شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"تعلمي القيادة كرجل حقيقي"... قصتي الطويلة مع السيارة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 12 ديسمبر 201901:26 م

دمشق، 1990

يقترح أبي أن يصحبنا أنا وأختي نزهة في السيارة، ولقلة إمكانيات الرفاهية التي كنا نمتلكها كأطفال في دمشق، كان مشوار السيارة يُعدّ نزهة ترفيهية، تتخللها سندويشات الفلافل من حي المهاجرين، وزجاجات العصير الطازجة، وعندما يرافقنا أحد أصدقاء أبي من العازفين في السيارة، نصبح محظوظتين أكثر، فكنا نستمتع بالأحاديث الموسيقية التي تدور بينهما حول عازفي القانون والعود، وعن أجمل من غنى "لسه فاكر".

لكن ركوب السيارة والمشوار، بالرغم مما يحيط به من ذكريات وردية، كانت له خصوصيته في القيادة، فأبي كان يحب أن يطبق قانون نظام الشوارع الذي لا وجود له في ضجيج دمشق، وكان يريد أن يحاسب السائقين من خلاله، وكل المتخلفين عن الانضباط بالنظام، كما كان يريد أن يُقوِّم المارة ويعلمهم أصول عبور الطريق، وكانت لديه أيضاً رغبة بخلق عالم افتراضي يقود فيه السيارة بمعزل عن جميع المخالفات، ولما كان ذلك حلماً متعذراً، فكان ركوب السيارة معه يشبه الكابوس.

نجلس في المقعد الخلفي متمسكتين بأيدي بعضنا البعض، تضغط أختي على يدي كلما شعرت أننا على وشك الوقوع في مصيبة. وكنت أحاول أن أفسر كل الأحرف الأبجدية التي يتلوها أبي بسلاسة عند كل عثرة في الطريق، ولم تكن لتلك الكلمات أمام مخيلتي الصغيرة معانٍ واضحة، لكنني كنت أشعر بوقع الكلمات ثقيلاً...

نتوقف عند الباعة الذين يعرفون أبي ويحبونه، يدللوننا ويغمروننا بالحب الدمشقي بين أهل البلد وأولاد الحارة، وننسى مشوار الذهاب الثقيل وينتظرنا مشوار الإياب.

بالرغم من ذلك قررت في إحدى زياراتي إلى دمشق أن أتعلم قيادة السيارة عند العم نيكولا، الذي رحب بي في أول لقاء وقال: "سأعلمك كيف تقودين السيارة كرجل حقيقي!"

كم أحلم بمشوار سيارة مع أبي وأختي اليوم في المقعد الخلفي، علماً أن أمي كانت تعتذر عن معظم "مشاوير" السيارة للأسباب آنفة الذكر...

"لسه فاكر؟"

دمشق، 2006

أردت أن أتعلم قيادة السيارة، رغم أنني لم أكن أملك واحدة، لكنني شعرت بالحاجة الماسة إليها.

عُرض علي الحصول على شهادة السياقة بالواسطة وبمبلغ ليس كبيراً، لكنني لم أكن أريد الشهادة، بل كنت أريد أن أتعلم القيادة بالفعل!

والتحقت مع صديقتّي بدورة تعليم قيادة السيارة، في مدرسة قريبة من مطار دمشق الدولي. وكانت هناك حافلة "سكانيا" خاصة للوصول إلى المدرسة والعودة، ومدرب شريف عفيف، يثق بقدراتنا على القيادة كأي امرأة عرفها، ويأمل بأن ننجح في الحصول على الشهادة، فقدرات النساء في القيادة محدودة برأيه، ولا يمكنها أن تتجاوز حداً واضحاً إلا إذا كانت "أخت رجال". ولما كنا نحن الثلاثة ننحدر من عائلات نسائية، فكانت فرصنا ضعيفة بنظره.

كنا ننحشر في مقعدين متلاصقين في حافلة التوصيل قرب بعضنا، كي لا نختلط بالآخرين الذين كانوا في معظمهم شباناً أو رجالاً يتمتعون بسلوك القيادة الحكيمة، من قواميس الشتائم التي يدلون بها أمام كل عثرة، فتجعل منهم رجالاً بكل ما للكلمة من معنى ضمن السيارة!

حصلت على الشهادة أنا وإحدى صديقتيّ، ولم تنجح الثالثة في الاختبار. لكنني لم أكن بعد قد قدت السيارة في دمشق. كنت قد قدتها في المدرسة فقط، فوق الخطوط الواضحة ضمن تعليمات دقيقة وشوارع خالية.

السعودية، 2007، 2008، 2009، 2010، 2011، 2012، 2013

لم يكن مسموحاً للمرأة بعد أن تقود السيارة في السعودية، وكنت مثل جميع النساء أعتمد على السائقين، وأيضاً على عدم مغادرة المنزل كثيراً، ففي معظم الأوقات تبدو ملازمة المنزل أقل إرهاقاً من محاولة الوصول إلى سائق في موعد محدد، تكون فيه المحال التجارية غير مغلقة عند أوقات الصلاة أو أثناء استراحة الغداء.

بالرغم من ذلك قررت في إحدى زياراتي إلى دمشق أن أتعلم قيادة السيارة عند العم نيكولا، الذي رحب بي في أول لقاء وقال: "سأعلمك كيف تقودين السيارة كرجل حقيقي!".

وعند فشلي الحقيقي في التحول إلى رجل ضمن قوقعة سيارتي قررت أن أعتزل، خاصة بعد أن جربت أن أصطحب صديقي "مشوار" في السيارة، فطلب الترجل في منتصف الطريق وفضل العودة سيراً على الإقدام.

الكويت 2014

أيقنت عند انتقالي إلى الكويت، بأنني سأتعلم قيادة السيارة هناك، فالمواصلات العامة غير متاحة ولا يمكن الاعتماد عليها، وسيارات الأجرة باهظة الكلفة، ولا يمكن السير هناك، فلا توجد أرصفة للسير ولا درجات حرارة منطقية يمكن للإنسان تحملها.

احتجت للحصول أولاً على إذن من الكفيل، الذي يضمن إقامتي ومعيشتي في الكويت، وإلى واسطة حتماً، فلا يمكن إجراء معاملة حساسة كهذه لامرأة دون وساطة مضمونة.

جهزت أوراقي كاملة مع صورتي الشخصية وذهبت بكل ثقة إلى المكتب الخاص للبت بالمعاملة، كي يسمح لي أن أبدأ بتعلم القيادة ومن ثم ممارستها، ولما كنت امرأة بطبيعة الحال ودون غطاء رأس، فاجأني "الشيخ" الموظف وهو يوقع على أوراقي ويقول بصوت هادئ: "هل تعلمين أنه لا يمكنك قيادة السيارة بهذا الشكل، سوف يلتقطك قطاع الطرق على طريق الجهراء، وسوف يفعلون بك ما لا يمكن تصوره، وسوف يتم تقطيعك ورمي أشلائك في الصحراء".

ثم وقع الورقة.

لم أركب السيارة بعد تلك المعاملة، فقد بدأت أحاول التفكير بكيفية تحولي إلى "رجل حقيقي" كي أقود سيارة!

لم يكن مسموحاً للمرأة بعد أن تقود السيارة في السعودية، وكنت مثل جميع النساء أعتمد على السائقين، وأيضاً على عدم مغادرة المنزل كثيراً، ففي معظم الأوقات تبدو ملازمة المنزل أقل إرهاقاً من محاولة الوصول إلى سائق في موعد محدد

في الكويت، جهزت أوراقي كاملة وذهبت بكل ثقة إلى المكتب الخاص للبت بالمعاملة، كي يسمح لي أن أبدأ بتعلم القيادة، ولما كنت امرأة بطبيعة الحال ودون غطاء رأس، فاجأني "الشيخ" الموظف وهو يوقع على أوراقي ويقول بصوت هادئ: "هل تعلمين أنه لا يمكنك قيادة السيارة بهذا الشكل؟"

براغ 2015

مارست طقوس انتقالي إلى بلد جديد بدقة، فهرعت إلى العمل على أوراق شهادة السياقة التي تبدو أوضح من غيرها هنا: فحص طبي، صورة شخصية، أوراق، وعدد ساعات محدد للتدريب.

عند محاولتي جمع الأوراق اللازمة لقيادة السيارة صادفت شخصاً عربياً، عرض علي الحصول على شهادة السياقة بالواسطة.

بالواسطة؟!

لم أتم أوراقي حتى اليوم، وعدلت عن فكرة حصولي على هذه الشهادة، يبدو أنني لن أتمتع أبداً بامتيازات القيادة الحكيمة، ولا بالسيارة التي لم أحصل عليها خلال حياتي، ولن أتقن قاموس اللغة المتخصص للعارفين في قيادة السيارات واختراق القوانين.

وتبدو لي فكرة جلوسي في المقعد الخلفي في سيارة أبي ضمن رحلة هستيرية، أكثر ألفة وأماناً من كل رحلاتي اللاحقة، ففي المقعد الخلفي تمسك أختي بيدي وتشد عليها عند اقتراب المصيبة.

أنا لازلت هناك، لا أريد أن أكبر، ولا أريد أن أكون رجلاً في سيارة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard