر صوت صريره أذنها من "تكة مفتاح" أبيها…

ذات قابلة للحب

"ابن صديقة أمي الذي أحببته في مراهقتي، تركني من أجل صديقتي، ولهذا دخلت بعده في علاقة مع شخص آخر، كنت متأكدة أنه لا يحبني، لكني كنتُ في حاجة إليه، لكي يشعرني أنني ذات قابلة للحب".

فتحت ليلى الباب، ليصبح أبواباً، علّ أصوات المغازلات والتنهدات أن تُمحي صوت اعتداء الأب وصراخ الأم، تسترسل في حكاياتها، من واحدة لأخرى، "هناك شخص أحببته من اللحظة الأولى، تعرفتُ عليه منذ ست سنوات، يظهر في حياتي ويختفي كما يروق له، يرميني بالشهور، ثم يأتي ويقول لي: "وحشتيني".

"لا يمكن أن يكون هذا حضن من شخص لا يحب"

يحتضني بلهفة، فأقول لنفسي: "لا يمكن أن يكون هذا حضن من شخص لا يحب بشكل حقيقي".

ولكن أفعاله تقول أنه لا يحب بشكل حقيقي.

يتركني، ويرتبط بغيري، حتى آمنت أنه لا يحبني".

"آخر شخص مرّ على حياتي، قال لي بفتور بعد أن مارسنا الجنس سوية: كنت أرغب في معرفتك، والآن عرفتك".

"لم يخترني أحد قط، لم يحبني أحد قط كحبيبة أو صديقة، حتى أنا لا أحب نفسي، فعلاقة الصداقة الوحيدة في حياتي أعتقد أنها أتت بالمصادفة، لكن لم يخترني أحد، خاصة كحبيبة، لم أتخيل نفسي مثلاً خطيبة لأحدهم إلا مرة واحدة، كان شخصاً جيداً، ومع ذلك فشل الأمر".

"عندما كنت أفكر في رغبتي في الخطبة أو الزواج من أحدهم، كنت أجد ألف شيء يقول لي: لا، لن يحدث"، قالت مبتسمة/ متحسّرة، فخلعَت قلبي.

نمت وأنا أرتعش

"في سنتي الجامعية الأولى بذلت جهدي أن أكون الشخص الجيد الذي ترغبه أمي، التي طالما رأتني منذ صغري فتاة سيئة، تشك في أخلاقي، تماماً مثل أبي، رغم أني كنت دائماً تحت عينيها".

"قهرني انعدام الثقة"

"تسألني كثيراً بلا داعٍ: "بت أنتِ عملتي حاجة مع حد؟" كنتُ في كل مرة تسألني هذا السؤال، أشعر بالانكسار، كنت أرى أني شخص جيد، ولا أفعل هذا، قهرني انعدام الثقة".

"مرة، علمت أمي أني على علاقة بابن صديقتها، وأني أحدثه تلفونياً، عاملتني أسوأ معاملة، ونظرت لي نظرة الابنة التي تسببت في فضيحة لأهلها دون أن تحاول احتواء الأمر، رغم صغر سني وقتها".

"مرة أخرى، اتصلت أمي بخالي حتى يأتي ويضربني، بعد أن فلتت أعصابي مني، وضربتُها، دخل عليَّ خالي الحمام وأنا أستحم، وضربني… نمت هذه الليلة وأنا أرتعش".

لهذه الأحداث حاولت ليلى الهرب من البيت، تارةً وهي في سن صغيرة، لم تعرف أنَّى تذهب، فعادت، وتارةً أخرى هربت محاولة الانتحار ولكنها فشلت في ذلك أيضاً، وما كان من أمها سوى أن قالت لها: "بطلي الحركات الخايبة اللي بتعمليها دي".

ومن واقعة إلى أخرى، بدأتُ أرى صورة واضحة لعلاقة ليلى بأمها، فاتضح لي أن لأمها أيضاً يد في كل ما تتعرّض له، ليس أباها وحده المسؤول، الرجل الذي ألفت حياته الصلاة، وهذا ما ذكرته كمعلومة عابرة، لكن الأقسى ما سردته عليّ بعد ذلك، أشعر أحياناً أنها قالت ما قالته دون وعيٍ كافٍ، أو ربما شعرت أنها في حاجة إلى البوح، "أبي رجل مختل، أتذكر جيداً أنه كان يحب أن يلمس أماكن حساسة في جسدي، لا أتذكر فعلاً بعينه، لكني على يقين أنه يحب فعل هذا"، ثم أكملت، وكأنها تفكر، وتتساءل "أحياناً أقول لنفسي هل يمكن لرغبتي في إقامة علاقات كثيرة مرتبطة بأبي، أنه كان يفعل هذا معي؟".

"كنت أخشى على أخوتي، وكلهم صغار، أن يتحرش بهم، ربما وجودي كان يمنع حدوث هذا، فشعوري بالمسؤولية تجاههم يمنعني من ترك البيت، أخاف مثلاً أن يفقد أبي صوابه ذات يوم، ويضرب أحدهم حتى الموت".

تحليل الطب النفسي

شخص الطبيب النفسي ليلى بأنها مصابة بـ "اضطراب الشخصية الحدية". حدثتنا عن هذا "الاضطراب" المعالجة النفسية شيماء العيسوي، موضحة: "اضطراب الشخصية الحدية مرض، يقف على خط فاصل بين الأمراض الذُهانية والأمراض العصابية، والفرق بين هذين النوعين من الأمراض هو الإدراك، والقدرة على التحكم في الواقع، فالمريض المُشخص بمرض ذُهاني، يفقد القدرة على الفصل بين الواقع والخيال، لذا فمرض اضطراب الشخصية الحدية يأخذ من الأمراض العصابية الإدراك، ومن الذُهانية الاندفاعية، وعدم التحكم في المشاعر".

"مشكلة اضطراب الشخصية الحدية أنه أُضيف حديثاً للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، التي تصدره الجمعية الأمريكية لعلم النفس، لذا لم يكتب عنه سوى أبحاث تفتقر للكثرة والدقة، فهو مرض يحمل سمات أمراض عصابية مثل القلق والاكتئاب، وسمات من أمراض أخرى مثل الذُهان، وفي الأغلب هو اضطراب يبدأ ويتطور منذ الصغر، فمثلاً إن لم يعالَج الأطفال الذين يعانون من فرط الحركة بشكل صحيح قد يتطور الأمر فيما بعد لأمراض أخرى، منها اضطراب الشخصية الحدية".

"ضربت أمي، بعد أن فلتت أعصابي مني… دخل عليَّ خالي الحمام وأنا أستحم، وضربني… نمت تلك الليلة وأنا أرتعش"... مجاز في رصيف22

"ومنعاً للتشخيص الخاطئ"، تقول العيسوي، "لا بد للطبيب أو المعالج أن يتأكد تماماً من تشخيصه، فمثلاً من الأعراض السائدة لهذا المرض إيذاء النفس عن طريق جرح اليد والقدم أو نتف الشعر أو تعاطي الكحوليات والمخدرات بجرعات زائدة عن الحد". في إشارة منها أن "هوس نتف الشعر" في أحيان أخرى يصبح مرضاً مستقل بذاته.

بالفعل، شُخّصت ليلى أيضاً بمرض "هوس نتف الشعر"، فمنذ أن كانت في التاسعة من عمرها، وهي تقوم بنتف شعرها، ممّا دفعها لارتداء الحجاب في سن صغيرة.

تكمل ليلى: "من الأسباب التي جعلت أمي تهتم بذهابي إلى الطبيب النفسي، هو معالجة شعري، فلم تكن تتوقع أن أظل أفعل هذا بنفسي حتى سن السادسة والعشرين، فتخشى ألا أتزوج بسبب هذا، أقوم بنزع شعر رأسي دون وعي مني، وبسبب هذا أصبح جزء كبير من رأسي فارغاً تماماً، دون شعر".

"عندما سألني الطبيب: متى تفعلين هذا؟

قلتُ له: في أي وقت.

ويزداد الأمر سوءاً عندما أشعر بالضيق والحزن، أحس أني في حاجة إلى استدعاء ألم أشد من الألم الذي في داخلي حتى أتغلّب عليه، تماماً مثل مشاهدتي للأفلام الإباحية، وهذا أمر لم أخبر به أحد من قبل، لكني سأخبرك، أنني أشاهد الأفلام الإباحية منذ عام، أقاوم احتياجي العاطفي بنوع آخر من الهرمونات حتى أستطيع التغلب عليه، تعرفين متى فقدت رغبة مشاهدة الأفلام؟ عندما شعرت بعاطفة تجاه الإنسان الذي حكيت لكِ عنه، وتخيلت أنه يمكن أن يتزوجني".

البداية

الشعور بالله كان نقطة انطلاق حديث ليلى في بداية جلستنا معاً، لكن أخذنا الحديث لشعاب أُخَر، قاسية ومؤلمة، وفي النهاية عادت إلى الله من جديد.

ومض في عقلي وميض من ذكرى رواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ، حوار يشبه الحوار:

(ماذا عن إيمانك اليوم يا جعفر؟!

إني عاجز عن الكفر بالله).

وكان رد ليلى: "أشعر أن الله لا يحبني، ولا يصح أن أطلب منه شيئاً"، تشعر محدثتي بعد كل ما حكته/ فعلته بالخوف الشديد من الله، وتزدحم رأسها بتساؤلات: "هل بعد كل ما حكيته يمكن أن أعتبر نفسي ضحية، وقد يرحمني الله، أم لا يصح أن أكون ضحية بعد كل ما ارتكبت من المعاصي؟".

ويجر التساؤل الديني آخر: "هل محاولاتي أن أكون شخصاً جيداً مع الآخرين يمحي لي عند الله أني لا أصلي؟"، "هل يمكن أن يغفر الله كل ما فعلته، علاقات، شرب الكحوليات، السجائر، مشاهدة الأفلام الإباحية، وضربي لأبي وأمي، هل هذه أشياء تغتفر؟"

"تقول أمي لي: هل تعتقدين بعد ضربك لي أن الله سيرزقك في حياتك؟ مستحيل، وللأسف بداخلي ما يجعلني أصدقها بعض الشيء، فأشعر أن ذنوبي ثقلت عند الله، ولم يعد ينفع أن أطلب التوبة منه، أتذكر أني توقفت عن الصلاة بعد أن شربت الكحوليات، وعرفت أن الله لا يقبل الصلاة 40 يوماً عند تعاطي الخمور، لكني أتذكر أيضاً أني معظم حياتي كنت أصلي".

"لا أعرف كيف يرانا الله؟ هل كما تربيت فعلاً أن هناك أشياء لا تغتفر؟ رغم ذلك هناك لحظات أرغب أن يقول الله لي أنه يسمعني، ويحبني رغم كل ما أفعله، فأقول لنفسي سيأتي يوم وسأصبح شخصاً أفضل"، تقول ليلى، في آخر ذكرى لي من هذه الجلسة، تبدو عيناها شاردة، غارقة بين مشاعر مؤلمة، وأفكار قاسية، ربما تشبه أكثر مما تشبه صوت تكّة مفتاح أبيها.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image