"الموضوع كان تحدّياً بيني وبين صديقة لي. لم تصدّق أني سأفعلها، وظنّت أن الأمر مجرّد مزحة، لكني فعلتها"؛ بتلك العبارة بدأت وداد عبد الله، إحدى أوائل السيدات اللواتي قدن سيارة أجرة في السعودية، حديثها عن تجربتها السبّاقة في بلد يشهد تغيّراً في مجتمعه المحافظ، في السنوات الأخيرة.
تقول الشابة، التي لم تتجاوز الـ31 من عمرها، في حديثها إلى رصيف22، إنها كانت تتوقع الصدمة من الرجال، وسط مجتمع ذكوري صرف كان يحرّم على المرأة ليس "السواقة" فحسب، بل خروجها بمفردها، أو عدم وضعها الحجاب في الأماكن العامة، "لكن صدمتي في الحقيقة أتت من بعض بنات جنسي. هناك رجال كانوا يدعمونني، ويقولون لي إنهم يفخرون بابنة بلادهم التي تعمل بجدّ، وهنا صدمة أخرى، لكنها إيجابية دفعتني للتمسك بمهنتي الثانية".
اليوم، لم تعد وداد وحدها من تزاول تلك المهنة التي ظلت طوال تاريخ المملكة حكراً على الرجال، وتحديداً ضمن الجاليات الآسيوية، لكن نستطيع القول إنها إحدى السبّاقات في هذا المجال، كما أن زبائنها من الجنسين، فيما زميلاتها اللواتي أتين بعدها، أي منذ سنة تقريباً، متخصصات أكثر في نقل النساء.
وفي الواقع لا يوجد عدد رسمي لسائقات التاكسي في السعودية، لكنه وفق وداد، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
"أحب المهنة جداً"
حين قررت وداد الانخراط في مجال التاكسي، لم تكن تبحث عن عمل، أو تمر بضائقة مالية، فهي عقب حصولها على البكالوريوس في دراسات الطفولة من جامعة عبد العزيز، وجدت فرصاً عدة، بينها مسؤولية قسم المقاصف في مدرسة في مدينة جازان في أقصى الجنوب الغربي للمملكة، ثم عملت مسؤولة قسمٍ في إحدى المؤسسات في الرياض.
لا يوجد عدد رسمي لسائقات التاكسي في السعودية، لكنه لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة.
"خطرت الفكرة على بالي كنوع من المغامرة والتحدي. بعض الزميلات ظننّ أنها فكرة مؤقتة، ومجرد ضرب من الجنون. حتى أهلي، ظنوا بأني أمزح، لكن بعد أن شاهدوا رخصة السواقة الخاصة بسائقي التاكسي، أيقنوا أن الأمر جدّي، واليوم يتقبّلون الأمر بشكل طبيعي، كذلك بالنسبة إلى المدراء والزملاء في وظيفتي، وهم يشيدون بي، وبأني شخص مسؤول أستثمر وقتي في تأمين مستقبلي".
في بداية مشوارها، تسجلت وداد في تطبيق "موجّه" لسيارات الأجرة، قبل أن تنتقل إلى تطبيقات كريم، وأوبر، وغيرها: "أعمل مع كافة هذه التطبيقات، ومن حيث يأتي الطلب آخذه".
في أواخر عام 2019 استقالت وداد من وظيفتها الأولى، لتنتقل إلى إحدى المستشفيات الكبيرة في الرياض، حيث تدير حالياً قسماً إدارياً. وبعد الانتهاء من دوامها، تستقل سيارتها لتبدأ وظيفتها الثانية: "أعمل ما يقارب ست عشرة ساعةً يومياً، ثماني ساعات في المستشفى، ومثلها على التاكسي"، تقول، وتضيف أنها تفكر في الانتقال بعد فترة للعمل في مجال السوشال ميديا، مع المحافظة على مهنة التاكسي التي تحبها كثيراً.
والسؤال الذي قد يطرحه بعض الأشخاص: لماذا تستقيل فتاة لديها وظيفة جيدة، وتحمل شهادةً جامعيةً، من منصبها لتعمل على التاكسي إلى جانب الوظيفة الأخرى؟ تجيب وداد: "عملي مع تطبيقات التاكسي يؤمّن لي مدخولاً جيداً، فأنا في اليوم الواحد أجني نحو 500 ريال سعودي (قرابة 130 دولاراً)، فضلاً عن أنّ هذا العمل يؤمّن لي استقلاليةً في الدوام، من دون قيود الوظيفة التقليدية".
علاقات صداقة وفرص جديدة
بعد تجربتها المستمرة منذ ثلاثة أعوام، تقول وداد: "شخصياً لم أجد متاعب في هذه المهنة، ولو وجدت لتركتها منذ زمن. على العكس، أعطتني المدخول الجيّد والشجاعة والثقة بالنفس، ولا تنسى نحن كنا في مجتمع لا يمكن للمرأة فيه الحديث مع أخيها في الشارع إذا التقت به، واليوم زبائني من الرجال أيضاً، وأتحدث معهم، وغالباً ما يطلبونني مرةً أخرى. هذه المهنة نسجت لي علاقات صداقة مع عدد من الزبائن، منهم/ ن من ساعدوني للعمل في الشركات كمسؤولة محتوى، وهو العمل الذي سأنتقل إليه قريباً".
وفي هذا السياق، تنصح وداد الفتيات في السعودية "بالتجربة"، لاتخاذ القرار حول المهنة التي يرغبن في العمل فيها. "لا تحكمي على الأمور مسبقاً، ولا تتمسكي بالمظاهر، وبما سيقوله المجتمع. إذا كنتِ بحاجة إلى عمل، ولديك الشجاعة والصبر، جرّبي، لكن مهنتنا تتطلب الصبر الكبير، فنحن نتعامل مع نماذج وشرائح عدة من الناس، وكل ساعة نتعرف إلى وجه جديد".
هل تثقين بكل الزبائن الذين يركبون معك؟ ألا تخافين من بعضهم؟ أسئلة منطقية ومشروعة لفتاة تعمل سائقة تاكسي في بلد عربي. تجيب وداد: "لم تحدث أبداً أي مضايقات معي سابقاً، خاصةً من الرجال، كما أنني أعمل ضمن مجموعة تطبيقات، وتالياً بيانات أي زبون موجودة، ومن الممكن ملاحقته. لكن في حال واجهت يوماً موقفاً فيه قلة تهذيب، لا أكمل مع الراكب، وأطرده من السيارة بكل شجاعة، وقد أطلب الشرطة بكل بساطة. نحن في بلد آمن، ولا أظن أن أحداً سيتجرأ على ذلك".
لكن وداد تشير إلى مضايقات من نوع آخر. "في الفترة الأولى، كنت عصبيةً قليلاً، أو بمعنى آخر سريعة الغضب من التصرفات الوقحة، ولجأت إلى طرد الزبونات من السيارة، لأنهن تدخلّن في حياتي الشخصية، فعدد منهن كنّ يتذمرن من أنني لا أضع حجاباً، ثم يدخلن معي في جدال وقصص بشكل استفزازي، إلى أن أصل إلى نقطة الصفر، وأطلب منهن المغادرة. لم أكن أفهم الربط بين عملي وحجابي".
خطرت الفكرة على بالي كنوع من المغامرة والتحدي. بعض الزميلات ظننّ أنها فكرة مؤقتة، ومجرد ضرب من الجنون. حتى أهلي، ظنوا بأني أمزح، لكن بعد أن شاهدوا رخصة السواقة الخاصة بسائقي التاكسي، أيقنوا أن الأمر جدّي
في الوقت نفسه، كانت هناك أصداء إيجابية تصلها من عميلات أخريات. "أستذكر أجمل إطراء وصلني من طفلين كانا مع أمهما، يومها قال أحدهما لأمه: ‘لماذا لا تتعلمين السواقة مثلها’، ليتدخل شقيقه الأصغر بالقول: ‘إنها تقود سيارتها أفضل من بابا’. شهادة أعطتني طاقةً إيجابيةً وحفنةً من الدعم، فهي أتت من طفلين، والأطفال عادة لا يجاملون".
"نسيت راكبة معي وذهبت بها إلى منزلي"
بالنسبة إلى وداد، فهي تفضّل الزبون المتحدث ذا الحس الفكاهي، فالتواصل مع الراكب أمر جيد، لا سيّما إذا كانت الرحلة طويلةً نوعاً ما، وسبق وحدثت معها بعض المواقف الطريفة، لكنها ليست بأهمية ذلك اليوم الذي نسيت فيه "الزبونة". كيف؟
تستعيد وداد هذا الموقف وهي تبتسم: "في إحدى المرات كانت معي عميلة أوصلها إلى منزلها، وصودف أن طريقها هو المسلك ذاته المؤدّي إلى منزلي. في طريقي نسيت أنها معي لشدة ما هي هادئة، ولا تتحدث كبقية الزبائن. كنت أنظر إلى التطبيق ولم أجد أي طلبات وصلتني، فقررت إقفاله والعودة إلى المنزل. وبينما كنت أنظر إلى الخلف، تنبهت إلى أن السيدة لا تزال جالسةً في المقعد الخلفي، وهي تظن أني أمشي في الطريق الصحيح. أخبرتها بأني تهت عن الطريق، ثم عدت واتخذت مسلكاً جديداً لتوصيلها".
"نالت المرأة جزءاً من حقوقها"
تتفاءل وداد بوضع المرأة السعودية مستقبلاً، فهي ترى أنها استطاعت إثبات وجودها في غضون ثلاث سنوات، والأمر لا يزال بحاجة إلى الوقت. "نحن حالياً في مجتمع نصفه يتقبل هذا الانفتاح، ونصفه الآخر لم يستوعب بعد، ويجب تفهّم ذلك. لكن المؤشرات الحالية تدل على أن المرأة السعودية تسير في طريق يقود نحو التطور. منذ سنتين أصبحنا نرى فتياتٍ جامعيات يعملن في المقاهي، وفي المولات، كموظفات صندوق، وداخل المطاعم توجد نادلات، ولدينا بطلات في عالم الرياضة. ومنذ سنة ونصف، ظهرت أول سعودية شابة تعمل في مجال صيانة السيارات".
"المرأة السعودية كسرت الصورة النمطية بأن دورها هو الزواج والإنجاب فحسب، كما حطّمت القالب النمطي الموضوعة داخله، وهي أنها امرأة مرفّهة تمضي الوقت في التسوق والسفر فحسب"
بذلك، ترى وداد أن المرأة السعودية كسرت الصورة النمطية بأن دورها هو الزواج والإنجاب فحسب، كما حطّمت القالب النمطي الموضوعة داخله، وهي أنها امرأة مرفّهة تمضي الوقت في التسوق والسفر فحسب، كما كانت تروّج وسائل إعلام كثيرة.
الجدير ذكره أنه أصبح للمرأة السعودية حق قيادة السيارات في شهر حزيران/ يونيو من العام 2018، بعدما أصدر العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، في 26 أيلول/ سبتمبر 2017، قراراً بالسماح للمرأة بالقيادة وفقاً للضوابط الشرعية. اليوم تستطيع المرأة القيادة من دون حجاب، حتى لو كان معها رجل غريب. لكن قبل هذا التاريخ، كانت الفتاة التي يُلقى القبض عليها وهي تقود سيارةً، تُسجن وتُغرّم.
وفي غضون السنتين الأخيرتين، تبدّلت نوعاً ما أوضاع المرأة السعودية، على الرغم من أنها لم تنل بعد كافة حقوقها المنقوصة، إذ سمحت وزارة العدل سنة 2019، للفتاة أو السيدة، بتزويج نفسها من دون موافقة ولي أمرها إذا كانت فوق سن الـ18، كما بات لها الحق في فتح حساب مصرفي باسمها، من دون اللجوء إلى وصاية ولي الأمر أو موافقته، وهو أمر كان ممنوعاً قبل 2018. كما أن نسبة النساء العاملات في السعودية تضاعفت في السنوات الخمس الأخيرة، وأيضاً أصبح لهن حق الحصول على جوازات سفر والعيش والسفر بمفردهن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون