في تمام التاسعة صباحاً، تنتهي من ارتداء ملابسها، وتحمل حقيبتها التي تأخذ منها مفاتيح سيارتها الخاصة، استعداداً لقيادتها، والذهاب إلى العمل، في مشوارٍ يومي يستغرق ثلاثين دقيقةً من منزلها إلى مكان العمل.
اعتادت ماريان سماع العديد من العبارات السخيفة في هذا التوقيت يومياً، من الرجال الذين يقودون السيارات بجوارها. "أقود سيارتي منذ خمسة أعوام، ومنذ ذلك الحين، وحتى مع تقدّمي في القيادة، وتمكّني منها جيداً، أسمع عباراتٍ ما بين تنمّر وتحرش، أو احتقار، من الرجال بجواري في الشارع، سواء من سائقي ميكروباصات، أو سيارات خاصة"، تقول لرصيف22.
تستمع ماريان إلى عبارة "سواقة ستات"، يومياً، مما دفعها إلى استخدام سمّاعات هاتفها المحمول التي تضعها في أذنيها في أثناء القيادة، وتنتبه للإشارات، حتى لا تستمتع إلى المارّة من حولها. "في البداية كنت أتخيل أنني لا أتمكّن من القيادة بالفعل، ومع سماع أي عبارة من العبارات التي كانت تبدأ من استخدام كلاكس السيارة بشكلٍ مزعج من السائق الذي يمرّ بجواري، أو من خلفي، وتنتهي بسبّي لأنه لا يجب عليّ قيادة السيارة، وما يمكنني فعله هو المكوث في المنزل لإعداد الطعام فحسب".
تستمع ماريان إلى عبارة "سواقة ستات"، يومياً، مما دفعها إلى استخدام سمّاعات هاتفها المحمول في أثناء القيادة، حتى لا تستمتع إلى المارّة من حولها.
دفع ذلك ماريان للاعتقاد بأن عليها تعلّم القيادة جيداً، لتفادي تلك المضايقات، حتى وجدت صديقاتها الفتيات يتعرّضن لمثل تلك المواقف يومياً عند قيادتهنّ سياراتهنّ. "عند خروجي مع صديقاتي، كنت أستمع إلى حكاياتٍ مشابهة من نساءٍ يقُدن سياراتهنّ منذ عشرات السنوات، من دون توقّف، واستنتجت أن الموضوع لا علاقة له بقيادة السيارة، ولكن لأننا سيّدات، فالذكور من حولنا يرون أننا لا يجب أن نقود السيارات مثلهم، حتى ولو كانت قيادتنا سليمة".
ثقافة ذكورية
لا تحظر الدولة، ولا القانون، قيادة السيّدات للسيارات، ولكن وفقاً لرأي ماريان، فإن الثقافة الذكورية هي التي صنعت هذا الحظر، لأن النساء لا يحصلن على العديد من الحقوق مجتمعياً، حتى ولو أُقرّت وفقاً للقانون، فيصبح أي أمر يمتلكنه، أو يقمن به، محطّ رفض الرجال، لذا أصبحت عبارة "سواقة ستات"، لفظاً يقال للسيدات، وحتى الرجال أيضاً، عند الرغبة في التقليل من مهاراتهن/ م في القيادة.
وتشير ماريان إلى نقطةٍ أخرى، هي أن مواقع التواصل الاجتماعي تضمّ نكاتٍ ومنشورات من رجال يتشاركونها مع الأصدقاء، حول التقليل من قيادة السيدات، وأنهن لا يحسنّ القيادة، على الرغم من أن الحوادث الكبرى على الطرقات، في الأغلب، يكون خلالها قائد السيارة رجلاً، وهو ما أكّدته دراسات عدة أجرت مقارنةً بين قيادة كلٍّ من المرأة والرجل، ومنها دراسة نشرتها صحيفة الإندبندنت البريطانية، أكدت أن النساء أكثر حرصاً عند القيادة، وانتباهاً إلى مصادر الخطر، وهو ما اتفقت معه أيضاً دراسة فرنسية.
ووفقاً للدراسة الثانية، تختلف نسبة الحوادث بين الرجال والنساء، ففي حين تتسبب السرعة بالحوادث لدى الرجال بنسبة 72%، بلغت هذه النسبة لدى النساء 28%. أما الكحول والمخدرات، فوضعت الرجال في الصدراة، وبجدارةٍ، كمسببين للحوادث، وذلك بنسبة 89%، مقابل 11%، و91% مقابل 9% على التوالي.
يرفض والدي أن أقود سيارتي بزعم أنني لا أستطيع، على الرغم من حصولي على رخصة قيادة، لكن شقيقي الذي لم يكمل عامه العشرين، يسمح له بقيادتها، حتى قبل أن يستخراج الرخصة، ويبرر الأمر بأنه رجل، ويستطيع التحكّم، وسريع البديهة، بعكسي أنا الفتاة"
"أخي مسموح له وأنا لا"
مصطلح الثقافة الذكورية الذي تحدثت عنه ماريان، يبدو أكثر وضوحاً مع شيريهان علي، التي تبلغ من العمر 28 عاماً، برفض والدها أن تقود سيارته، على الرغم من سماحه لشقيقها الذي يصغرها بتسعة أعوام، بقيادتها.
"هناك خلاف طويل بيني وبين والدي حول هذا الأمر. يرفض أن أقود سيارتي بزعم أنني لا أستطيع، على الرغم من حصولي على رخصة قيادة، لكن شقيقي الذي لم يكمل عامه العشرين، يسمح له بقيادتها، حتى قبل أن يستخراج الرخصة، ويبرر الأمر بأنه رجل، ويستطيع التحكّم، وسريع البديهة، بعكسي أنا الفتاة"، تقول في لقاء مع رصيف22.
تعلمت شريهان القيادة مع والدها، ولكن الأمر اقتصر على الحصول على الرخصة فحسب. لا تستطيع قيادتها لأنها فتاة، ويمكنها قضاء المشاوير بصحبة شقيقها. "أخي يعترف بأن قيادتي جيدة، لكن أبي لا يريد الاعتراف بالأمر، ودائماً يردد عباراتٍ مثل ‘هتكسريلي العربية’، أو أني ‘هعمل حادثة’، ولا أستطيع الركن، لينتهي الحوار بيننا بأنه عليّ اصطحاب شقيقي معي ليقود السيارة، فهو الوحيد المسموح له بهذا الأمر".
الإحصاءات الرسمية، بدورها، أظهرت أن أكثر من 70 في المئة من حوادث الطرقات يذهب ضحيتها الذكور، بينما تتحمل النساء في مصر، ودول العالم، نحو ربع تلك الحوادث، تماماً كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا، وتشير دراسات عدة إلى أن حوادث الطرقات التى يتسبب بها الرجال تعود في الغالب إلى السرعة المفرطة، وتناول العقاقير والكحوليات قبل القيادة مباشرةً، إلى جانب الحديث في الهاتف، وعدم وضع حزام الأمان، وعدم لبس الخوذة في أثناء قيادة الدراجة البخارية.
"الرجال يتعلّمون القيادة منذ الصغر"
العبارات التي تتردد يومياً على مسامع السيدات في مصر، دفعت العديد منهن لمواجهة الأمر بتعليم قيادة السيارات، لنفي ما يردَّد عنهنّ بأنهنّ غير قادرات على القيادة، ومنهنّ منى عطا الله، التي قررت بعد مواجهات يومية مع عاملي مرائب السيارات والرجال، في أماكن عدة، البدء بتعليم صديقاتها القيادة.
عدد كبير من السيدات بدأ تعلّم القيادة في سنٍّ كبيرة، على عكس الرجال الذين يتعلمون القيادة منذ الصغر.
البداية كانت برفض زوج منى قيادتها سيارته، لتوصيل الأولاد إلى المدرسة، حتى قررت شراء عربية صغيرة خاصة بها. "السيارة كانت صغيرةً وقديمةً بما يتناسب مع إمكاناتي المادية. كنت أستمع يومياً إلى مضايقات من الرجال، وعند ذهابي إلى مكانٍ، وركن سيارتي فيه، يعرض عليّ عامل المرآب أن يساعدني في ركنها، مع نظراتٍ معتادة ومكررة ترجمتها هي أنني لا أجيد القيادة".
وتابعت في حديثها إلى رصيف22: "على الرغم من تمكّني من القيادة، وتوصيلي الأولاد يومياً إلى المدرسة من دون حوادث أو إصابات، كان زوجي مصراً على رأيه بأن السيدات لا يستطعن القيادة، وهو ما رأيته في عيون كثيرين من الرجال، ويترجم في تصرفات مختلفة، إما بالنظر بسخريةٍ إلى السيدة وهي تقود، أو سبّها، أو التضييق عليها بالسيارة".
تلك الأمور دفعت منى للبدء بما أطلقت عليه "مشروعاً صغيراً"، لتعليم الفتيات والسيدات القيادة. "قررتُ أن أعلّم صديقاتي والقريبات منهن القيادة، كنشاطٍ تطوعي، أو كمشروعٍ صغير، للتصدّي للعبارات الجارحة التي تخرج من زوجي، ومن أمثاله من الرجال".
تقول منى، بعد تعاملها مع سيدات عديدات: "أصبحت أعلّم سيداتٍ في نطاق منزلي، أو صديقاتي، القيادة، على سيارتهنّ، أو على سيارتي الصغيرة، ووجدت أن عدداً منهن بدأ تعلّم القيادة في سنٍّ كبيرة، على عكس الرجال الذين يتعلمون القيادة منذ الصغر، وحتى قبل السنّ القانونية، للحصول على رخصة، وهو ما يدفع الأسر دوماً، والرجال، لترديد عبارات بأن السيدات لا يقدرن على القيادة، ببساطةٍ لأن فرص تعلمهم أعلى بكثير من فرص النساء".
على الرغم من تمكّني من القيادة، وتوصيلي الأولاد إلى المدرسة من دون حوادث أو إصابات، زوجي مصر على أن السيدات لا يستطعن القيادة، وهو ما رأيته في عيون كثيرين من الرجال، ويترجم في تصرفات مختلفة، إما بالنظر بسخريةٍ إلى السيدة وهي تقود، أو سبّها، أو التضييق عليها
وجدت منى أيضاً أن السيدات يتبعن ما يمكن أن يُطلق عليه "القيادة الآمنة"، فهن يستخدمن الإشارات، ويتّبعن السرعة القانونية المحددة، والحارات المرورية، بعكس الرجال الذين يكسرون تلك القواعد في الكثير من الأوقات، ويتخيّلون أن من يتّبعها شخص "جبان"، لا يمكنه القيادة، ولكنه في الحقيقة شخص يقود بشكل آمن، لتفادي الحوادث العديدة التي تنتج عن ذلك النوع من القيادة "الرعناء"، التي يتّبعها كثيرون من الرجال.
وفي العودة إلى الوراء، نجد أن النساء، منذ عقودٍ طويلة، دخلن في مواجهات أيضاً، للحصول على رخصة قيادة، فكانت عباسية فرغلي أول سيدة مصرية تحصل على رخصة قيادة، في فرنسا، في 24 تموز/ يوليو 1920، ثم عادت لتحصل على رخصتها في مصر عام 1928.
ساهمت الحالة الإجتماعية الميسورة حينها، لفرغلي، في تشكيل شخصيتها في عالم قيادة السيارات، فوالدها كان أحد أكبر التجار في جنوب الوادي، وشقيقها الأكبر، محمد فرغلي باشا، صاحب شركة فرغلي، من أكبر شركات القطن فى تاريخ مصر، ما أهّله لأن يُصبح ملكاً للقطن. وفي الوقت الذي كان فيه "صوت المرأة عورة"، تمكّنت هي من الحصول على رخصة قيادة، بيعت لاحقاً في مزاداتٍ أثرية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه