تقول الأسطورة اليونانية إن ساتورن تخلّص من حُكم أبيه وحَكَم بدلاً منه. وخوفاً من أن يُطاح به من قبل أبنائه كما فعل بأبيه، كان يأكلهم عند ولادتهم. ومن هذه الأسطورة قال جاك ماليه دوبان Jacques Mallet du Pan مقولته العابرة للزمن: "مِثل ساتورن، تأكل الثورات أبناءها".
في تاريخ الثورات الجذرية الناجحة، كما في فرنسا وروسيا وإيران، تنقلب السلطة الجديدة على صنّاع الثورة وأكثر المخلصين لأفكارها وأدواتها التي مهدت لقيامها. فبعدما كان روبسبيير صانع عصر الإرهاب الثوري في الثورة الفرنسية صار هو نفسه ضحيته، وأيضاً كان "الرفيق" ليون تروتسكي ضحية رفيق آخر هو ستالين، كما اغتالت الثورة الإيرانية أبناءها صادق قطب زاده وآية الله طالقاني وتخلصت من آية الله شريعتمداري.
لكن هل ينطبق هذا على الثورات المضادة؟
هل تأكل الثورات المضادة أيضاً أبناءها؟
تختلف الثورات المضادة عن الثورات في الأهداف والأساليب والإستراتيجيات النهائية وفي فلسفة الحكم، ولكنهما تتفقان في شيء واحد وهو الميل إلى تدمير أدواتهما بعد فترة من الزمن.
تُقدّم الثورة المضادة في مصر نموذجاً مثالياً للتدليل على هذه الفكرة. بعد عامين من تردد وارتباك الثورة المصرية وتفتتها في استقطاب حاد بين يناير إسلامية ويناير مدنية، نجحت دولة يوليو العسكرية التي تأسست في 1952، في استعادة سيطرتها، وللمفارقة في تموز/ يوليو 2013.
دولة يوليو العسكرية
ولتحقيق هذه السيطرة، احتاجت الثورة المضادة إلى أن تمرّ بثلاث مراحل لتأكيد سيطرتها والتخلص من خصومها. كانت المرحلة الأولى هي مرحلة عزل الإخوان وهي المرحلة التي تحالفت فيها دولة يوليو مع المكون المدني (الديمقراطي) لثورة يناير، وكانت مرحلة قصيرة شهدت تكوين تحالف مع شخصيات وأحزاب مدنية تردد خطاباً سياسياً محتواه يقول إن الديمقراطية ممكنة لكن بدون الإسلاميين وإن يناير عمل شرعي اختطفه الإخوان.
أما المرحلة الثانية فكانت مرحلة تجفيف السياسة وتجريم العمل السياسي وهي مرحلة تم التخلص فيها من حلفاء المرحلة الأولى، عبر سجنهم والتنكيل بهم والتضييق على نشاطهم وتخوينهم. وجرى خلالها ترديد خطاب مفاده أن المعارضة الديمقراطية ما هي إلا مؤامرة من مؤامرات "حروب الجيل الرابع"، وأن يناير "أم الكوارث"، تمهيداً للتخلص التدريجي من شخصيات محسوبة على المعارضة المدنية.
شهدت المرحلة الثانية إمعاناً في تسميم أجواء المناقشة السياسية، باستخدام خطاب إعلامي تصعيدي وتلميع شخصيات صدامية صنعت خطاباً سياسياً تحريضياً استهدف كل رموز المعارضة المدنية الديمقراطية.
أبرز هذه الشخصيات الصدامية توفيق عكاشة ومرتضى منصور وعبد الرحيم علي، بالإضافة إلى إعلاميين مثل أحمد موسى ومحمد الباز وغيرهم ممّن لديهم "مهارات" الشحن والحشد وبثّ الغضب لدى مؤيدي النظام وإرهاب المعارضين، وتخوين يناير والمشاركين فيها.
وفي سبيل تخوين المعارضين، أذيعت مكالمات تلفونية خاصة لهم، تبدو عادية تماماً، لكن تحت تأثير التحريض الكبير صُوّرت على أنها دليل على الخيانة والتآمر على الوطن.
كان الخطاب التحريضي والقاموس اللفظي السليط ضرورياً لخلق مناخ استقطابي فيه تحقير شديد للخصوم وتنكيل بهم، بهدف منعهم من حقهم في الكلام والاختلاف.
أزمة الاستحقاق
كانت الاستعانة بشخصيات لديها هذه "المهارات" ضرورية للثورة المضادة غير أن الثورات المضادة تقع في أزمة استحقاق بعد فترة من الزمن، فالاعتماد الكثيف على شخصيات بعينها لحمل خطابها وحشد جماهير حولها يخلق شعوراً بالاستحقاق والحصانة لدى مَن استعانت بهم لتنفيذ مخططها.
يتسرب شعور لدى هؤلاء بأن لهم يداً عليا على النظام وأنهم ساعدوه في تثبيت دعائمه وفي تمكينه بما يمنحهم مراكز قوة وتأثير محصّنة.
تقول الأسطورة اليونانية إن ساتورن تخلّص من حُكم أبيه وحَكَم بدلاً منه. وخوفاً من أن يُطاح به من قبل أبنائه كما فعل بأبيه، كان يأكلهم عند ولادتهم. ومن هذه الأسطورة قال جاك ماليه دوبان مقولته العابرة للزمن: "مِثل ساتورن، تأكل الثورات أبناءها"
باستخدام التاريخ المصري القريب كمثال، يظهر عبد الحكيم عامر، الضابط محدود القدرات العسكرية الذي بنى نفوذه بحكم صلته بجمال عبد الناصر وقدرته على تكوين علاقات قوة داخل المؤسسة العسكرية الحاكمة. تحوّل عامر بمرور الوقت إلى مركز مناوىء لرأس النظام نفسه بما لديه من قدرات على السيطرة على القوات المسلحة ومن رصيد في سيطرة حركة يوليو على الحكم والتخلص من خصومها. تضخّم نفوذ عبد الحكيم عامر وتضاعف إحساسه بالاستحقاق إلى درجة جعلت عبد الناصر يستغل هزيمة يوليو للإطاحة بصديقه اللدود.
مع فارق في النفوذ والقدرات، حدث ذلك مع مرتضى منصور وعبد الرحيم علي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وربما يحدث مع غيرهم في المستقبل. ظن هؤلاء أن لهم أيادي بيضاء على النظام ولم يدركوا طبيعة الدور الذي رُسم لهم وسُمح لهم بلعبه، ما خلق لديهم إحساساً مبالغاً فيه بالحصانة أو حتى بأنهم فوق النظام نفسه وقادرون على تكوين مواقف مستقلة.
فعبد الرحيم علي، صاحب "الصندوق الأسود"، والذي لطالما سرّب مكالمات شخصية لمعارضين، شرب أخيراً من نفس الكأس. في تسريب نُشر مؤخراً له، يتباهي بأنه فوق القانون وبأن رأس النظام نفسه غير قادر على محاسبته: "أنا عبد الرحيم علي... ده رئيس الجمهورية ميعرفش يوديني النيابة... عبد الفتاح السيسي ما يعرفش يوديني النيابة العامة".
أما مرتضى منصور، فظل يهاجم الجميع ولم يسلم من هجومه رئيس الحكومة ووزراء، ما جعله عبئاً على النظام ذاته.
المرحلة الثالثة للثورة المضادة
أدرك النظام أنه بحاجة للدخول في مرحلة ثالثة، وهي مرحلة التخلص من وجوهه التي شاركت في صناعته بعد تحوّلها إلى عبء عليه، واستبدالها بأخرى صنعها النظام "على عينه" وضمن ولاءها دون أن يكون لها أي موقف مستقل أو أي إحساس بالاستحقاق والتفوّق.
"تحمل الانتخابات البرلمانية المصرية العديد من الرسائل، أهمها أننا أمام مرحلة أخيرة من مراحل تثبيت النظام لنفسه. ولكن في هذه المرة، لم تتوجه الضربات ضد المعارضين بل ضد وجوه ساهمت في صناعة أساطير النظام وخطابه السياسي والإعلامي"
بدأت حملة التخلص من رموز الثورة المضادة بالتخلص من توفيق عكاشة الذي شرع في تكوين مواقف تحرج النظام، مثل اجتماعه بدون تنسيق مع السفير الإسرائيلي في القاهرة، فأطيح به من البرلمان.
ثم أتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة لتشكّل فرصة أخرى للنظام للتخلص من عبد الرحيم علي، بعد هزيمته في دائرة الجيزة والدقي أمام محمد أبو العينين، رجل الأعمال المقرب من السلطة ونائب رئيس حزب مستقبل وطن (الحزب المفضل للأجهزة الأمنية) وزكي عباس مرشح نفس الحزب.
محمد أبو العينين
وفي نفس الدائرة، تعرّض أحمد مرتضى منصور لنفس المصير بعد هزيمته القاسية، في إشارة إلى تراجع نفوذ والده وعدم قدرته على تكوين تحالفات قوية جديدة داخل دوائر السلطة.
الأمر نفسه تكرر مع مرتضى منصور نفسه في دائرة ميت غمر، مسقط رأسه، حيث تعرّض لهزيمة غير متوقعة جعلته يحتل المركز السادس ويخرج حتى من المشاركة في جولة الإعادة، ما دفعه إلى اتهام النظام بتزوير الانتخابات لإسقاطه.
تحمل الانتخابات البرلمانية المصرية الجارية العديد من الرسائل، أهمها أننا أمام مرحلة أخيرة من مراحل تثبيت النظام لنفسه. ولكن في هذه المرة، لم تتوجه الضربات ضد المعارضين بل ضد وجوه ساهمت في صناعة أساطير النظام وخطابه السياسي والإعلامي المحرض، لتتأكد الحكمة التقليدية: حتى الثورات المضادة لها أنياب، مثل ساتورن، تأكل بها أبناءها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.