شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أزمة المهرجانات بمصر... ما المقصود برغبة السلطة في منع

أزمة المهرجانات بمصر... ما المقصود برغبة السلطة في منع "الهرج والمرج"؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الاثنين 24 يناير 202203:51 م

تكتسب بعض القضايا المثيرة للجدل في حقول الفن والإبداع أهميتها الكبرى، ليس من عنوانها الأساسي الواضح، ومعناها النوعي القريب المباشر، وإنما بما تتضمنه بين السطور من خفايا، وما تحمله في أعماقها من دلالات وإسقاطات ومؤشرات، اجتماعية واقتصادية وربما سياسية.

ومن هذه الإشكاليات الساخنة خلال الآونة الأخيرة أزمة "مطربي المهرجانات" بمصر، وصراعاتهم المتتالية مع نقابة المهن الموسيقية برئاسة هاني شاكر، وهم أولئك المغنّون والموسيقيون الشباب غير المرضيّ عنهم من النقابة، الذين يؤدّون ألواناً شعبية بسيطة حققت انتشاراً كبيراً على المستوى الكمي، وحظيت بمئات الملايين من المتابعات على قنوات اليوتيوب وصفحات السوشيال ميديا، على أن أعمالهم ذائعة الصيت تبقى محلّ اختلاف من حيث التقييم الجمالي المجرّد، وما إذا كانت من الوجهة الكيفية قد تجاوزت المجانية والتسطيح وأحدثت إضافة إلى الحركة الفنية، أم أنها أثّرت بالسلب على تجلياتها وتمظهراتها الراهنة، محليّاً وعربيّاً.

هذا كله يبدو طبيعيّاً جدّاً إذا اقتصر النقاش والتحليل، وحتى التشاحن والعراك، على الظاهرة الفنية وحدها، من كلمات وألحان وتوزيعات وأساليب غناء وحركات على المسرح وما إلى ذلك من مفردات الثيمة الشعبية الجديدة المطروحة في الأسواق وعناصرها المغايرة، والتي أحدثت حراكاً بلا شك في المشهد، ما دفع الجميع، شاءوا أم أبوا، إلى التسليم بنشوء مصطلح "أغاني المهرجانات" على أرض الواقع، بكل ما لهذا التيار الوليد من إيجابيات، وما عليه من تحفظات.

أما الذي يبدو غير طبيعي أبداً، وهذا مجال هذه القراءة السريعة، فهو ما يجري من محاولات مستميتة، من نقيب المهن الموسيقية والنقابة وشخصيات ومؤسسات وأجهزة رسمية أخرى متعددة، لتحويل مسار المسألة الفنية برمّتها بعيداً عن هذا الحيّز التخصصي المحدد، واستغلالها لتحقيق أهداف أخرى، غير فنية.

الوجه الآخر للأزمة، والوجه الحقيقي، هو الذي يكاد يجيب عن التساؤل الأكثر عمومية بعض الشيء: ما الهرج والمرج المحرّم والمجرّم في مصر؟!

من نافلة القول، خصوصاً في عصر الإنترنت والثورة الرقمية والاتصالاتية والسماوات المفتوحة، إعادة التأكيد أن إجراءات من قبيل المنع والحجب والرقابة والوصاية والتوجيه وغيرها لم تعد مُجدية، كما أن مقولات قد دأبت الجهات الإدارية والتنظيمية في ميادين الفنون والثقافة على ترديدها مثل حماية الذوق العام، وصون القيم والأخلاق، وتحصين النشء ضد القبح، وتعزيز الروح الوطنية، والتصدي للابتذال والتلوث السمعي، وتقييد الإبداع باجتياز اختبارات والحصول على تصاريح وتراخيص، وما إلى ذلك، هي محض شعارات جوفاء للاستهلاك والدعاية وليست للتطبيق العملي، إذ تبقى ذائقة التلقي وآليات التسويق نسبية خلافية متغيرة، ولا مجال لأحد لكي يحتكر المطلق، لاسيما أن القائمين على نقابة المهن الموسيقية وغيرها من المؤسسات الرسمية هم أنفسهم في أغلب الأحوال من الموظفين والمثقفين المدجّنين والتماثيل المحنطة والفنانين النمطيين غير المجددين، الذين لا يتجاوز خيالهم اجترار أعمال السابقين، والدوران في حلقات مفرغة، في حين يكتسبون وجودهم وكيانهم من تنصيبهم في مواقعهم بمعرفة السلطة التي يخدمونها ويتحدثون بلسانها.

هكذا، فإن لأزمة المهرجانات وجهان؛ أحدهما معلن، هو انتفاضة من يسمّون أنفسهم حُماة الفن والذوق والضمير والوطنية وكل نبيل من أجل وأد المخرّبين في مهدهم، ومنع المفسدين من الإساءة إلى الشعب والوطن بأغنياتهم غير الملتزمة. وفي هذا الصدد تكررت القرارات الصادرة والقضايا المرفوعة في المحاكم والإجراءات الرادعة من أجل وقف عشرات المغنين والموسيقيين عن العمل، إلى جانب ملاحقتهم قضائيّاً بوصفهم "أهل الهرج والمرج"، والتشكيك في انتمائهم إلى تراب هذا البلد، بل وتقديم التماسات إلى دول أخرى مثل السعودية والإمارات لكي لا تعيد استضافتهم في حفلات غنائية وموسيقية على أراضيها، ولكي تكفّ عن الالتفات إليهم، وتمتنع عن تكريمهم وتتويجهم بالجوائز المادية والمعنوية، متأسية بمصر في تجاهلها التام لهم!

استبدل عمر كمال كلمات أغنية "بنت الجيران" في السعودية، فغنّى "أشرب تمور وحليب"، بدلاً من "أشرب خمور وحشيش"، وعلل ذلك بأنه "يقف فوق أرض طاهرة"!

أما الوجه الآخر للأزمة، فهو الوجه الحقيقي، وإن لم يُعلَن صراحة بطبيعة الحال في حيثيات هذه القرارات والإجراءات الفاشية على كوميديتها، الكوميدية على فاشيتها. وهذا الوجه المضمر المستتر هو الذي يكاد يجيب عن التساؤل الأكثر عمومية بعض الشيء: ما الهرج والمرج المحرّم والمجرّم في مصر؟! وتشير الشواهد للمتأملين المتقصين إلى أن الهرج والمرج هو ببساطة كل خروج عن السلطة ومفاهيمها وحرّاسها وزبانيتها، في أي مجال من المجالات، ومنها سلطة الطرب التي يعتليها هاني شاكر كمُنَصَّب في الواجهة للتكريس للأوضاع السائدة المستقرة، والتصدي للتمرد والانفلات والتغيير.

ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، إصدار نقابة المهن الموسيقية قائمة بمنع تسعة عشر مغنّياً من العمل داخل مصر، سواء على مسرح أو في إعلان أو برنامج، لعدم امتلاكهم تصاريح، وهم: حمو بيكا، حسن شاكوش، كزبرة وحنجرة، مصطفى زكريا (مسلم)، أبو ليلة، أحمد قاسم (فيلو)، أحمد موزة، حمو طيخة، ريشا كوستا وسمارة، شواحة، ولاد سليم، العصابة، الزعيم، علاء فيفتي، فرقة الكعب العالي، مجدي شطة، وزة وشكل، عمرو حاحا. وقد علّق نقيب المهن الموسيقية على حقيقة وجود جمهور كاسح يقدّر بمئات الملايين لهؤلاء المغنّين بأن "هذا معناه أن القيامة قامت"!في ضوء هذه التصورات فقط، وليس في ضوء الغيرة على الفن أبداً، يصير ممكناً بقدر كبير تفهّم هذا السيل من الممارسات العنيفة والغليظة التي قام بها أكثر من جانب إزاء مؤدي المهرجانات بمصر، خلال شهور قليلة، تحت مظلة الشعارات الوطنية الطنانة والأقوال الهتافية الحماسية المبالغ فيها، كونها يُرمى بها مغنّون وموسيقيون، وليسوا جواسيس أو قطّاع طرق!وكذلك، من جهة أخرى اقتصادية، فإن الهرج والمرج المقصود محاربته من النظام، أو إخضاعه لشروط تعسفية، هو كل مكسب مادي يحققه أي فرد طموح بيديه، خارج منظومة الاقتصاد الرسمي، ومن دون أن يخضع لتقعيدات الضرائب والصور الأخرى اللانهائية للجباية والابتزاز في مقابل تركه وشأنه.

ومن تلك الممارسات كذلك، إحالة مؤدي المهرجانات عمر كمال للتحقيق بسبب إحيائه حفلاً فنيّاً في السعودية، إذ استبدل كلمات أغنية "بنت الجيران" الشهيرة، فغنّى "أشرب تمور وحليب" بدلاً من "أشرب خمور وحشيش"، وعلل ذلك بأنه "يقف فوق أرض طاهرة"، ما اعتبرته نقابة المهن الموسيقية "إهانة لمصر من ابنها العاق!"، كونه يقصد ضمنيّاً أن بلاده غير طاهرة، وإن لم يقل ذلك صراحة! كما تقدم المحامي سمير صبري ببلاغ إلى النائب العام المصري يتهم فيه مغني المهرجانات ذاته بالإساءة إلى مصر وشعبها وتاريخها.

ومن الوقائع المماثلة أيضاً في سياق تهمة "إهانة قدسية مصر" و"خدش الآداب والتقاليد العامة"، القرارات النقابية بمنع الفنان محمد رمضان من الحفلات الأدائية بمصر، والدعوى القضائية المستعجلة التي رفعها أحد المحامين ضده أمام محكمة القضاء الإداري لسحب التراخيص الصادرة له ومنعه من الغناء والتمثيل وشطبه من النقابة، لدوره في إفساد الفن وقيادة المجتمع إلى الانحدار والهدم، حيث إن "طريق الفن الهابط لابد أن تكون نهايته المخدرات وتخريب الوجدان، وهي أكبر خطيئة يمكن أن ترتكب في حق شعب"!

من جهة أخرى اقتصادية، فإن الهرج والمرج المقصود محاربته من النظام، أو إخضاعه لشروط تعسفية، هو كل مكسب مادي يحققه أي فرد طموح بيديه، خارج منظومة الاقتصاد الرسمي

أما ذروة العجائبية، فقد تجسّدت في أن البرلمان المصري نفسه قد دخل على الخط في أحد بيانات متحدثه الرسمي، إذ وصف خطورة فيروسات المهرجانات السمعية بأنها أشرس في فتكها بالشعب من فيروس كوفيد 19! كما خاطبت نقابة المهن الموسيقية إدارة موقع يوتيوب العالمي من أجل محاولة وقف بثّ هذا اللون من الموسيقى والأغنيات، الذي اجتذب الملايين بدون حواجز ووسطاء، وألغى فكرة الوصاية ودور الرقيب!

وللتأكيد أن الأهداف الحقيقية لتلك الإجراءات الشاذة، وغيرها، هي ذات مغزى سياسي سلطوي من جهة، ومغزى اقتصادي من جهة أخرى، يمكن الاستدلال بما ذهب إليه نقيب المهن الموسيقية هاني شاكر صراحة، بأن كل ما حدث إنما هو تمهيد لتفعيل قرار "الضبطية القضائية" الذي سيتم الإعلان عنه خلال الفترة المقبلة، بمعنى تمكين الجهات الإدارية والموظفين الرسميين، هكذا بشكل مباشر، من رقاب الفنانين، وتهديد مصادر رزقهم وحرياتهم الشخصية بدعوى صون عفاف الفن. وقد انطلقت حملات مكثفة من وسائل الإعلام القومية والرسمية "الموجهة" اتفقت كلها في فترة متزامنة على رسالة واحدة مستنسخة تصب في فكرة إدانة هذا التيار الفني، ومحاكمته ليس فنيّاً فقط، وإنما مجتمعيّاً وقضائيّاً لو أمكن.

ومن الناحية الاقتصادية، فإن ما صرّح به مؤدي المهرجانات حمو بيكا يبرز إلى أي مدى يتم ابتزاز هذه الفئة من الفنانين، الذين تعتبرهم الدولة مخرّبين وغير جديرين بالاعتراف، لكنها في الوقت ذاته تعتبرهم جديرين بدفع الإتاوة لكي تكف يدها عنهم.

ويوضح بيكا أن رسوم تصريح إقامة حفل واحد له في الساحل الشمالي قد تجاوزت 15 ألف جنيه (قرابة ألف دولار)، وأنه يضطر للدفع بدون نقاش لكي يُسمح له بالأداء، ورغم ذلك فيبدو أن ما يدفعه بيكا ورفاقه لم يعد يكفي لتركهم وشأنهم داخل مصر خلال الفترة المقبلة.

 البرلمان المصري نفسه وصف خطورة فيروسات المهرجانات السمعية بأنها أشرس في فتكها بالشعب من فيروس كوفيد 19! 

ومن المنتظر حال تفاهم النقابة والجهات الإدارية مع فناني المهرجانات أن تتعقد الإجراءات في وجوههم أكثر وأكثر. فلا غناء بشكل شرعيّ، من دون الاعتراف بقبضة السلطة ممثلة بتلك النخب المؤسسية والدوائر المركزية الحاكمة التي تخشى فكرة الخروج عن النص، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة لكي تدعم الجمود وتفرض هيمنتها على أي مخالف للقوالب والمقدسات والموروثات البالية، لاسيما أن الدولة تدرك جيّداً أن المهرجانات الشعبية قد نشأت وتبلورت في ظل الاضطراب السياسي والاجتماعي وموجات الحراك الثوري وتعالي صخب الشارع المصري في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، التي استلهمت سائر أشكال الفنون الشعبية، والجماليات الاحتجاجية المتمردة، المجسّدة لنبض البسطاء وفوضاهم التلقائية وغضبهم المتأجج بلا ضوابط.

وكذلك، فلا غناء بشكل شرعي في هذا المناخ، من دون التنازل الإجباري عن حصة ثمينة من المكتسبات المادية، التي يتحصّل عليها هؤلاء المغنّون والموسيقيون المغضوب عليهم. وهم، طالما يستسلمون للسلطة الأبوية الفوقية، ويوفّقون أوضاعهم ويدفعون ما يُطلب منهم، يبقون في مأمن نسبي ومؤقت، من مقصلة التنكيل، وقائمة الاتهامات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image