احذروا أيها العقلانيون، وأنتم أيها المتأثرون بالأديان الإبراهيمية، فلا يعني تحطيم محمد للأصنام أنها قد أزيلت من وعيكم/نّ، أو وصم المسيحيين الأوائل لأشكال التعبد القديمة بـ"الوثنية" أنها انتهت بلا رجعة، ولا يعني سيطرة العقلانية النقدية أن تلك الأوهام والأساطير والخرافات قد تلاشت...
إنها هناك، في عمق "بحر الظلمات" بحسب تعبير فان دن دونغن، تخرج بين الحين والآخر، تُسبّب الاضطرابات النفسية، وتمنع سلوكياتكم/نّ ومشاعركم/نّ بأن تتجاوب بشكل عقلاني أو "إيماني" مع المتغيرات الحادة من حولكم.
حول تلك الأفكار والرؤى يدور "أنا حكا"، وهي فصول تنتمي في الأصل لكتاب "قراءات مصرية قديمة" نشرها فيم فان دن دونغن على موقع خاص كعادته، وهو فيلسوف وباحث ولد في بلجيكا عام 1961، وتخصص في المنطق ونظرية المعرفة في جامعة غينيت، وثقف نفسه في جماليات الموسيقى، اللغة السنسكريتية وعلم نفس الأعماق، وبدأ بنشر فلسفته للجميع على الإنترنت منذ 1996.
عرّف دونغن نفسه على موقعه الشخصي بأنه بدأ الممارسة الفلسفية لنظام اليوغا الهندوسي، واختبر بنفسه مشاعرها، وأجرى دراسات عن عملية الإدراك للروحانيين المسيحيين، وعالج موضوعات مرتبطة بالمعرفة في معتقدات اليهودية والإسلام وغيرها.
أمَّا "حكّا"، بفتح الحاء وتشديد الكاف، هو اسم لإله كان يتقرب إليه السحرة في مصر القديمة، ويلحظ القارئ المعنى الشعري لتجاور الـ"أنا" الحديثة، بتمسكها باستقلاليتها الواعية عن الآخر والعالم، و"حكّا" الذي يجسد الوعي السحري البدائي، غير المنفصل عن الكون والطبيعة والآلهة المتخيلة.
"في البدء كانت الحركة"
يدعونا الباحث في هذا الكتاب إلى عدم شيطنة وتهميش أشكال الوعي البدائية، فكل مرحلة من مراحل الوعي لا تلغيها المرحلة الأخرى، فلا الإبراهيميون ألغوا إلهات العالم القديم، ولا أرسطو حذف بمنطقه أحاسيس الخرافة، ليس ذلك فقط، بل يدعونا إلى المصالحة بين كل تلك الطبقات، كل مرحلة في عمر وعينا البشري تمثل طبقة إدراكية لا تلغيها المراحل التي تليها، ولكن تكبتها وتقمعها، لتعود وتنتقم بقوة في أشكال العصاب والاضطرابات النفسية، وإحداث انفصام كبير بين تمثل الفرد الذهني للعالم، وتجاوبه معه.
بدلاً من وصم طبقات/مراحل التفكير البدائية، يدعونا دونغن إلى أهمية فهم كيف تمثل الإنسان دنياه في بدايات الحضارة، ونتعلم من طريقته الخرافية، تلك البذور الجنينية الأولى لما سيصبح شكلاً دينياً توحيدياً بعد ذلك، ثم تفكيراً عقلانياً نقدياً.
"في البدء كانت الحركة"، هي الجملة التي تعتبر محورية في هذا الكتاب، فعملية الإدراك البشري في تجاوبه مع العالم هي حركية، داخلية خارجية، وخارجية داخلية، وتهدف إلى التوازن النفسي، لا شيء أقل، لا شيء أكثر من ذلك.
زارادشت البداية والنهاية
تمحورت الأديان الإبراهيمية حول مركزية الكلمة وأهمية الكلمة وقدسية الكلمة، وكان "الكتاب" هو وسيطهم لنقل رسالتهم.
وارتبطت أحاسيس القداسة والإثم حول الكلمة، ففي البدء كانت الكلمة، و"اقرأ" أول وصايا الملاك جبرائيل لمحمد، و"رب كلمة لا تلقي لها بالاً تهوي بك سبعين خريفاً في نار جهنم".
أول من ابتكر النمط الأسطوري المحفز للإصلاح، بتقسيمه للعالم بين قوى وصفها بالخيرة، وأخرى وصمها بالشريرة أو الشيطانية، كان زارادشت، بحسب جوزيف كامبل في كتاب "سبل النعيم"، لذا لا عجب أن يتمثله نيتشه في كتابه الذي أعلن فيه "موت الإله"، ووضع له عنوان يؤكد على مركزية الكلمة أيضاً، "هكذا تكلم زارا".
بحسب كامبل، فإن الأساطير الدينية قبل زارادشت كانت قائمة على الإنكار، مثل البوذية، فالحياة الدنيا وهم، وعالم الروح هو الحقيقة المترفعة عن الدنيوي، ومن هنا نبعت فلسفات اليوغا والتأمل البوذي، الانعزال عن الناس وأنشطة الحياة، حتى جاء زارادشت، وجعل الحياة محل صراع بين قوى الخير والشر.
روحانيو الشرق الأوسط القدماء، أو أنبياء ورسل تلك البقعة الجغرافية التي يغلب عليها الطابع الصحراوي، جعلوا من القوى الخيرة قوة واحدة أصيلة (الرب)، وهمّشوا قوة الشر "الشيطان"، بجعلها متمردة على الأصل، ما ألهم خيال المصلحين.
لم يكن النثر العربي طيّعاً للأفكار العقلانية.
وبعد انتشار الإسلام وبداية نضج الجيل الثاني، ساهم كتّاب مدفوعون بخلفية ثقافية فارسية ويونانية، بينهم من قُتل بتهمة الزندقة، في خلق السرد اللغوي العقلاني، إذ لم يكن النثر العربي طيعاً للأفكار العقلانية، بحسب كتاب "من حديث الشعر والنثر" لطه حسين، وعانى عبد الله بن المقفع في الوصول للمعاني العقلانية في "كليلة ودمنة".
وبعد أن بدأ الإنسان يتحرّر من الشاعرية والخرافة، جاء فرويد وتحليله النفسي للاوعي، ثم حركات مثل السوريالية والهيبية، بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وبدأت إعادة تقييم كل أشكال الكتابة التي تجسد اللاوعي، مثل الشطحات الصوفية، وأعادت الحداثة العربية قراءة كتاب مثل "المواقف والمخاطبات" للإمام النفري، وهي شذرات لا عقلانية.
وسط تحولات الوعي في الغرب والشرق الأوسط، تظل الكلمة أو "التفكير اللفظي" كما يطلق عليه علماء نفس، هي المحورية في عملية الإدراك، والأنا المستقلة هي المركزية في علاقتنا بالمجتمع والكون.
الكهنة الأوائل وفجر الوعي
طوَّر الباحث دونغن آلية لفهم وقياس مراحل النمو الأولى عند الإنسان في عام 1993، من عقل أسطوري خرافي إلى عقل نقدي عقلاني واقعي، اعتبره "نموذجاً انتقائياً للتطور المعرفي"، اعتمد فيه على أعمال جان بياجيه وكولبرج، ومدرسة فرويد الجديدة، وماسلو.
ويقول إنه بمجرد فهم دور السحر في تشكيل بدايات وعي قدماء المصريين نتمكن من مقارنة النتائج بالفلسفة اليونانية، خاصة هؤلاء الذين زاروا مصر، سيدفعنا ذلك لفهم أن أفكارهم لم تأت من الفراغ.
أثنى مؤلف "أنا حكا" على أسلوب تبناه الكهنة المصريون الأوائل في شعائر الجنازات، سماها "شكل الإله المفترض"، تتضمن إلغاء كامل للذات، وتقمص آلهة متخيلة في الحركات والأصوات التي تؤديها الطقوس، ولفت إلى أن تأثيرها مستمر حتى اليوم، فهي تقنية تمارس في التنجيم الآن وأعمال السحر، وتتطلب تكريس وقت طويل للتأمل المرتبط بآلهة معينة، ويزعم أصحابها أنه تتملكهم استبصارات قوية وعميقة لمشاعر مقدسة، لا يمكن فهمها بقراءة الكلمات، أو بوجود الأنا.
يلغي الإنسان الفرد شخصيته (الأنا) في هذه التقنية، يكتب الباحث: "إنها تعريف شخصي وكلي لعقل رجل الدين بنمط بدئي خالص".
لا يعني تحطيم محمد للأصنام أنها قد أزيلت من وعيكم، أو وصم المسيحيين الأوائل لأشكال التعبد القديمة بـ"الوثنية" أنها انتهت بلا رجعة، ولا يعني سيطرة العقلانية النقدية أن تلك الخرافات تلاشت... كتاب "أنا حكَّا"
وشدّد الباحث على أهمية مقارنة الوعي السحري البدائي، في الحضارة المصرية القديمة بعد تشكل وعيها، بالثقافات السامية لليهود والعرب الذين تأثروا باليونان القديمة.
في الفصل الأول، يقدم الباحث معلومات لتمكين القارئ من فهم بدايات تشكل العقلانية، مميزاً بين الغريزة والحدس، فالطبقات الأولى من النشاط المعرفي تكمن في الفكر الأسطوري ما قبل العقلاني، والفكر العقلي البدائي.
وبين العقل وفعاليته الواعية طبقات عديدة من الإدراك المتعلقة بالحدس، الابتكار، الإبداع والمعرفة الغنوصية أو الخبرة المباشرة بالله مثل تلك التي تتملّك الصوفيين.
ويدافع الكاتب عن ضرورة وجود فهم عقلاني تكاملي لتلك العمليات الإدراكية، يمكننا من الاستفادة من الحواجز بين طبقات الإدراك تلك، والرجوع إليها عند الضرورة.
يدافع الباحث عن an integrated rationality العقلانية التكاملية، ويعني بها دراسة كل أشكال السحر التي برزت قبل ظهور الإدراك المعرفي الحالي، لنحسن التواصل بين أنماط التفكير الدنيا (الخرافية والأسطورية)، والأسمى (النقدية الرياضية) لتحقيق التكامل العقلاني.
النموذج العقلاني بالنسبة للباحث هو طبقة رقيقة جداً، متجذرة في بنية المراحل الأسطورية المبكرة من النمو الإدراكي.
يشير الكاتب إلى عائق كبير يمنعنا من فهم تلك المراحل الجنينية من الوعي البشري، وهو الحاجز العقلاني أو السببي، ويعني مَنطَقَة كل مراحل النمو البدائية، ما يؤدي إلى تحول العلم إلى "صنم"، يفقد قدرته الحيوية على فهم ما يخرج عن نطاق آلياته الشرعية، المعترف بها.
والحل بالنسبة إلى فرضيات كتاب "أنا حكا" هو الاعتراف بالأسس الغريزية السابقة للعقلانية، وتطلعاتها الحدسية (الإدراك الفكري)، ومحاولة فهمها.
الالتزام بالعقلانية و"حواجزها" تدفع المتخصصين قسراً إلى تجنب دراسة جانب مهم من التاريخ، لا يعرفونه، ما قبل اختراع الكتابة ونشوء العقل السببي، بل ولا يستطيع المتخصص منهم أن يحكم سيطرته على التفكير الواعي، ويضبط إيقاعه بطريقة تمكنه من التنبؤ به، وأيضاً يجعل من التفكير المنطقي عرضة لأن ينهدم في أي لحظة، بسبب آلية التوازن الفاعلة في أجهزة إدراكنا، والتي تختل في وقت الشدة وتصبح عرضة للنكوص.
نظام الرموز ونمط الحركات
يبتعد الباحث عن طريقة علم النفس التحليلي، لأنه يعتمد كثيراً على الاضطرابات النفسية، أكثر من عملية الإدراك والمعرفة لأفراد أصحّاء نفسياً، ويقترب جداً من تعامل جان بياجيه، عالم النفس التربوي الفرنسي، في مقاربته للإدراك كعملية بعيدة عن الواقع، لأن كل مرحلة من مراحل التطور المعرفي لها شكل معرفي خاص بها، ونتعامل نحن البشر مع معطيات الواقع دائماً بعدم الحياد، بانحياز وانتهازية انتقائية.
أساس عملية الإدراك هو الحركة.
الإدراك، بحسب دونغن، هو العضو البيولوجي الأكثر تميزاً في الكائنات الإنسانية القادرة على البقاء، وأساس عملية الإدراك هو الحركة نفسها. الحقيقة إن حركاته ليست عشوائية ولكن منسقة، إن شكل هذه التنسيق هو نظام يتكوّن من رموز وليس كلمات، وأنماط من الحركات تهدف إلى جعل العقل (مشغل الذهن الدائم) في حالة استقرار وتوازن.
بحسب آلية الإدراك الحركية، التي تبناها بياجيه في الأساس وطورها مؤلف الكتاب، عندما تحدث المصائب التي تهدد استقرار وتوازن الإدراك، مثل الموت أو الجفاف أو الحروب، تأتي تلك الرموز والأشكال "اللاواعية" لتمنح المعنى بهدف إعادة التوازن، ولكن عندما لا يكون هناك طاقة داخلية للاندماج بين الذات ومحيطها، يحدث الانهيار وانسحاب النظام الإدراكي.
بحسب "أنا حكا" لا يوجد إنكار للواقع كما فعل بوذا، أو صراع بين قوى الشر والخير، ولا إله أو شيطان كما تخيل زارادشت، ولكن حركة دائمة لرموز وأشكال تهدف إلى التوازن الإدراكي والاستمرارية
ساعد جوهر العملية الإدراكية غير اللفظي (أشكال ورموز وليست كلمات) في خلق الأسطورة كمتوازية للفن في عصرنا، والأسطورة بطبيعتها وصيرورتها ضد التمايز الضروري بين الذات والعالم، التمايز الذي يغذي تعقيد الفكر والإدراك، فهذه الرموز تعيق عقلانية الإدراك في التعامل مع الذات والآخر والبيئة.
يدعونا الكاتب إلى الرجوع للأنماط البدائية، لمراحل ما قبل التفكير العقلاني للاستفادة منها، لأنها موجودة تمارس دوراً خفياً في تدمير وعينا العقلاني، الذي لا يزال هشاً لحداثة سنه، وهذا ما يفسر بحسب الكتاب انتشار أشكال الوعي الأسطورية في أوقات الأزمات.
ولكن كيف؟
يقترح الباحث ضرورة وجود عاملين (حتى نتعامل باحترام مع أي شخص يرجع لأنماط التفكير البدائية، وينهل منها بشكل يتكامل مع العقل الواعي، العقلاني) وهما: الأخلاقيات والجماليات، أن يتبنى الفرد أخلاقيات ويعبر عنها بشكل جمالي.
في النهاية، ينتقد الكاتب بشدة تلك النزعة الدموية في محاربة وقمع كل أشكال الوعي القديمة، فكل مرحلة تحاول طمس ما قبلها، فتاريخ الوعي عسكري دموي، لم يتطور من مرحلة إلى أخرى، ولكن كل المراحل لاتزال في حرب مستعرة فيما بينها.
من وسط كل تلك الحروب خرج التفكير العقلاني النقدي، الرياضي، الفلسفي، واصماً كل الأشكال السحرية باعتبارها المسؤولة عن غباء الإنسان البدائي، وخضوعه، وعجزه عن فهم نفسه ومجتمعه وقوانين الكون بشكل فعال، وملأ الدنيا حروباً باسم النور، والحق، والله، والمسيح.
وبهكذا وصلنا لشكل العقل الحديث، في الداخل طبقات كثيفة، وصلبة، وقديمة، وأسطورية، وغير عقلانية، وعلى السطح تطفو قشرة ضعيفة وهشة، قد لا تثبت أمام الزلازل والصدمات، اسمها "الوعي العقلاني"، ولكنها فعالة جداً في تفسير الواقع، وضبط إيقاعه بطريقة تسهّل علينا التنبؤ بمساره المستقبلي.
بحسب "أنا حكّا" لا يوجد إنكار للواقع كما فعل بوذا، أو صراع بين قوى الشر والخير، ولا إله أو شيطان كما تخيل زارادشت، ولكن حركة دائمة لرموز وأشكال تهدف إلى التوازن الإدراكي والاستمرارية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت