شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
يناير 2011... حشد العاديين في مواجهة السلطة

يناير 2011... حشد العاديين في مواجهة السلطة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 24 يناير 202209:56 ص


"احلِب الدَّر (اللَّبن) حتى ينقطع، ثم احلِب الدم حتى يَنصرِم (ينقطع)" (من كتاب الخليفة الأموي سليمان ابن عبد الملك لعامله على مصر أسامة ابن زيد التنوخي، في معرض كلامه عن علاقة مركز الحكم بالأطراف).

ثورة 1919... روح الأمة القومية

تتشكل الأمم عبر الأحداث الكبرى التي تخلق معها قناعات كبرى بأن هؤلاء الذين يتشاركون نفس الأرض حتماً يتشاركون نفس المصير. كان الحدث الفارق في تاريخ مصر الحديث هو ثورة 1919.

خلقت ثورة 1919 روح الأمة القومية، وولّدت نظرة المصريين لأنفسهم كأمة لها امتداد أفقي في الجغرافيا وامتداد رأسي في التاريخ، بعد قرون من نظرتهم لأنفسهم على أنهم مجرد فلاحين خاضعين لحكم إمبراطوري يقع مركزه في بلاد بعيدة، أو على أفضل الأحوال رعايا لحاكم إمبراطوري بمسمّى الإمبراطور أو الخليفة أو السلطان، لا يتكلم لغتهم ولا علاقة تربطهم به إلا من خلال سلطات الجباية وسلطة القمع.

هي أعظم ثورات مصر الحديثة. فيها خرج الفلاحون، الذين لم يكونوا يعرفون انتماء إلا لقراهم، كمصريين يجمعهم رابطٌ عابر لروابط القرية أو الأسرة أو القبيلة أو الدين، شاعرين بأن لديهم تعريفاً آخر جامعاً يضعهم كمجموعة مميزة من الناس تواجه مجموعة أخرى يسمونها أجانب محتلين.

وهنا يظهر الوعي بفكرة الـ"نحن" مقابل الـ"هم" المحتلين كأحد أهم عوامل تشكيل الأمم. يخلق هذا الوعي الإحساس بالمشترك الوطني الذي يصقله حدث ملحمي مشترك يجمع ناس سوياً مثل الثورة أو الحرب.

يوليو... الخبز مقابل الكلام

كان المطلب الأهم لثورة 1919 هو الاستقلال، أي أن يكون المصريون مستقلين. أبناء مصر مصريون مقابل "هم" أوروبيون أو إنكليز أو حتى أتراك... لكن، وعلى الرغم من هذا الإحساس القومي الجارف الذي يُعتبر جزءاً من قيام أي أمة، إلا أن تلك الثورة كان ينقصها ما تميّزت به ثورات أوروبية سابقة، وهي ثورة الحقوق والمساواة الفردية، أي أن يكون المصريون مواطنين أفراداً أحراراً متساوين.

ورغم ما تلاها من إقرار العديد من الحقوق السياسية والدستور، إلا أن فكرة الحقوق والمواطَنة ظلت غريبة وظل الصراع السياسي منحصراً بين طبقة من أعيان الريف وطبقة قليلة من أفندية المدن. ورغم سيطرة أبناء المصريين على مفاصل الدولة، خاصة بعد معاهدة 1936، بعدما ظلت لفترة طويلة حكراً على العثمانيين أو الأوروبيين، إلا أن تعايش النظام الاجتماعي ما بعد ثورة 1919 مع مظالم ضد المواطنة والمساواة جعلت النظام نفسه لا يقوى على مواجهة انقلاب ضعيف التنظيم مثل انقلاب الضباط الأحرار.

"كما كانت ثورة 1919 أول حدث ملحمي لتعريف المصريين لأنفسهم على أنهم أمة بالمعنى القومي، كانت يناير أول خطوة لتعريف المصريين لأنفسهم كمواطنين لهم حقوق أمام مَن يحكم"

كان النظام قد مات سريرياً وصار غير قادر على أي مواجهة، لذا كانت حركة يوليو ضرورة تاريخية لا يمكن منعها. جاءت الحركة الجديدة بشعار أن ساكن قصر الحكم يعرف أكثر ولديه وحده والمجموعات المتحلقة حوله الحق في الفعل السياسي والحق في القرار وبشعار آخر هو الخبز مقابل الكلام، وحوّلت الجماهير إلى "ملايين الشعب تدق الكعب وتقول كلنا جاهزين"، أي كتلة واحدة صمّاء تقف خلف زعامة واحدة بلا تباينات وبلا مصالح متناقضة، وخلقت نخبة حاكمة تُجنَّد من مؤسسات الدولة الصلبة القائمة على الولاء لمركز الحكم لا من مؤسسات سياسية قائمة على تمثيل مصالح الناس. لذا لم يكن لها أن تستمر وإنْ استمرت لم يكن لها أن تنتصر.

يناير... انتفاضة العاديين

كما كانت ثورة 1919 أوّل حدث ملحمي لتعريف المصريين لأنفسهم على أنهم أمة بالمعنى القومي، كانت يناير أول خطوة لتعريف المصريين لأنفسهم كمواطنين لهم حقوق أمام مَن يحكم.

كانت يناير الاستجابة التاريخية لتحدّي دولة يوليو القائمة على أسس تمييزية في أساسها، تعطي حقوقاً أكبر للنخب الحاكمة، تزيد كلما اقتربت من دوائر الحكم.

دولة يوليو التي تعددت فيها الجهات السيادية خلقت مصريين سياديين لهم حقوق أكثر ومصريين عاديين تقلّ حقوقهم كلّما ابتعدوا عن دوائر القوة والنفوذ السياسي ومن ثم الاقتصادي.

كانت يناير أول تحرك جمعي يقوم به المواطن المصري العادي الذي يتحالف مع عاديين آخرين لمواجهة السياديين من نخب يوليو أو شبكات المصالح التي تكاثرت بفعل طول الزمن وضعف أدوات المحاسبة.

نعم، سبقت ذلك تحركات كبيرة مثل "ثورة الخبز" في يناير الآخر، عام 1977، لكنها بقيت مطالب اقتصادية استطاعت دولة يوليو تفكيكها بالمناورة عليها.

"يناير كانت حشد العاديين أمام السلطة وصرخة تطالب بحقوق غير قابلة للمصادرة: الحق في العيش يساوي الحق في الحرية يساوي الحق في العدالة الاجتماعية يساوي الحق في الكرامة الإنسانية"

لم تقم يناير ضد حاكم أجنبي تطالبه بالاستقلال السياسي، ولا ضد والٍ معيّن من إمبراطورية بعيدة لمطالبته برفع مظالم السلطان، بل كانت ضد حكم مركزه القاهرة، وشبكات مصالح محلية الصنع ومحلية الأداء.

قامت ضد صورة من استبداد وطني كان أكثر فاعلية من الاستبداد الأجنبي، بحكم طول الزمن وتراكم الخبرات وتداخل الشبكات الزبائنية التي تُبعد مصريين وتقرّب مصريين آخرين لهم رغبة ومصلحة في استمرار نظام قائم على التمييز، طالما التمييز يسير وفقاً لمصالحهم...

يناير كانت حشد العاديين أمام السلطة وصرخة تطالب بحقوق غير قابلة للمصادرة: الحق في العيش يساوي الحق في الحرية يساوي الحق في العدالة الاجتماعية يساوي الحق في الكرامة الإنسانية.

نعم، تراجعت يناير لعدم وضوح رؤية صانعيها وانقسام مَن شاركوا فيها وتغلغل ثقافة شعبوية تَقصر الديمقراطية على نتائج صناديق الانتخابات ولا تستطيع الإجابة على أسئلة محورية مثل علاقة الدين بالدولة، والسوق بالمجتمع، والمدني بالعسكري.

عجزت يناير عن تطوير انتصارها الجزئي بعد الإطاحة برأس النظام، لأنها فشلت في إدراك طبيعة المصالح القابعة تحت جبل الجليد، وهي مصالح متعلقة ببنية وتركيبة جمهورية يوليو وليس فقط بنظام حسني مبارك.

الثورات في تواريخ الأمم أحداث فارقة ما قبلها ليس كما بعدها. قد تتراجع أو تمر بهزائم كبرى لكنها أبداً لا تمر دون أن تترك أثراً كبيراً يمكن البناء عليه في قادم الأيام.

الثورات مثل الحروب، مثل العمليات الجراحية، لا يحب الناس دخولها إلا للضرورة، لكن إذا دخلوها فهي حتماً ستخلق واقعاً جديداً ووعياً جديداً. كما أن تجنب الثورات لا يأتي بتكرار الحديث عن خطورتها ولا بأن نقول للناس "لا تثوروا على مظالمكم"، لكن بتجفيف منابع هذه المظالم.

تظل يناير 2011 مثل مارس 1919 خطوة لمعرفة المصريين بذواتهم وحقوقهم وبأنهم أمة لها حقوق لا يمكن أبداً أن نقفز فوقها بالادّعاء بأن الدولة أهم من الأمة أو بأن حقوق الحاكم أسبق من حقوق المحكوم.

مصر أمة لها دولة وليست دولة لها أمة. قد تُهزم يناير أمام يوليو، لكن المارد الذي يخرج لا يعود حتى ولو توارى قليلاً خلف سحب الدخان.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard