حينما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تبنّت إيطاليا الفاشستية حلماً رومانياً عتيقاً، وهو إعادة فرض السيطرة على البحر المتوسط مُجدداً، وهو البحر الأجاج الذي تحوّل إلى بحيرة رومانية خالصة في عهد الإمبراطورية الرومانية، حتى أن العرب منحوه اسم "بحر الروم".
عودة إلى التاريخ
ضمن الأسباب التي ساقتها "إيطاليا موسوليني" لتُشرعِن لنفسها هذه السيطرة المأمولة، هو أن مواطنيها شاركوا في حفر قناة السويس!
ادّعت إيطاليا أن مهندساً إيطالياً يُدعي إدوارد جويا (Gioi) قاد جزءاً من أعمال حفر القناة. ليس هذا وحسب، بل وإن أفواجاً إيطالية عديدة شاركت في حفر القناة جنباً إلى جنب مع الفلاحين المصريين.
لا يُمكننا تصنيف هذا الادعاء الإيطالي في خانة الأكاذيب أو المبالغات الشوفينية التي سادت هذا العصر المضطرب، وإنما هو بالفعل حقيقة دامغة وثّقتها ما حفظته لنا ملفات شركة القناة إبان أعمال الحفر.
فالإيطاليون، مثل جنسيات أخرى عديدة أخرى، ساهمت في أعمال حفر القناة بجانب المصريين، وخاصة بعد قرار الحكومة المصري بإلغاء السخرة سنة 1864م، بسبب الخلافات المتصاعدة بين الخديوِ إسماعيل وبين إدارة شركة القناة، بقيادة فرديناند ديلسبس.
وحين التعرّض إلى هذه النقطة لا مفرّ من التأكيد على حقيقة لاريب فيها وهي أن الأغلبية العُظمى من حفّار القناة هم الفلاحون المصريون، الذين شقّوا مجراها بالعرق والدم، وبسخرة مميتة ومقيتة شلّت الحياة في أرض مصر. لا جدال في ذلك، وفقاً لما أكدته تقاطعات حكايات التاريخ شرقاً وغرباً. أما في هذا الموضوع، فنتعرّض لنقطة خافية عن الأعين، وهي دور العمال الأجانب في حفر القناة بجانب دور المصريين الذي يعلمه الجميع.
ولفهم هذا الأمر جيداً، سيتعيّن علينا العودة بعقارب الساعة إلى الوراء كثيراً، وتحديداً في يوم 30 نوفمبر عام 1854، حين ظفر فرديناند ديلسبس بعقد امتياز إنشاء قناة السويس من صديقه محمد سعيد باشا والي مصر (لم يُلقّب حاكم مصر بالخديوي إلا في عهد إسماعيل الذي تولّى الحُكم بعد سعيد).
حينما اندلعت الحرب العالمية الثانية، تبنّت إيطاليا الفاشستية حلماً رومانياً عتيقاً، وهو إعادة فرض السيطرة على البحر المتوسط مُجدداً. ضمن الأسباب التي ساقتها "إيطاليا موسوليني" لتُشرعِن لنفسها هذه السيطرة المأمولة، هو أن مواطنيها شاركوا في حفر قناة السويس
ما قبل السخرة: مرحباً بمسيحيي سوريا
على الرغم من ضخامة المشروع، فضّلت شركة قناة السويس ألا تستعين بأي آلات حفر ميكانيكية عملاقة من المتوفرة أيامها، وإنما فضّلت الاعتماد على العمالة اليدوية التي تستخدم الفأس والمقطف كأدوات وحيدة للعمل.
وفي هذا الصدد، اعتمدت الشركة على المصريين كمصدر أول لجلب العمال، سواء بمحاولات الإقناع الودية التي انتهجتها الشركة في بداية عملها، أو عبر تطبيق نظام السُخرة بأمرٍ من الوالي، والذي ضمن تدفّق 20 ألف فلاح على موقع كل شهر.
ووفقاً لكتاب دكتور عبدالعزيز الشناوي السخرة في حفر قناة السويس (2010)، فإن هذا لم يمنع من استعانة الشركة بعمالٍ أجانب من فرنسا والنمسا وبحارة من اليونان، وتمّيز العمال النمساويون عن غيرهم بامتلاكهم خبرات فنية بشأن عمليات الحفر، وهو ما أقرّه ديلسبس بنفسه في محاضرة ألقاها داخل اتحاد المهندسين في باريس بيونيو 1862، كشف فيه أن الشركة دأبت على الاستعانة بالعمال الأوروبيين ذوي الإخلاص والذكاء.
حينما وقع الشقاق الأول بين الوالي سعيد وبين ديلسبس في يونيو 1859م، وجّهت الحكومة المصرية -على لسان شريف باشا ناظر الخارجية- خطابات إلى القناصل الأجانب في مصر، تُخطرهم بضرورة سحب مواطنيهم الأجانب من مواقع الحفر، وهي التعليمات التي لم ينفذها أحد بفضل النفوذ الهائل لسفراء الدول الأجنبية حينها، والذي فاق نفوذ الوالي نفسه.
وبحسب تقرير إحصائي أعدّته شركة القناة وقتها، بلغ عدد العمال الأجانب 80 فرداً في مقابل 220 مصريّاً عملوا في الموقع وقتها.
وفي أكتوبر من ذات العام، اجتمع شريف باشا بقناصل 16 دولة أوروبية يمتلك العمال الأجانب في منطقة السويس جنسياتها. اتّفق شريف باشا مع الحضور على ضرورة إخلاء الموقع بسبب الخلاف المتصاعد بين الحكومة المصرية وإدارة القناة، وبسبب الاحتجاجات الإنجليزية والعثمانية المستميتة على المشروع، وهو ما وافق عليه القناصل هذه المرة، ومن ضمنهم ساباتيه، قنصل فرنسا العام في مصر.
اعتمدت شركة قناة السويس على المصريين كمصدر أول لحفر القناة واستعانت بعمال أجانب من فرنسا والنمسا وبحارة من اليونان بعد أن كانت موجة العمال الأولى من مسيحيين أهل الشام
لكن بُوغت ساباتيه بالرفض يأتي من العمال أنفسهم، وبحسب الشناوي، انصاع العمال الأجانب لأوامر قناصلهم إلا الفرنسيون الذين نظموا تكتلاً بزعامة أحد العمال يُدعى لاروش (Laroch)، وخطب في زملائه قائلاً: "إن القنصل لا يستطيع أن يحملنا على البقاء في البرزخ إذا قررنا نحن مغادرته. أما والحال هذه فقد صممتُ على البقاء".
وفي هذه الأزمة، انحازت الإمبراطورة الفرنسية أوجيني لصفِّ العمال، ولاحقاً صدرت التعليمات بنقل ساباتيه من مصر بسبب سوء إدارته لملف العاملين الفرنسيين في القناة.
بعد هذه الأزمة شكّل العمال الفرنسيون مركز قوى في مواقع العمل، لذا حرص القنصل الإنجليزي في مصر كولكوهم (Colquhoum) على لقائهم خلال زيارته موقع الحفر في 30 يونيو 1861م، وبحسب كتاب برزخ السويس: مجلة اتحاد البحار (1861)، احتفى العمال الأجانب بهذه المناسبة، وأقاموا للقنصل حفل تكريم. من بين هؤلاء العمال نعرف فرنسياً واحداً هو تويليله (Thuilier) بعدما تطوّع بإلقاء قطعة من الشعر بالفرنسية نظمها للقنصل خصيصاً على شرف تلك الزيارة، قال له فيها:
شكراً لك بوجهٍ خاص يا ممثل إنجلترا العظمى
قد أدركت حقيقتنا وأصدرت حكمك لنا
أنتَ بذلك تعمل على توكيد الاتحاد بين شعبي إنجلترا وفرنسا.
فرد عليه القنصل قائلاً: "أنتم هنا ممهدو الطرق للحضارة، إنكم تواجهون بشجاعة الجو الحار والصعاب التي لابد منها في هذا المشروع الضخم، إنكم تضربون أحسن الأمثال للعمال المصريين الذين يعملون في صفوفكم".
برغم رغبته العميقة في ذلك، لم يستطع سعيد تقليل حجم العمالة الأجنبية الوافدة لحفر القناة، فاكتفى بتقليل أعمال المصريين الوافدين على موقع الحفر، حتى تحسّنت علاقته بديلسبس، فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قديماً.
ورغم هذا التحسّن، آثرديلسبس عدم التعرض لذات المشكلة مُجدداً، فطالما أن قرار تزويد المشروع بالعمال المصريين في يد الوالي وحده، فمن الممكن حدوث التجميد مرة أخرى لو نشبت الخلافات مُجدداً بين الشركة والوالي. لذا فكر في ديلسبس في الاستعانة بعمّال شوام يشكلون نسبة ليست بالقليلة من إجمالي العاملين.
إن شاباً شامياً يُدعى حبيب، ينحدر من نسب التاجر الدمشقي جبرائيل السكاكيني، أدّى دوراً كبيراً في إنقاذ مشروع قناة السويس من الانهيار
وفي هذه الأثناء، تحديداً في صيف 1860م، حدثت وقائع الفتنة الطائفية الكبرى بين الدروز والموارنة في لبنان، سقط فيها آلاف الضحايا وأُحرقت من الجانبين قرى كاملة عن بكرة أبيها، ولولا دور الأمير الجزائري الشهير عبدالقادر في وأد الفتنة وإسكان المسيحيين في منازله لاشتعلت الأمور أكثر وأكثر، وهو الدور الذي لاقى بسببه إشادة أوروبية واسعة المدى.
أعقبت هذه الأزمة الاجتماعية أزمة اقتصادية كبرى في العام التالي، وانتشرت البطالة في البلاد السورية، ما دفع الفلاحين إلى الهجرة من قراهم إلى دمشق أو لبيروت لتلمّس أسباب الرزق فيها.
سعى ديلسبس لاستغلال هذه الأوضاع لصالح مشروعه، فعيّن مندوباً عنه في بيروت هو نيكولا بورتاليس (Nicolas Pprtalis)، وفي 23 يناير 1861م، أرسل له خطاباً قال فيه: "لقد تحدثتَ معي كثيراً بخصوص احتمال جمع عمال مسيحيين من سوريا، وقد حان الوقت لنبحث هذا الموضوع سوياً، وعليكم أن تعملوا بلباقة وفي طيِّ الكتمان في سبيل حضورهم، ويجب ألا تتفاوضوا مع الزعماء أو الرؤساء أو العائلات التي لها بأس وسيطرة، فهؤلاء جميعاً يعملون على استغلال العمال. عليكم أن تتجهوا إلى العمال مباشرة".
وبحسب الشناوي، فإن العروض التي تقدّمت بها الشركة لاستخدام العمال السوريين قامت على 5 مبادئ، هي:
أولاً: تستخدم الشركة الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و40 عاماً.
ثانياً: تُحتسب الأجور إما على أساس أيام العمل وإما على أساس الإنتاج. في الحالة سيُمنح العامل فرنكاً واحداً يومياً، وفي الحالة الثانية سينال أجراً أكبر كلما حفر أكثر.
ثالثاً: لا تمانع الشركة استخدام الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 16 عاماً، كما يمكن استخدام المُسنين والسيدات، مع تعهد الشركة بتكليفهم بأعمال تتناسب مع حالتهم.
رابعاً: الأشخاص الذين بحوزتهم جمال يستطيعون الحضور بها من سوريا إلى موقع الحفر عن طريق الصحراء، وتستأجر الشركة منهم هذه الجمال، وتدفع عن كل جمل مبلغاً قدره 2.5 فرنك يومياً.
خامساً: عند انتهاء أعمال حفر القناة، ستوزّع الشركة على جميع العمال السوريين الراغبين في الإقامة داخل مصر أراضي لزراعتها واستغلالها.
لم يكتف ديلسبس بجهود عامله في بيروت، وإنما قرّر السفر بنفسه إلى الشام ليسيح في أرضها مروِّجاً لمشروعه. كتب خطاباً لأحد أصدقائه في باريس يقول فيه: "سأقوم برحلة إلى فلسطين. وأرجو أن تُسهم دعايتي الشخصية في زيادة عدد العمال، وسأقوم أثناء طوافي بهذه البلاد بتوزيع إعلانات طبعتُها في القاهرة باللغة العربية، تدعو الأهالي إلى الاشتراك في عمل جاء ذِكره في الإنجيل والقرآن، وأرجو أن يستبدل هؤلاء الرجال حياتهم الحافلة بآلالام والبؤس بحياة شريفة ومكسب مضمون".
وبدءاً من مارس 1861م، قام ديلسبس بجولة شامية كبرى؛ من غزة إلى بيت المقدس ثم يافا وحيفا ومنها إلى سوريا، وفي كل مدينة يذهب إليها يعيّن مندوباً عنه يتولّى جمع العمال ويشرف على سفرهم إلى سيناء.
منح نظام السخرة للحكومة المصرية الحق في انتزاع الفلاحين من حقولهم وإجبارهم على العمل عنوة في المشاريع العامة كأحد أشكال تسديد الضرائب بشكلٍ غير مباشر
كما استعان ديلسبس ببعض الشخصيات الدينية لتشجيع الناس على الاستماع إليه، منهم الشيخ عثمان محمد، شيخ مسجد عمر في بيت المقدس الذي ناشد الناس قائلاً: "أيها الناس، كونوا السواعد القوية لديلسبس، امسكوا الفؤوس واعملوا طوع أمره. استمعوا أيها الإخوان لكلام مبعوثيه. أيها الناس ادعوا الله أن ينصر ديلسبس واطلبوا إلى الله القوي القدير أن يبارك عمله في وصل البحرين".
وإزاء تدفق السوريين على موقع القناة، عيّنت لهم الشركة قاضياً شرعياً من سوريا للبتِّ في أي منازعة تقوم بينهم.
إقبال السوريين على على حفر القناة، اتخذته الشركة ذريعة للترويج لها، فنشرت جريدة الشركة مقالاً قالت فيه: "إن حالة الضنك والآلام التي يعانيها سكان سوريا في هذه الأيام من جراء أزمة التموين والاضطرابات السياسية دفع شركة القناة لتوفير أسباب العيش امام السوريين في هذه الظروف الحرجة، وهو ما يساعد على تهدئة الأحوال".
كما كتب لانج (Lange)، مندوب شركة القناة في لندن، خطاباً إلى جريدة ديلي نيوز Daily News في 11 سبتمبر 1861م، قال فيه: "تبرعت إنجلترا لمساعدة المسيحيين المنكوبين في سوريا. وهذا إجراء مؤقت سرعان ما يزول أثره. أما عمل شركة القناة فقد خفّف على هؤلاء المنكوبين من ويلات الحرب، وهذا الإجراء أعظم نفعاً وأعم أثراً".
سعت الشركة لاستقطاب 3 آلاف عامل من الشام، وبالرغم من أنها استهدفت في البداية المسيحيين فقط، إلا أن استجابة السوريين لها شملت المسيحيين والمسلمين معاً. رغم ذلك لم تحقق الشركة الهدف المطلوب، ولم يتجاوز عدد العاملين السوريين في القناة ألفي فرد -بحسب أكبر التقديرات- من إجمالي 7 آلاف فرد عملوا على حفر القناة حتى أبريل 1861م.
يقول الأديب قاسم عليوة في كتابه المدينة الاستثنائية قراءة مورفولوجية لمدينة بورسعيد (2007)، إن العمال اعتادوا إقامة حفلات سمر في الليل عقب الانتهاء من عناء الحفر اليومي. لم تقتصر هذه الحفلات المصغّرة على المصريين وحسب، وإنما على مَن وجد أيضاً من عمّال شوام، اعتادوا غناء أناشيد محلية، مثل:
يارايحن لحلب
حِبي معاكم راح
يا محملين العنب
تحت العنب تفاح.
يقول مسعود ضاهر في كتابه هجرة الشوام: الهجرة اللبنانية إلى مصر (1986)، إن شاباً شامياً يُدعى حبيب، ينحدر من نسب التاجر الدمشقي جبرائيل السكاكيني، أدّى دوراً كبيراً في إنقاذ مشروع القناة من الانهيار.
منذ صغره عمل حبيب مقاول بناء، وبحسب الكتاب فإنه حل معضلة عويصة واجهت ديلسبس خلال أعمال حفر القناة، وهي انتشار الفئران التي التهمت أكل العمال وقضمت الآلات ونشرت الأوبئة بين الحفّارين.
اقترح حبيب السكاكيني شراء أعداد كبيرة من القطط وتجويعها ثم إطلاقها في الصحراء، فأكلت الفئران كلها وارتاح ديلسبس من ذلك الصداع، ومن فرط إعجاب ديلسبس بحبيب كلّفه ببناء الأوبرا المصرية التي أُنشئت خصيصاً على شرف افتتاح قناة السويس، وبعد نجاحه في هذه المهمة منحه الخديوِ قصراً منيفاً في قلب القاهرة ولا يزال حتى الآن الحي الذي يقع بداخله القصر يحمل اللقب الشامي؛ "شارع السكاكيني".
تعرضت عمليات الاستعانة بأهل الشام في الحفر للتوقف بدءاً من أبريل 1861م، حين تمكّن ديلسبس من انتزاع موافقة الوالي على تزويد الشركة بعمالٍ مصريين عبر نظام السخرة، التي كانت تعطي للحكومة الحق في انتزاع الفلاحين من حقولهم وإجبارهم على العمل عنوة في المشاريع العامة، كتطهير الترع وإقامة القناطر، كأحد أشكال تسديد الضرائب بشكلٍ غير مباشر، فإن كان الفلاح لا يملك نقوداً يدفعها لتمويل المشروعات الكبرى فليُقمها بنفسه تحت تهديد سُلطة الدولة وكرباجها.
بهذا ضمنت الشركة لنفسها مدداً بشريّاً بلغ متوسط حجمه 20 ألف عامل شهريّاً، وهو ما دفعها للتخلّي عن استكمال خططها لاستغلال السوريين في أعمال الحفر.
اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية بين الولايات الشمالية والجنوبية الذي تركزت أسبابه بشكلٍ رئيسي حول إلغاء نظام الرق، جعل الحرية الإنسانية مطلباً عالمياً، ودفع المناشدات بإلغاء كافة أشكال استغلال البشر إلى مراكز الصدارة في الدنيا بأسرها ووجد صدى في مصر
إلغاء السخرة: مرحباً بمرتزقة أوروبا
ظلَّ تطبيق نظام السخرة محل استهجان الدول الأوروبية، وخاصة إنجلترا التي اتّخذت موقفاً معارضاً لفكرة المشروع برمتها، لذا لم تتوقف حكوماتها ومجالسها النيابية عن التنديد بالأساليب القمعية التي تتبعها الحكومة لإجبار الفلاحين على العمل في موقع الحفر.
وتكاثفت التقارير الإعلامية عن تعرّض هؤلاء المُسخرين لكومة من المشاكل؛ بداية من انتزاع الواحد منهم من داره وخوض رحلة طويلة إلى صحراء مصر الشمالية، حيث يُجبر على أداء عملٍ شاق تحت تهديد الكرابيج لا يحصل مُقابله على ماءٍ نظيفٍ أو طعامٍ شهي أو أجرٍ كاف.
وهنا يجب التأكيد على أن عملية حفر القناة تزامنت مع اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية بين الولايات الشمالية والجنوبية، والتي تركزت أسبابها بشكلٍ رئيسي حول رغبة الأمركيين الشماليين في إلغاء نظام الرق. هذه الحرب جعلت الحرية الإنسانية مطلباً عالمياً، ودفعت المناشدات بإلغاء كافة أشكال استغلال البشر إلى مراكز الصدارة في الدنيا بأسرها.
وهكذا وجدت المآسي التي تعرّض لها الفلاحون المصريون في موقع الحفر آذاناً خصبة حول العالم، وهو ما خلق ضغوطاً متزايدة على حكّام مصر، انتهت بقرار الخديوِ إسماعيل بإلغاء أعمال السُخرة وامتناع الحكومة عن توفير أي عمّال بالإجبار لشركة القناة، رغم الاحتجاجات الفرنسية الهائلة ضد هذا القرار.
وجدت المآسي التي تعرّض لها الفلاحون المصريون في موقع حفر قناة السويس آذاناً خصبة حول العالم، وهو ما خلق ضغوطاً متزايدة على حكّام مصر، انتهت بقرار الخديوِ إسماعيل بإلغاء أعمال السُخرة وامتناع الحكومة عن توفير أي عمّال بالإجبار لشركة القناة، رغم الاحتجاجات الفرنسية الهائلة ضد هذا القرار
وهو ما دفع الشركة لفتح أبواب الحفّارين الأجانب مُجدداً، وأعلنت أكثر من مرة استعدادها استقبال أي عدد منهم يعوّض النقص الهائل الذي طرأ على عدد العمال بعدما رفعت الحكومة المصرية يدها عن ذلك الملف.
أول مَن استجاب لنداء الشركة بالمساهمة في حفر القناة هم جماعات الصيادين اليونانيين الذين عاشوا على جُزر كاستلوريزو وأستيباليا وبتموس ورودس وكاسوس، والذين عانوا وقتها من ظروف معيشية صعبة جعلتهم يُقبلون على مهمة الحفر الشاقة في صحراء مصر.
تدّفق قرابة 4 آلاف يوناني على سيناء، وعاشوا الأوضاع الصعبة التي عانَى منها الفلاحون المصريون، كنقص الماء وارتفاع الحرارة وانتشار الأوبئة.
وعندما أنشأ ديلسبس مدينة جديدة أرادها أن تكون مقرّاً لإقامة العاملين في المشروع، ونقطة مركزية مستقبلية لاستقطاب الراغبين في العيش على ضفاف القناة، شكّل اليونانيون نسبة كبيرة من مكوّنها الديموغرافي الأساسي، لدرجة دفعتهم لمناشدة ديلسبس منح المدينة اسماً يونانياً هو "كاسوس الجديدة"، تيمناً بما فعله المهاجرون الأوروبيون بالعالم الجديد الذين أنشأوا مستعمرة "نيو أمستردام" والتي تحوّلت إلى نيويورك لاحقاً. على أية حال، لم يستجب ديلسبس لطلبهم، وفضّل إطلاق لقب الوالي سعيد على المدينة فحملت اسم "بورسعيد".
لاحقاً أصبح هؤلاء العمال النواة التي تشعّبت منها الجالية اليونانية في منطقة القناة، والتي استمرت في العيش في تلك المنطقة وارتبط أغلب أفرادها بقناة السويس من خلال العمل كمرشدين بحريين للسُفُن المارة عبر الممر الملاحي، حتى اضطر أغلب أفرادها إلى الرحيل عنها عقب العدوان الثلاثي في 1956م.
وثاني المستجيبين للنداء هم إيطاليون من منطقة كالابريا الواقعة جنوب إيطاليا، والذين أثارت أعدادهم الكبيرة مشكلة حكومية. فلقد كتب بشأنهم محافظ الإسكندرية تقريراً إلى الوالي قال فيه: "قدم الإسكندرية جمعٌ غفير من أهل كالابريا (Calabria)، وأخذوا يبيتون هنا وهناك في الشوارع، وقد علمنا أن 4 آلاف آخرين قادمون، ولما كان هؤلاء سفلة الناس، فمن المتوقع أن تصدر منهم حوادث مكروهة، وقد كلمنا قنصل إيطاليا في شأنهم فأبلغنا أن هؤلاء قد قدموا ليذهبوا إلى القناة للعمل فيها".
وبحسب الشناوي، فإن العمال الأوروبيين الذين استقدمتهم الشركة خلال حُكم إسماعيل كانوا ينزعون إلى العنف لأتفه الأسباب، ويتّخذون الإضراب عن العمل وسيلة لتحقيق مطالبهم كرفع الأجور ومد مواعيد السهر في الحانات.
ويضيف: كثيراً ما وقعت مصادمات دموية بينهم وبين زملائهم العمال المصريين، وكان ينجم عن ذلك وقوع ضحايا من المصريين، ما يدفع قناصل الدول الأجنبية للحضور من القاهرة أو الإسكندرية إلى ساحات الحفر لتهدئة الموقف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...