شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ملتقى الرومي وابن الفارض ببليغ حمدي وأحمد زكي... الفن كممارسة صوفية

ملتقى الرومي وابن الفارض ببليغ حمدي وأحمد زكي... الفن كممارسة صوفية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 23 فبراير 202211:30 ص

"عين الفنان تملك مقدرة صوفية هائلة على الاتحاد بموضوعها"، يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون Henri Bergson، حسبما نقل عنه الدكتور زكريا إبراهيم في كتابه "مشكلة الفن".

لتفسير العملية الفنية اتجاهات شتى، وليس بالضرورة أن تنفي إحداها الأخرى؛ فالنفس البشرية عموماً، والإبداعية خصوصاً، أعقد من حصرها في دائرة فكرية واحدة، ولكن لا يمكن إنكار، على الأقل، الرابط الظاهر بين التصوّف والفنون، وهو "الذوق"؛ فالذوق أساس للتفوّق في الفنون، والصوفي ذوّاقة يلتمس المعاني في جميع ما ينظر، حسبما يقول زكي مبارك في كتابه "التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق".

وقد مارس الصوفية الفنون في طقوسهم كالموسيقى والغناء والشعر والرقص واشتهروا بذلك، ولكننا في هذا المقال نسعى لتحليل ما هو أعمق من ذلك، وهو الرابط بين العملية الإبداعية الفنية، وبين العملية التعبّدية الصوفية.

فإذا كانت أرقى مرحلة روحية يصلها الصوفي هي الاتحاد بالله والفناء فيه، فأرقى مرحلة إبداعية يصلها الفنان هي مرحلة الاندماج، أو إن شئنا الاتحاد بعمله الفني والفناء فيه، حيث يصير الموضوع الفني هو المعشوق للفنان، يذوب فيه لدرجة الفناء، ويصبحا بمثابة شيء واحد، وينتج عن ذلك عمل إبداعي.

هل التجربة الإبداعية الفنية هي في عمقها تجربة صوفية اتحادية؟ هذا ما نجيب عنه، مستعينين بملامح من تجربتين لفنانين كثيراً ما يوضعا في صفوف العباقرة، هما الموسيقار بليغ حمدي والممثل أحمد زكي، ونتبع ذلك بتحليل فلسفي فني صوفي للفكرة.

إذا كانت أرقى مرحلة روحية يصلها الصوفي هي الاتحاد بالله والفناء فيه، فأرقى مرحلة إبداعية يصلها الفنان هي مرحلة الاندماج بعمله الفني والفناء فيه، حيث يصير الموضوع الفني هو المعشوق للفنان، يذوب فيه لدرجة الفناء، ويصبحا بمثابة شيء واحد، وينتج عن ذلك عمل إبداعي

بليغ حمدي: ادخل يا أنا

يحكي الإعلامي وجدي الحكيم، أن الموسيقار محمد عبد الوهاب سأله عن سر بين الله وبليغ حمدي، يجعله ملهماً طوال الوقت، يأتي إليه كل أسبوع ما يأتي غيره مرة واحدة في العمر؟!

فرد عليه وجدي بأن سر بليغ هو ذوبانه في اللحن خلال مراحل إنتاجه، لدرجة أنه لا يسمع ولا يرى من يكلمه، بل ينسى أن يأكل ويشرب، وينسى الذهاب لحفل عيد ميلاد زوجته وردة، وينسى الذهاب لموعد مع رئيس الجمهورية، حتى وصفه البعض بالبوهيمي.

يتحد بليغ بالكلمة التي يلحنها ويعيشها كأنه شاعرها، وعن علاقته بالشعراء الذين لحّن كلماتهم يقول: "كل واحد ممن عشت معهم عملاً فنياً هو أنا، وإذا أرسلت لأحد منهم خطاباً سأقول له: ازيك يا أنا". ويذكرنا ذلك بحال المتصوف الفارسي الشهير سعدي الشيرازي حين قال:

قال لي المحبوبُ لمَّا زرتُهُ: منْ ببابي؟ قلتُ: بالبابِ أنا

قال لي: أخطأت تعريف الهوى حينما فرَّقت فيه بيْنَنَا

ومضى عام فلمَّا جئتُهُ أطرُقُ الباب عليه مُوهِنا

قال لي: من أنتَ؟ قلتُ: انظُر، فما ثمَّ إلا أنتَ بالبابِ هُنا

قال لي: أحسنت تعريف الهوى، وعرفتَ الحب فادخُل يا أنا

كما يذكرنا بما قاله الصوفي البارز شمس التبريزي: أنا إن قلت أنت فإنني أنت الذي أعني وأقصد بالندا إيانا.

وكما ينتج عن تجربة الاتحاد لدى المتصوفة شِعراً منفجراً بالعشق الإلهي، نتج عن بليغ شعراً وألحاناً، هي أيضا محترقة بحب يبدو بشرياً، ولكن بآلية أو حال صوفي؛ ومن ذلك ما حكاه صديقه المخرج جميل المغازي عن تأليفه وتلحينه لأغنية "الحب اللي كان".

هل التجربة الإبداعية الفنية هي في عمقها تجربة صوفية اتحادية؟ هذا ما نجيب عنه في هذا المقال

كان بليغ في أبو ظبي عام 1979 مع مجموعة أصدقاء ومنهم جميل المغازي والمطربة سوزان عطية والمطرب محمد رشدي، وحينها اتصلت به زوجته الفنانة وردة وطلبت الطلاق، ووجد بليغ ألّا مفر من الأمر فوافق، ونتيجة لحالته، أخذ عوده وجلس يهذي بكلمات ويغنيها، ولاحظ أصدقاؤه الجالسون حوله ذلك، فمنهم من دوّن الكلمات، ومنهم من حفظ المقامات الموسيقية وأسلوب الأداء الذي كان عليه بليغ وهو في سُكره العاطفي لا يدري بهم ولا بنفسه.

بعدها نام بليغ كالمغشى عليه، وفي اليوم التالي سألوه عما كان يغنيه، فقال إنه لا يتذكر شيئا من الموقف كله! فأعطوه ما قاله وما لحنه، فأعاد معالجته بوعي فني ونتجت أغنية "الحب اللي كان" التي غنتها ميادة الحناوي، وكانت تصف حال بليغ نتيجة حزنه لفراق وردة.

هذا الموقف ليس الوحيد الذي يوضح حال بليغ، فمن ذلك ما فعله حين توفي صديقه عبد الحليم حافظ عام 1977، حيث أدى به حزنه إلى كتابة وتلحين أغنية "بنلف" في نفس ليلة جنازة العندليب، وغنتها وردة:

ما فعله بليغ لم يكن نتيجة تعمده أن يؤلف أو يلحن، وإنما نتيجة احتراقه، فكان شعره ولحنه لسان حاله الحزين، الذي أدخله في سُكر، ومن ثم إلى اتحاد بموضوعه (طلاقه لحبيبته أو وفاة صديقه)، فنطق لسانه وعوده بما نتج عن احتراقه الداخلي.

سر بليغ حمدي هو ذوبانه في اللحن خلال مراحل إنتاجه، لدرجة أنه لا يسمع ولا يرى من يكلمه، بل ينسى أن يأكل ويشرب، وينسى الذهاب لحفل عيد ميلاد زوجته وردة، وينسى الذهاب لموعد مع رئيس الجمهورية، حتى وصفه البعض بالبوهيمي

لو تأملنا حاله لوجدناه يتطابق مع ما كان يحدث مع متصوفة وهم في حالة سكر روحي واتحاد صوفي، حيث ينطقون بشكل لاواع بأشعار محترقة بالعشق الإلهي، قد يدونها تلاميذهم الحاضرون لحالهم، أو يدونوها هم بعد الاستفاقة من الحال، والتي تعد تنفيساً لوجدهم الذي لو كتموه لأصيبوا بالجنون، كما يوضح البروفيسور مايكل فريشكوف Michael Frishkopf في دراسته "طرب في الإنشاد الصوفي المصري - Tarab in the Mystic Sufi Chant of Egypt"، التي عايشها خلال إنتاجها متصوفة مصريون لسنوات.

أحمد زكي: سبحاني ما أعظم شأني

حكى الفنان أحمد زكي، وحُكِي عنه كيف كان يذوب في الشخصية الفنية التي يؤديها، فيتحدث ويمشي ويلبس ويمارس كل تفاصيلها في حياته الطبيعية خارج الاستوديوهات، بشكل خارج عن إرادته.

صديقته المخرجة إيناس الدغيدي التي أخرجت له فيلمي "امرأة واحدة لا تكفي" و"استاكوزاتحكي أنه كان أثناء التصوير يرفض أن يُنادَى إلا باسم الشخصية التي يجسدها في الفيلم الذي يؤديه، لأنها تتلبّسه داخل التصوير وخارجه، موضحة أن ذلك غير مستحب للفنانين عموماً، لأنه قد يصيبهم بالجنون، وقد كان أحمد يجنّ فعلياً، بحسب قولها.

وتروي أنها كانت معه في زيارة لصديق، ووقتها كان يصور "أيام السادات"، ولدى خروجهما من عند الصديق لركوبهما المصعد، تركها وحدها ولم يكن يرد عليها حين تكلمه.

وأثناء سيره باتجاه الشارع أدى تحية عسكرية لشخص لا يعرفه، حتى نزل إلى الشارع وهي تهرول من خلفه، ثم انتبه وأدرك أنه متقمص شخصية الرئيس أنور السادات.

يؤكد ذلك المخرج علي بدرخان، الذي أخرج له فيلمي "شفيقة ومتولي"، و"الراعي والنساء"، موضحاً أنه كان من الصعب أن يخرج من الشخصية التي كان يؤديها، فكانت تتلبّسه في حياته العادية ويتقمّصها لأكثر من شهرين بعد انتهاء العمل.

حكى الفنان أحمد زكي، وحُكِي عنه كيف كان يذوب في الشخصية الفنية التي يؤديها، فيتحدث ويمشي ويلبس ويمارس كل تفاصيلها في حياته الطبيعية خارج الاستوديوهات، بشكل خارج عن إرادته

ويحكي صديقه محمد وطني، أنه كان معه في زيارة لأبو ظبي، خلال إنتاج "ناصر 56"، ولدى وقوفهما أمام محل، جاءته سيدة لتسلم عليه، فسلم عليها بطريقة غير لائقة، فأحرجت وانصرفت.

نبهه وطني لما فعله، فاستفاق منزعجاً وكأنه كان مغشياً عليه، وقال: يادي عبد الناصر! لقد سلّم على السيدة وكأنه جمال عبد الناصر، وليس كأحمد زكي.

كذلك يقول المنتج محمد حسن رمزي إن أحمد كثيراً ما حدّثه في الهاتف على أنه الرئيس عبد الناصر أو الرئيس السادات، حتى أنه تشاجر معه بسبب ذلك، واتضح فيما بعد أن أحمد كان يتعامل بتلقائية، ولم يقصد المزاح.

ما ذكرناه عن أحمد زكي هو تقريباً ما يسمى بالشطح عند الصوفية في حال اتحادهم بالله، حيث يتكلمون بلسانه.

فأحد نتائج الشطح هو أن يتحدث الصوفي بلسان الله بصيغة المتكلم، كما البسطامي الذي قال كأنه الله: ضرَبتُ خيمتي عند العرش. أو كما قال: سُبحاني ما أعظَم شأني. ويحدث ذلك بعد أن يمر الصوفي بخمس مراحل، شرحها الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه "شطحات الصوفية"، حيث تبدأ بوجد واشتياق شديد إلى الله، وتمر بمرحلة سكر وغياب عن الواقع، وتنتهي باتحاد الصوفي بالله، فيتكلم بلسانه وكأنه هو.

الاكتمال بالاتحاد بين الفن والتصوف

إن وظيفة الفن أن يمكّن "الأنا" من "الاتحاد" بحياة الآخرين، ويضع في متناول يدها ما لم تكنه ويمكن أن تكونه، يقول الفيلسوف الإيطالي بينيدتو كروتشه في كتابه "فلسفة الفن".

ويوضح أن الإنسان يطمح أن يكون أكثر من مجرد كيانه الفردي، يريد أن يكتمل ويسعى للخروج من "جزئية" حياته الفردية إلى "كلية" يرجوها. يسعى إلى عالم أكثر عدلاً وجمالاً وخيراً، ويحدث ذلك عن طريق الفن.

هذا النقص والفقدان الذي يشعر به الفنان، والمصحوب برغبة في الاكتمال عن طريق عمله الفني، نجده عند الصوفي الذي يشعر بنفس الشيء تجاه ربه، وهو ما عبر عنه جلال الدين الرومي في قصيدة "الناي".

من خلال رمزية آلة الناي، وهي بالأساس عود مقطوع من شجرة غاب، يعتبر الرومي أن العزف الحزين للناي هو بكاء، حنيناً لأصله "شجرة الغاب"، وهكذا روح الصوفي التي تحنّ إلى الاتحاد بأصلها الإلهي ليكتمل وجودها، فما الإنسان إلا نفخة من روح الله، وهذه النفخة تريد العودة إلى أصلها الذي خرجت منه.

الاغتراب والانفصام مسألة مركزية في الفكر الصوفي، وما المجاهدة للوصول إلى الاتحاد بالمعشوق الإلهي إلا محاولة للاكتمال وتعويض هذا النقص، حسبما يوضح أستاذ الفلسفة عبد الحق منصف في دراسته "أبعاد التجربة الصوفية: الحب – الإنصات – الحكاية".

وهنا نتذكر مقولة الإعلامي محمود سعد عن صديقه أحمد زكي، بأنه كان كـ"شخبطة على حائط، بلا شكل ولا ملامح"، ولكنه "يكتمل" حين يُمثل!

أليس الفن عملية عقلية واعية؟

نعم الفن له قواعد وأسس تقنية منطقية تُدرس أكاديمياً، كتحريك المخرج للكاميرا واستخدام الملحّن للسلم الموسيقي، ولكن الفكرة المبدعة التي تدفع إلى استخدام الكاميرا أو السلم الموسيقي لتصنع العمل الذي نصفه بالعبقري، مسألة إيحائية يأتي بها الإلهام وتبرق في عقل المبدع الممتلئ بالفكرة.

اسم الله مشتق من فعل "أَلِهَ... يَأْلَهُ" بمعنى "عَشِق... يعشق"، لذلك فإن الصوفي يذوب في الحب كحقيقة مطلقة، تنبثق عنها صور عشقية تتسع باتساع المظاهر الكونية

فالعمل الفني الإبداعي هو نتاج تزاوج واتحاد الإلهام الإيحائي بالمعارف العقلية المنطقية لصناعة الحالة الفنية، حسبما ينقل كروتشه عن الكاتب والمخرج المسرحي الألماني برتولت بريخت Bertolt Brecht.

نفس الأمر نجده عند الفيلسوف هنري برجسون، الذي اشترط أن يشتمل الفن على عنصرين، وهما "الحدس" الآتي من الإلهام أو الإيحاء أو المعرفة الميتافيزيقية، و"المعرفة" المنطقية؛ فهو يقول إن الفن "حدس" يستولي على الذات "العارفة"، فيجعلها تتطابق مع موضوع معرفتها على نحو شبه صوفي، حسبما ينقل عنه زكريا إبراهيم في "مشكلة الفن".

وهكذا الشعر الصوفي، هذا الفن الناتج عن حال الصوفي أو اتحاده بمعشوقه الإلهي، فالشعر وإن كان عِلماً له قواعد تُدرّس أكاديمياً، إلا أن العاطفة الإيحائية هي التي تحرك المعارف اللغوية للصوفي، بل وتستدعي كذلك المعارف الصوفية المنطقية السابقة لديه، حسبما توصل إليه مايكل فريشكوف.

ويمكن أن نفهم كيفية حدوث ذلك للفنان من العالمي شارلي شابلن الذي يحكي: "حين تتعثر القصة عند عقدة معينة أجد صعوبة في حلها، أمشي في حجرتي وأفكر، حتى يستبد بي اليأس بعد التفكير في كل شيء والعدول عنه، ولكن في لحظة يأت الحل!".

ويعلق الدكتور ماجد موريس في كتابه "سيكولوجية القهر والإبداع" على ما حكاه شابلن قائلاً:

"تلك الومضة الفكرية التي تشع في ذهن المبدع وتلهمه، تأتي من منطقة أبعد من التفكير العقلي، بعد مرحلة تتحد خلالها روحه بالكون، فيما يشبه ما يحدث للصوفية في علاقاتهم بالله، تزول خلالها كل الحواجز المكانية والزمانية، نتيجة العاطفة الشديدة التي ينفذ بها المبدع إلى موضوع تفكيره، فيبزغ الإلهام مصحوباً بهزة عاطفية قوية".

الجمهور أيضا يتحد بالموضوع الفني

كما يتحد الفنان بموضوعه الفني، قد يتحد الجمهور الذي يتعاطى المُنتَج بالشخصية أو الموضوع الفني، فنجده/ا منفصلاً/ة عن واقعه تماماً، غائباً/ة عمن حوله/ا، خلال المشاهدة أو الاستماع للعمل الفني، وتبدو علامات ذلك في بكاء أو قشعريرة جسد أو ضحك، أو أي مشاعر تبدو عليه/ا، وفي هذه الحالة هو/هي في سكر روحي متحد تماماً ببطل/ة الفيلم مثلاً.

ويعلق كروتشه على ذلك بأن الشخص الذي يتعاطى الفن، هو أيضاً يسعى ولو بشكل لا شعوري إلى إكمال نقص فيه، باتحاده بالشخصية أو الموضوع الفني، وينقل عن بريخت شرحه للغبطة أو النشوى التي تنتاب الجمهور خلال تعاطي العمل الفني، قوله:

"لا يكفي أن يسمع المشاهدون كيف تحرر بروميثيوس، بل يجب أيضاً أن يتدربوا على تحريره والاغتباط بهذا التحرير. يجب أن نعلمهم في مسرحنا كيف يشعرون بكل الفرحة والرضا اللتين يشعر بهما المكتشف والمخترع، وبكل النصر الذي يستشعره الفائز على الطغيان".

هذا الاتحاد يجعل المتلقي لقطعة موسيقية يحرك شفاه وأصابعه مع العازف وكأنه هو الذي يعزف، ويجعله يشعر بالبلل بالألوان الزيتية وهو يشاهد لوحة تشكيلية، تماماً كما تلطخت أيدي وأرجل بعض القديسين بالبقع نتيجة الخيال، يقول كروتشه.

المحرك الشعوري هنا بالنسبة للجمهور هو الإيحاء من الفنان إلى المتفرج، ويلزم هذا الإيحاء التسليم المسبق من الجمهور بأنه سيشاهد أو يسمع عملاً عظيماً، فالاتحاد بالعمل الفني بما يتضمنه من عملية إيحائية هو نفسه ما يحدث في الأديان.

فشفاء مريض على يد شيخ صوفي، يلزمه تسليم عاطفي له، ليصبح خاضعاً تماماً للشيخ، ذائباً فيه، ليسمح بقوى الشيخ الشعورية اليقينية الراغبة في إشفائه أن تغمره، وهنا تحدث الكرامة!

الموضوع الفني كتجلٍّ إلهي

بعد كل ما سبق، من المنطقي أن نسأل: إذا جمع الفنان بين التصوف كعقيدة وبين الآلية الصوفية الاتحادية بموضوعه الفني التي تكلمنا عنها في مقالنا، ألا يمثل الفن في هذه الحالة اتحاداً بما هو أعمق من الموضوع الفني كفكرة ظاهرة؟

ألا يمكن أن يكون الموضوع الفني هو في ذاته بالنسبة للفنان الصوفي تجلياً إلهياً، وحين يتحد به الفنان فهو في ذاته اتحاد بهذا التجلي الإلهي، وفقا للنظرية الصوفية المعروفة؟

كل ما في الكون تجل من تجليات الله، وفقاً للمفهوم الصوفي، وفي هذا يقول ابن الفارض:

جَلَتْ في تَجَليّها الوجودَ لِناظري ... ففي كُلّ مَرْئيٍ أراها برؤيَةِ

ويقول جلال الدين الرومي في "الرباعيات": "أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم، لِمَ هذا التيه من أجل معشوق واحد؟ ما تبحثون عنه في هذا العالم، ابحثوا عنه في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق".

كل الصور العشقية (وتشمل هنا الموضوع الفني بالنسبة للفنان الصوفي) هي صورة من صور العشق الإلهي، باعتبار أن الله هو الأصل المطلق للحب، كما نفهم من الصوفي عبد الكريم الجيلي، الذي يذكر في كتابه "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل"، أن اسم الله مشتق من فعل "أَلِهَ... يَأْلَهُ" بمعنى "عَشِق... يعشق"، لذلك فإن الصوفي يذوب في الحب كحقيقة مطلقة، تنبثق عنها صور عشقية تتسع باتساع المظاهر الكونية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image