شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
أن ننسج خيطنا بيدنا... معنى أن تكون صوفيًّا

أن ننسج خيطنا بيدنا... معنى أن تكون صوفيًّا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 24 ديسمبر 202005:40 م

سيكون عليك أن تنهض مبكراً، حتى تلتقي مجموعة من الأصدقاء يحرصون على نقل صورة حيّة عن ناس الجنوب المتصوّفة.

هنا المركز وهناك الأطراف، هنا تُكتب الدساتير وتُدوّن المتون وهناك آلاف الهوامش التي لا تسجّل أسفل المتن، هنا الأنوار كثيرة في الليل وهناك ظلام حالك، هنا المرأة والرجل سواء، في العمل والبيت وفي الشارع، وهناك الرجل سيّد وراعٍ ولا كلمة تعلو كلمته، هنا قد تحرر الشباب من قيود الماضي العتيق وأتقنوا لغة العصر وهناك تعود إلى حكايات الأزمنة الغابرة.

تحمل هذه الأفكار وغيرها معك وأنت مرتحل إلى "هناك" كما تحمل الماء لتروي عطشك، تتواصل مع مرشد ليهديك الطريق ويصحبك في جزء من "بلادك" لا تعرف شيئاً عنه سوى ما خُطّ في لوح عقلك، من صور غير صحيحة. أغلب المخبرين عن هذه الصور لا يعبّرون عن حقيقة أو تجربة. كيف تنهض لتوعية "الناس" بما يعيشه الناس وأنت لا تنهض بوعيك، فتمحي ما كوّنه ضباب الروئ القاصرة، وتثبت ما هو جدير بالإثبات؟! عليك أن تتخلّى حتّى تتحلّى.

إن مرشد الطريق المادي جسر تعبر من خلاله حتى تبلغ وجهتك، أن تنظر بعينيه أو تطعم شيئاً بذوقه لن يفيدك كثيراً في هذه الرحلة "الروحية أو العينيّة"، لذا عليك ألا تضجر منه كثيراً أو تتماهى مع حكاياته، لك أن تشكره على الصحبة ثم تريح بدنك من عناء السفر، لتستيقظ صباحاً وتبدأ يوماً جديداً، تستنشق فيه هواء هذه البقعة البعيدة عن العاصمة، ربما كان هواؤها وناسها وعيشها مختلفين عن كل ما ومن ألفته وعرفته من قبل.

الكون غلاف واحد وحجاب واحد، ورحمة واسعة عندما نقابل ربّه الذي نشاركه وحده السيء قبل الحسن، التوتر قبل السكن، القلق والحيرة قبل الإيمان... عن معنى أن تكون صوفيا

الكون مدينة واحدة بعيون شتى

الكون مدينة واحدة بعيون شتى... عين تراه سجناً وعين تراه بيتاً... عين تراه حديقة وعين تراه جسراً ينبغي عبوره أو القفز منه إلى رحاب آخر. الكون غلاف واحد وحجاب واحد، ورحمة واسعة عندما نقابل ربّه الذي نشاركه وحده السيء قبل الحسن، التوتر قبل السكن، القلق والحيرة قبل الإيمان. يشترك معنا الربُّ في الرحلة حينما نريد ذلك. نقترب منه أو نبتعد، يشاهد شوقنا ونفورنا، يشاهد عجزنا وضعفنا، لا يمدّ يده من خلف الحجاب كما نرجو، لكنّه يشملنا بحنان من نوع آخر، يداعبنا أحيانا بنظرة أو ابتسامة، ويعلم أن شيئاً من هذا لا يشبع حاجاتنا ولا تستقيم به حياتنا. ربما اللطف يقتضي ذلك، ومنح اليد والجسد يزيد الكثافة في هذا الكون الأصغر، ربما نحن أهل طمع وتجسيم، لا نقنع بالتجلّي كما يقنع بعض الأقطاب المتألهين. رضي ربّ الكون عنّا ومنحنا سرّاً من أسراره حتى نحيا، أو آية نفهم بها سِفر التكوين.

قد تقرأ عند أهل البحث والمعارف ما يجعلك ترى في سلوك المتصوّفة الطرقيين مجالاً للتندّر والفكاهة، فأغلب أهل الطرق لوّثوا الفكر الصوفي، وأضحى لديهم مجرد شعبذات تستوجب لفت نظر الحكومات لضرورة ترشيد سلوك هؤلاء، فنحن في عصر يقتضي التنوير لا تدمير للعقول. يفعل ذلك الأكاديميّ المستنير كما يفعله المخاصمون للتصوّف من التيارات الأخرى، بدعوى أنّ أمثال هؤلاء الطرقيّين لم يفقهوا المعنى الصوفي أو الروحاني في حياة النبي أو تجارب السابقين، فالمعنى الصحيح عند من فتّش في الأوراق وتدبّرها فحسب.

قد يكون جزء مما سبق له وجه من الصحّة، لكن ليس هذا هو ما يهم طالب الطريق، أو مريد استكشاف هذا العالم الروحاني. وكما يفعل أهل البحث فعلت المتصوّفة، فالقارئ والكاتب عندهم مسكين لا يزال بعيداً عن الوصول إلى عتبات الطريق، ومعنى التصوّف هم وحدهم الأدرى به. أليس لكل فنّ فقهاء وخبراء تُطلب استشارتهم فيه، والمشجعون لكل فريق أصعب من رؤوس الفرق؟

رحلة البحث عن المعنى

لا أظن أنه من الحسن أو المفيد لأحد يعرف حقيقة نفسه ادعاء بلوغه لمعنى أوحد وأصوب لشيء، وعليه، فلا يمكن وصف المعاني إلا بكونها تعبيراً عن تجارب أصحابها، ورحلة البحث عن المعنى تحتاج من الإنسان شجاعة وإخلاصا واستمرارية وهدوء، وأغلبنا اليوم يفتقر إلى كثير من هذه القيم أو الصفات.

لذا يلتمس الواحد منّا من تجارب السابقين والمعاصرين بعض المعاني، ويحاول أن يرى نفسه فيها، أو يرى الفكرة التي يبحث عنها متجسّدة في تلك القبسات. خذ مثلاً فكرة التسامح، فكرة وحدة الوجود، فكرة خلق العالم من أجل شخصية مثالية، فكرة الصفح عن جميع المذنبين، فكرة التناسخ. يمكنك أن تعجب بفكرة من هذه الفِكر وترى التصوّف خير معبّر عنها، وتراها في حدّ ذاتها هي التصوف، في حين أن غيرك قد يقتبس فكرة محاسبة النفس وإيلامها ويحاول أن يرى تصوفه فيها، وآخر يكتفي بفكرة العشق والمحبة في سبيل البحث عن معنى لحياته، وبعضهم يكفر بكلّ هذا ويبدأ الرحلة من جديد، راجياً أن يولد ولادة لا يتلوّث قلبه فيها بكل هذه المعارف.

كان من حسن حظي أني قابلت صوفية "متحققين" كما أفهم التحقّق الصوفي، كنتُ أظن في البداية أن هؤلاء مجرّد صورة في فيلم جميل نسعد به لحظة وسرعان ما تختفي الصورة، ولم يكن أغلب ظنّي إثماً، بل كان حقيقة أقرّتها التجربة الصوفية وجسّدها أبطالها في العهد القريب، فظهور رجل أو امرأة أو طفل في طريقك للحظات، قد يبلّغك ما لم تبلغه في رحلة أعوام أو تدرسه في سنين عدداً. رحلتُ بعيداً عن صورة التصوّف الرسمي الذي تقرّه المشايخ ويعتمده أبطال الصورة اليوم، لكنني اقتربت أكثر من نفسي، وهذا هو مرغوب القلب عند العرفاء كما عرفته. أنكرتُ كثيراً من الصور بدافع الأنا أو الذاتية أو قصور المعرفة القلبية، ثم حاولت لأعوام أن أدرّب نفسي على عدم الإنكار، ربّما تخلّصتُ من الكثير وبقي القليل.

معنى أن تكون صوفياً فكرة ممتازة لعيش الحياة كما يراها صاحبها لا كما ينبغي عليه أن يعيش، وفق ما رسمه المجتمع أو ما حدّدته بيئته قبل أن يولد

شُغلتُ كثيراً بما يطرحه الناس من صور حتى لم أعد أعرف ملامح صورتي، فرجوت الله أن يخلّصني من هذا الانشغال، وتحقّق لي ما رجوته يوماً، وبقي في غربال روحي بعض نسيج عنكبوت السنين الفائتة، أحاول فكّ خيوطه وإزالتها شيئاً فشيئاً، ولعلّ ما بقي لنا من ألف قدرة يساعدنا على ذلك.

رحلة التصوف الواسعة لا ترسم مذهباً أو ملّة، أو تتقيّد بشخص واحد أو تأمّل في ظهور مهدي يتعلّق صلاح العالم به. رحلة التصوف التي أعرفها رحلة اختبار للذات ومكاشفة حقيقية واختبار يظل حتى نهاية الحياة، اكتشف فيها معاني جديدة لكلّ ما اعتبره الناس قاراً وسامياً وخالداً، رحلة ميلاد تتجدّد كل لحظة بالألم والفرح والمعاناة، بالضيق والسعة، وبذل كلّ شيء في سبيل تحقيق هذا الكائن الذي كُتب عليّ أن أسكن فيه.

معنى أن تكون صوفياً فكرة ممتازة لعيش الحياة كما يراها صاحبها لا كما ينبغي عليه أن يعيش، وفق ما رسمه المجتمع أو ما حدّدته بيئته قبل أن يولد. أن تحدّد معنى لهذا المعنى فما فعلك إلا صورة من الصور التي تلح على إنكارها ليل نهار، لذا من الأفضل لك إن أردت أن تحيا إنساناً أن تتدبّر ما سبق وما هو حادث، وتنسج خيطك بيديك، وترسم طريقك وحدك، وتعرف بنفسك ما تشتاق نفسك أن تعرفه، أما حديث الإعلام في بلادنا، فما هو إلا لون من ألوان الاحتيال وخداع النفس، وتلويث القلب بمعارف متحيزة وحاجبة لكثير من معاني الحياة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard