تلف حول رأسها وشاحين كل صباح ليحمياها من الصقيع، ثم تلف حول خصرها الفوطة الطويلة مربعة الشكل، تحمل في ألوانها الثقافة الأمازيغية العريقة، ثم تضع فوقها حزام طويل يُسمى باللهجة القبائلية "أسارو" أو "أقوس"، دون أن تنسى قفتها الصغيرة المصنوعة من خشب الدوم من النوع التقليدي، هكذا تستعد كل صباح الخالة "تسعديت" للخروج إلى حقولها المتناثرة في أعالي جبال ذراع الميزان، الواقعة في محافظة تيزي وزو الجزائرية.
"مع زوجي بين أشجار الزيتون"
وعلى قارعة الطريق الرابط بين مقبرة سيدي منصور التاريخية، وحقول الزيتون الواقعة في أعالي قرية "طلالشة" بذراع الميزان، تستعيد الخالة تسعديت (60 عاماً)، في حديثها مع رصيف22، تفاصيل حياتها بصفتها امرأة ريفية، تقول إن كل أيامها متشابهة منذ طفولتها: تنهض في الصباح الباكر، تبدأ بالعمل بمجرد بزوغ أشعة الشمس، وتقضي اليوم بكامله وهي واقفة دون كلل أو توقف، هذه هي الحياة التي اعتادت عليها، ولم تجد لها بديلاً، خاصة وأنها تركت مقاعد الدراسة في سن مبكرة جداً.
"عزائي الوحيد رؤية أبنائي يدرسون".
وتضيف تسعديت: "كنت كل يوم أذهب مع زوجي بين أشجار الزيتون، والزرع، ورعي الأغنام، رغم قساوة الطبيعة في هذا المكان، ففي فصل الشتاء تنخفض درجة الحرارة إلى ما تحت الصفر، بينما ترتفع بشكل كبير في فصل الصيف، ويلتحق أبنائي الأربعة بالمدرسة، فعزائي الوحيد رؤيتهم يدرسون".
وتقول تسعديت: "كنت أمارس المهام الخشنة مع زوجي، فكنت ألقم الأشجار وأحرث الأرض وأزرعها، أجمع الزيتون وأعصره باستعمال الحجرتين البركانيتين العملاقتين، وهي الطريقة التقليدية".
هذه الأعمال الشاقة تتطلب قدرة عالية على التحمل في البداية، بحسب تسعديت، لكن مع مرور الوقت تعودت، وأصبحت يداها خشنتين قادرتين على تحمل الأشواك والحجارة وأغصان الأشجار دون توقف.
"في غالب الأحيان تجف الأشجار ولا يتبقى منها إلا الجذوع، رُغم ذلك تسعى المرأة جاهدة للحفاظ على خُضرة المكان، فالأرض بالنسبة للنساء اللواتي يشتغلن في الريف تُهوّن عليهن الكثير من واقعهن الصعب"
"المرأة لا تستطيع الخروج عن سيطرة والدها أو شقيقها أو زوجها، رغم أنها تقوم بمهام الرجل الخشنة، والمرأة في بعض المناطق كمنطقة القبائل متفوقة على الرجل في مجال الفلاحة"
"في بداية الأمر كانت يداي تنزفان دماً بسبب عدم القدرة على تحمل قساوة المناخ والطبيعة، فأشجار الزيتون مغروسة في تضاريس وعرة في الجبال".
وتنتقد الخالة وضع النساء في قريتها، مشيرة إلى التناقض بين حضورهن وفعاليتهن في الزراعة التي يتفوقن فيها على الرجال، وبين تهميش الرجال لهن، خاصة إذا ما فكرن في امتلاك وإدارة مشاريع خاصة بهن.
يجلبن المياه على رؤوسهن
حجيلة، مسنّة أخرى صادفناها جالسة بين أشجار الزيتون، مع مجموعة من النساء اللواتي يفرزن أصناف الزيتون بعد قطفه على أيدي مجموعة من المتطوعات، بينهن فتيات صغيرات السن، تقول لرصيف 22 إنه لم يسبق لها وأن دخلت المدرسة يوماً، ولا دخلت حتى الكتاتيب القرآنية، والأرض أو المزارع أول مكان تطؤه قدماها، وهي في الثامنة من عمرها، مع جدتها وأمها.
وتُوضح حجيلة أن "الأرض" تعني الكثير للمرأة الريفية، فهي تغرف من خيراتها بزراعات موسمية بسيطة، كالبطاطا، البصل، الطماطم، والزيتون، رغم قلة الإمكانيات المادية، وندرة المياه، فالكثيرات منهن يجلبن المياه على رؤوسهن، حتى لا تضيع جهودهن في الزراعة هباء.
وفي غالب الأحيان تجف الأشجار، ولا يتبقى منها إلا الجذوع، تضيف حجيلة، فالآبار التي تم حفرها على مستوى المناطق الجبلية قليلة، ولا تفي بالغرض المطلوب، أما مياه السدود فلا تصل إلى الكثير من المناطق، وإن وصلت فبكميات قليلة للغاية، ورُغم ذلك تسعى المرأة جاهدة للحفاظ على خُضرة المكان، "فالأرض بالنسبة للنساء اللواتي يشتغلن في الريف تُهوّن عليهن الكثير من واقعهن الصعب".
لم تسمع حجيلة، بحسب حديثها مع رصيف22، ولا نظيراتها في القرية، عن التغيير المناخي، وكيفية المساهمة في مواجهة هذا التغيير، إضافة إلى حقوق المرأة ومساواتها مع الذكور، فالرجال يهاجرون إلى المدن، والنساء يقمن بكل الأدوار في الريف دون مقابل، إضافة إلى الاهتمام بشؤون المنزل، والأطفال، والأهل إن اقتضى الأمر، ناهيك عن القيام بأعمال حرفية أخرى كخياطة التنانير، والسلال المصنوعة من خشب الدوم، المراوح اليدوية، المكانس، السجادات، إنتاج الحليب، والجبن، وبيعه في الأسواق القريبة.
"البيئة المحافظة تكبح طموحها"
تقول السيدة قروش، رئيسة خلية دعم المرأة الريفية، إنه "لا وجود لصعوبات قانونية"، وتشير إلى أن المرأة الريفية تستفيد من نفس الدعم الذي يستفيد منه الرجل، لكن عادة المرأة، بسب ما اعتادت عليه ونشأت، هي من تقصي نفسها بنفسها، فمُعظم النساء اللواتي يعملن في الريف لا دراية لهن بحقوقهن، وما سخرته الدولة لهن.
وتشرح قروش قائلة لرصيف22: "المعوقات الاجتماعية التي تعترض سبيل المرأة الريفية مُرتبطة أيضاً بالذهنيات، فالمرأة لا تستطيع الخروج عن سيطرة والدها أو شقيقها أو زوجها، رغم أنها تقوم بمهام الرجل الخشنة، والمرأة في بعض المناطق كمنطقة القبائل متفوقة على الرجل في مجال الفلاحة".
" الريفيات في الغالب يطمحن إلى إنشاء مؤسسة في مجال فلاحي معين، إلا أن أحلامهن تصطدم بالتقاليد".
وتُشير قروش إلى أن العديد من النساء الريفيات، خاصة المنتجات، يطمحن إلى إنشاء مؤسسة مُصغرة متخصصة في مجال فلاحي معين، يتماشى مع معارفهن المكتسبة، إلا أن أحلامهن تصطدم بعادات وتقاليد محافظة، لا تزال سارية على مستوى المناطق الجبلية، ولا يسمح لهن أيضاً بالمشاركة في المعارض والدورات التكوينية والملتقيات، وإذا ما شاركن يرافقهن عادة الأخ أو الوالد أو الزوج، وتكون مشاركتهن مشروطة.
أما النائب في المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان الجزائري) فاطمة سعيدي، فترى أن هناك عدة معوقات تعترض مسار المرأة الريفية، أبرزها: "طبيعة مجتمعنا الجزائري الذي مازال مُتحفظاً، فالمرأة في الريف لا تُتاح لها الفرص كمثيلتها المتواجدة في المدن، وأضف إلى ذلك الأعراف والتقاليد، فالمرأة في المدن الحضارية تشق طريقها في إطار خلق مؤسسات صغيرة ومتوسطة".
وتشير سعيدي إلى عامل آخر يعيق المرأة، يتمثل في البيروقراطية الإدارية، إضافة إلى صعوبة الولوج إلى المعلومة، خاصة بالنسبة للنساء الريفيات.
وترى فاطمة سعيدي أن معظم الأرقام التي كُشف عنها في إطار عملية تجسيد البرنامج الريفي، خلال الفترة الممتدة بين 2015 و2017 لا تعكس المشاريع على أرض الواقع، وتستدل بالقروض الممنوحة من قبل الوكالة الوطنية لتسيير القرض المصغر لتمويل مشاريع تربية النحل وإنشاء مشاتل وصناعة الحلويات والمأكولات التقليدية وصناعة الفخار، حيث بلغت 64% من المشاريع الاقتصادية، غير أن هذه النسبة، تقول السعيدي، لا تتطابق مع ما هو موجود في الواقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...