500 مصري لقوا حتفهم تحت أنقاض منازلهم المنهارة عليهم خلال السنوات السبع الماضية. حدث ذلك في ظل تقاعس الدولة المصرية عن صيانة المنازل أو إزالتها، وعن توفير بدائل لمَن أصبحت بيوتهم "آيلة للسقوط".
مبنى منهار في منطقة الرمل في الإسكندرية
فوق أنقاض بيت منهار في منطقة "الدخيلة الجبل" التابعة لحي العجمي في غرب الإسكندرية، سرنا نتتبع خطوات مؤمن عطوة، أحد سكانه الناجين، بعدما طمرت أنقاض البيت ثمانية من ساكنيه، أربعة رجال وأربع نساء. كانت والدة مؤمن من بين الضحايا.
"عدتُ من العمل مسرعاً، فوجدت أن البيت انهار وأمي تحت أحد أعمدة الخرسانة تلفظ أنفاسها الأخيرة. لم نستطع تحريك العمود، فتحريكه يعني أننا سنغلق على مَن بقوا يصرخون تحت الأنقاض"، يحكي مؤمن عن لحظات الكارثة، مشيراً بيده إلى "شقته الجديدة" التي لم يمر على تجهيزها لزواجه أكثر من عامين، وقد تحولت إلى أنقاض بعد أن انقسم البيت إلى نصفين، تهدّم الأول فوق زوجته وطفلته وخمسة آخرين، بينما تحوّل الثاني إلى تراب مخلوط بدماء ثماني ضحايا.
الكارثة لم تنتهِ بسقوط البيت، فقد ألحق الانهيار الضرر بحوالي عشرة عقارات محيطة به، جميعها آيلة للسقوط، تأكل مياه "الصرف الصحي" أساساتها، ما دفع بسكانها إلى هجرتها خوفاً، والسكن في الشارع ومدرسة مجاورة.
لم تكن حادثة "عقار الدخيلة" التي وقعت في بداية تموز/ يوليو 2021 الوحيدة في مصر. يوثق هذا التحقيق قرابة 1000 حادثة انهيار أبنية في الفترة بين عامي 2014 و2020، خلّفت نحو 500 حالة وفاة، ثلثها أطفال، وأزيد من ثلثها نساء، وقرابة 1000 مصاب، ثلثهم من النساء والأطفال، حسبما تظهر الأرقام الموزّعة بين صفحات أرشيف الصحف المصرية.
الكارثة أكبر مما ترى العين
بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وهو الجهاز الرسمي للإحصاء، يوجد في مصر ما يقارب 14.5 مليون عقار سكني، ما بين برج وعمارة وفيلا ومنزل ريفي وشاليه، نحو 100 ألف منها مصنفة على أنها "أبنية خطرة" غير قابلة للترميم ويجب هدمها.
"قبل أشهر، كنتُ جالسة في صالة بيتنا، وتفاجأت بسقوط أجزاء من الحائط والسقف. أُصبنا جميعا بالفزع... البيت أصبح آيلاً للسقوط، الجدران يمكن أن تسقط، والبلكونة تهتز عندما نخرج إليها... لدرجة أن أختي تبكي من الخوف".
بهذه الكلمات تروي إيمان (اسم مستعار) قصة بيتهم الذي بدأت تغزوه التشققات إثر هدم بيت مجاور قبل 14 سنة. وعند الشروع بترميمه بعد فترة، أخبرهم المهندس المُعاين بأنه "غير صالح للترميم ويجب هدمه بالكامل وإعادة بنائه".
لكن، عندما انهار منزل قريب منهم، ما أسفر عن وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة قوامها خمسة أفراد، تقدّمت عائلة "إيمان" ببلاغ إلى إدارة المحافظة بأن "البيت غير آمن وغير صالح للحياة الآدمية" لاستصدار رخصة هدم، إلا أن الأمر لم يكن بهذه السهولة.
تقول إيمان (25 عاماً): "كنت أظن أن الإجراءات ستسير بسرعة خاصة أن الأمر يتعلق بحياتنا المهددة، لكن ما حدث كان العكس تماماً، والتعامل كان بيروقراطياً جداً، ويتطلب دفع رشاوى للموظفين لتحريك الأوراق".
وتضيف: "لم تأتِ لجنة معاينة للبيت إلا بعد أسبوعين، وعاينوا المنزل سريعاً ومن الخارج فقط، وبناء عليه صدر قرار بإزالة دَوْرين وترميم باقي البيت، في حين أننا حاولنا ترميمه منذ سنتين لكن المهندس أخبرنا أنه غير صالح للترميم ويجب هدمه"، وتعلّق: "لم تكن لجنة المعاينة مؤهلة بالمرة، ما جعلنا نقدّم تظلماً، لم يخرج قرار بشأنه إلى الآن".
الغش والتلاعب فى مواد البناء وغياب الصيانة، وتهالك العمر الافتراضي للمنازل وشبكة الصرف الصحي، وصعوبة حصول المواطن على تراخيص البناء من خلال القنوات الشرعية، وفساد الرقيب في بعض الأحيان، أسباب كوّنت أركان مشهد انهيار العقارات
لم يكن هناك خيار أمام "إيمان" وأسرتها للحفاظ على حياتهم إلا ترك بيتهم الواقع وسط محافظة سوهاج، المحافظة التي وقع فيها أكثر من 60 حادثة انهيار خلال الفترة ذاتها، واحتلت المركز الثالث بين محافظات مصر في عدد حوادث انهيار المباني، بعد الإسكندرية والقاهرة.
أُسَر إيمان ومؤمن وجيرانه ليسوا هم فقط مَن اضطروا لترك منازلهم. فقد اضطرّت أكثر من 2500 أسرة إلى إخلاء منازلها خلال السنوات السبع الماضية، مؤقتاً أو نهائياً نتيجة حوادث الانهيار. وما يزيد عن نصف تلك الأسر المتضررة كانت تسكن في محافظتيْ القاهرة والإسكندرية، المدينتين اللتين وقعت فيهما قرابة نصف حوادث انهيار المباني في مصر.
ملاك متضررون ومستأجرون ينتظرون
"البيوت آيلة للسقوط… جدرانها تمتلئ بالشروخ. بلكوناتها تنهار... أي هزة ستسبب ضرراً بمواسير الغاز وتؤدي إلى تسربه، ومن ثم كارثة حقيقية".
هذا ما قاله خالد السلموني (60 عاماً)، وهو مالك عقارين آيلين للسقوط في حيّ السيوف في منطقة المنتزه في الإسكندرية، المحافظة التي وقع فيها ثلث حوادث الانهيارات تقريباً.
الأول مبنيّ في خمسينيات القرن الماضي، والثاني عام 1979. وعندما تعرض أحدهما لانهيار جزئي، أصدرت شرطة المرافق قرار إزالة عام 1985، ثم خيّرت المستأجرين بين الخروج، أو المكوث على مسؤوليتهم الشخصية، وقد قرر السكان البقاء، ما عطل قرار الإزالة.
وجد خالد وأسرته أنفسهم مضطرين لمغادرة المنزل، فهو "غير مستعد لتعريض حياة أسرته لخطر الموت تحت الأنقاض". وبجانب الوضع غير الآمن للعقارين، لا يستفيد خالد من أملاكه، فهو لا يحصل من المستأجرين على أجر عادل، ولا يستطيع إزالتها بسبب المستأجرين.
أرسلنا رسالة "بعلم الوصول" مرفقة بأسئلة عمّا توصلنا إليه، إلى إدارة حي المنتزه، لكن لم نتلقَّ رداً حتى تاريخ نشر التحقيق.
لا يخص هذا الوضع خالد وحده. ففي القاهرة، المحافظة التي وقع فيها ما يزيد عن 150 حادثة انهيار في الفترة المذكورة، تحدثنا مع مريم محمد، مالكة أحد العقارات الآيلة للسقوط في منطقة شبرا، تسكن فيه برفقة شقيقتها ووالدتها.
روت أنه بعد سقوط سقف الطابق الأول قبل عشر سنوات، وتصدع الدرج الداخلي، صدر قرار بإخلاء العقار لترميمه، لكن السكان رفضوا، واكتفوا بترميم السقف المنهار.
حدث ذلك عام 2010. الآن، لا أحد من السكان يريد أن يعاونها في ترميمه، و"إيجار الشقق الذي يبلغ حوالي 50 جنيه بحسب عقد الإيجار القديم، في منطقة يصل الإيجار فيها إلى 1500 جنيه وأكثر، لا يكفي للترميم".
"عدتُ من العمل مسرعاً، فوجدت أن البيت انهار وأمي تحت أحد أعمدة الخرسانة تلفظ أنفاسها الأخيرة. لم نستطع تحريك العمود، فتحريكه يعني أننا سنغلق على مَن بقوا يصرخون تحت الأنقاض"
غير أن "الإيجارات القديمة" ما هي إلا جانب واحد من القصة. فعلى الجانب الآخر، يحكي إسلام محمد (27 عاماً)، وهو مالك وساكن عقار آيل للسقوط في كفر الزيات في محافظة الغربية، أن سكان "الإيجار القديم" ليسوا كلهم قادرين على إخلاء شققهم في العقارات الآيلة للسقوط. لديه مستأجر "حالته تمثل مأساة، رجل هَرِم، ليس لديه مسكن آخر، وقد ماتت زوجته وأولاده وليس لديه مَن يعتني به أو يذهب إليه".
قصة مؤمن وسكان عقار الدخيلة المنهار دليل على ما ذهب إليه إسلام. فسكان العقارات المنهارة والمتضررة ليس لديهم أماكن يذهبون إليها، ولا يملكون ثمن إيجار مساكن أخرى.
للرد على تظلمات السكان، راسلنا رئيس حي العجمي، إبراهيم السيد موسى، لكنه قرر التزام الصمت.
منزل آيل للسقوط في كفر الشيخ
بجانب كل هذه القصص، تخبرنا البيانات بأن ما يزيد عن نصف الأسر المتضررة من حوادث الانهيار كانت تسكن "عقارات قديمة"، كما أن نحو ثلاثة أرباع العقارات المنهارة هي عقارات سكنية مشغولة.
وبحسب مدونة "وزارة الإسكان الظلّ" التي "تناقش قضية العدالة الاجتماعية والعمران"، [u1] يوجد في مصر ما يزيد عن 1.3 مليون أسرة تعاني من المعيشة في بيوت ضيقة تتكون من غرفة أو غرفتين، والدولة لا توفر لهم شققاً أخرى ينتقلون إليها.
على مَن يقع اللوم؟
من بين الـ1000 حادثة التي وثقناها، وجدنا أن قرابة ربع المنازل التي انهارت صدرت بحقها قرارات إزالة أو ترميم، في حين أن 60 في المئة من البيوت المنهارة لم تتوفر عنها معلومات، إنْ كانت قد أخطرت بالإزالة أو الترميم.
"لم يسأل عنا أحد، لم يتابع حالتنا أي مسؤول، اتصلنا بمكتب إدارة محافظة الإسكندرية فأخبرونا أنه لا توجد أي شقق بديلة الآن في المحافظة. حتى الأنقاض التي ما زالت تشكل خطراً على السكان لم يزيلوها"، يشرح مؤمن معاناته اليومية، بعد أن فقد مسكنه، ولم يعد لدى أسرته بديل.
ويتابع: "البيت انهار بسبب مياه الصرف الصحي التي أكلت أساساته. كما أنها تملأ أساسات جميع بيوت المنطقة الآن، والسبب هو ‘التعلية’ التي نفّذها الحي من سبعة أشهر، إذ أعادوا رفع مستوى الأرض من دون تغيير مواسير الصرف القديمة، ما أدى إلى غرق أساسات البيوت".
ويضيف حسين، أحد سكان العقارات المتضررة من عقار الدخيلة المنهار، أن مهندس الحي المسؤول عن التعلية قال له: "هذه البيوت مثل الأموات تحتاج إلى غسل قبل الدفن".
ليست العقارات القائمة أحسن حظاً من تلك التي انهارت. يحكي خالد، صاحب عقاريّ السيوف المذكورين سابقاً في الإسكندرية، أنه قدّم بلاغاً في قسم الشرطة بأن عقاريه آيلين للسقوط. أخطر قسم الشرطة إدارة الحي، لكن الإدارة طالبته بأوراق تثبت سداد ضرائبه العقارية.
يقول خالد: "طالبني موظفو الحي بإحضار أوراق العقارين. وأرسلوا لي عن طريق قسم الشرطة قراراً بإضافة أعمدة للترميم من دون معاينة، ما يعني أن يتحمل المالك تكاليف الترميم".
وبعد مشادات كلامية بين خالد وموظفي إدارة الحي، وافقت المهندسة المسؤولة عن المعاينة على الخروج معه "ودياً" لمعاينة العقارين، لكنها بعد رؤيتهما من الخارج، سألته: "أين سيذهب السكان"، فرد عليها: "هذه ليست مشكلتي"، فأجابته المهندسة: "قرار الإزالة ليس من تخصصنا بل من تخصص إدارة المحافظة".
يؤكد خالد ما حكته إيمان، صاحبة عقار سوهاج. أوراق أي عقار، مهما كانت خطورة وضعه، لا تتحرك إلا بعد رشوة موظفين في إدارة الحي. "إذا لم تدفع ستتعطل أوراقك لستّة أشهر على الأقل. إذا لم تعطهم 20 ألفاً أو 30 ألف جنيه لن يقضوا لك مصلحتك، وسيكتبون أن البيت يحتاج فقط للترميم، وهذه تكلفة إضافية على المالك، وإذا انهار العقار ستكون المساءلة القانونية عليه أيضاً"، قال خالد.
المهندس الإنشائي الذي أشرف على إزالة عقار "الأزاريطة المائل" في الإسكندرية، وصاحب الدراسات الإنشائية عن العقارات المتضررة، وعضو نقابة المهندسين محمد الظريف يرجع أسباب انهيار العقارات في مصر إلى "انتهاء عمرها الافتراضي، وأن أغلبها لا يتم ترميمه ومهمل إنشائياً"، مشيراً إلى عقارات ذات تصميم إنشائي غير سليم بناها مقاولون بلا إشراف هندسي.
وتتفق الناشطة في قضايا العمران والتراث والاستدامة هالة حسنين مع ما قاله الظريف، وتضيف أن السبب الأول لانهيار العقارات هو "فساد منظومة المحليات، فمصر لا يوجد فيها تخطيط عمراني مطلقاً، وكل ما تعرضه الحكومة مجرد صور للعرض فقط ولا توجد دراسات حقيقية مبنية على حسابات دقيقة".
واقتبست حسنين مما قاله د. طارق والي، استشاري الحفاظ على التراث المعماري: "إيقاف انهيار تلك العقارات يبدأ مع إنشاء شبكة صرف صحي جيدة، لأن مياه الصرف تؤثر على الأساسات".
الغش والتلاعب فى مواد البناء وغياب الصيانة، وتهالك العمر الافتراضي للمنازل وشبكة الصرف الصحي، وعدم إنجاز حصر المنازل الآيلة للسقوط، وصعوبة حصول المواطن على تراخيص البناء من خلال القنوات الشرعية، وفساد الرقيب في بعض الأحيان، أسباب كوّنت أركان مشهد انهيار العقارات بحسب والي وحسنين.
وزارتا التنمية المحلية والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية لم تردّا على طلبنا التعليق على ما توصلنا إليه من بيانات. كذلك الحال بالنسبة إلى نقيب المهندسين في الإسكندرية هشام سعودي.
يقول محمد الظريف عن عمل الدولة ونقابة المهندسين لحل الأزمة، إن هناك خططاً لحل المشكلة، لكنها تصطدم بعرقلة الأجهزة التنفيذية، كمجالس المحليات وبعض أعضائها الذين "يتغاضون عن عقارات لمقاولين وملاك من ذوي النفوذ".
وعن دور النقابة، يضيف: "لا أرى أو أسمع أي اهتمام يُذكر من نقابة المهندسين لهذه المشكلة".
في غمرة حالة فوضى العقارات، يقف مؤمن عطوة قبالة ركام عقار الدخيلة المنهار في الإسكندرية، وهو يعض أصابعه ندماً. أضاع أمواله في تجهيز "بيت العمر" الذي تحول إلى ركام.
*أُنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من "شبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج)".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...