في السنوات الأخيرة، كثيراً ما تم الإعلان عن اكتشاف حفريات جديدة تغني الخزانة الأثرية في المغرب. فبعدما كشفت أبحاث أركيولوجية عن وجود أقدم إنسان عاقل في المغرب، وأدوات من العظام كانت تُستَعمل لصُنع الملابس، من جلود الحيوانات، وفرائها، أعلنَ، في شهر أيلول/ سبتمبر، فريق من الباحثين المغاربة والأمريكيين، عن وجود أقدمِ مجوهرات مصنوعة من الأصداف البحرية، تعود إلى ما بين 142 ألف و150 ألف سنة، في مغارة بيزمون، في مدينة الصويرة.
قطعٌ أثرية حديثة الاكتشاف، تُعدُّ من أقدم قطع الحلي التي تم اكتشافها في العالم، حتى الآن، مصنوعة من نوع من الأصداف البحرية تُسمّى "تريتيا جيبوسولا"، حسب بيان نشرته وزارة الثقافة، وصدر في المجلة العلمية الأمريكية "تقدم العلوم".
"سلوك رمزي قديم جداً"
الاكتشاف الذي أعلنَ عنه فريق دولي من باحثين متخصصين في علم الآثار، من المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث في الرباط، وجامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومختبر ما قبل التاريخ في البحر الأبيض المتوسط أوروبا-أفريقيا، أبرزَ أن "هذه الأصداف البحرية المكتَشفة، كانت تُستخدم من قِبل الإنسان، على الأرجح كقلادة، وقد تدل بذلك على سلوك رمزي قديم جداً".
اثنان وثلاثون صدَفة بحرية عثر عليها الباحثون، وتم اكتشافها في مواقع أثرية أخرى في شمال إفريقيا، في طبقات أركيولوجية يتراوح تاريخها ما بين 116 ألف سنة و35 ألف سنة، ما يُظهرُ "قِدَم هذا السلوك الرمزي في مغارة بيزمون، بآلاف السنين، مقارنةً بالاكتشافات السابقة، ليُعد أول سلوك من نوعه عرفه الإنسان خلال الفترة الجيولوجية القديمة المعروفة بالبلايستوسين".
لماذا يهتم الباحثون الأركيولوجيون بجغرافيا المغرب؟ أكثر الأسئلة التي تُطرح بعد كل اكتشاف، بُغية فهم سرِّ اهتمام الباحثين بإنجاز حفريات أثرية في المغرب الذي تحول إلى "خزنة كنوز التاريخ القديم"
وتعكسُ هذه الحلي، كما جاء في البيان، "الهوية الاجتماعية والثقافية لمن يرتدونها"، ما يجعلُ الاكتشاف في مغارة بيزمون، "أقدم دليل مادي مباشر على وجود نظام للتبادل والتواصل بين أفراد المجموعة الواحدة، وخارجها أيضاً، وهو سلوك يتضح الآن أن أصوله قديمة، من خلال ما تم العثور عليه".
رصيف22، تواصل مع يوسف دجلال، أحد الباحثين المغاربة المساهمين في تأليف المنشور العلمي حول اكتشاف أقدم حلي في مغارة بيزمون في الصويرة، وهو طالب دكتوراه متخصص في مجال أركيولوجيا ما قبل التاريخ، وصفَ الاكتشاف بـ"التاريخي"، لأنه "تم من طرف فريق علمي دولي يضم مجموعة من الطلبة الباحثين المغاربة، الذين ساهموا بشكل كبير في نشر المقال في المجلة المرموقة تقدم العلوم".
ونوّهَ دجلال، في تصريح لرصيف22، بما أسماها "نهضة علمية من طرف طلبة باحثين مغاربة، يحرصون على إماطة اللثام عن الاكتشافات الأركيولوجية في المغرب، تحت إشراف البروفيسور بوزوكار".
أرض اكتشافات
قبل ثلاث سنوات فقط، تركزت أنظار العالم على المغرب، بعدما أعلن باحثون عن اكتشاف جمجمة أقدم إنسان عاقل على وجه الأرض، تعود إلى أكثر من 300 ألف سنة، في جبل إيغود، في اليوسفية وسط المغرب.
اكتشاف جمجمة الإنسان العاقل، جاء بعد بحث مضنٍ، ومثابرة، وعلى مرحلتين، حسب ما عبر أحد الباحثين في المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث في الرباط، موضحاً أن البحث بدأ منذ ستينيات القرن الماضي، بواسطة الجيل الأول من الباحثين الذي عثر على بقايا إنسان، ومجموعة متحجرة تعود إلى العصر الحجري الوسيط، "إلا أنه لم يكن بالإمكان التدقيق في تاريخها، وتالياً لم تعطِ النتائج المرجوة حول ظهور الإنسان العاقل"، حسب أحد الباحثين.
أقدم إنسان عاقل وأقدم حلي وأقدم ملابس. أصبح المغرب في السنوات الأخيرة بؤرة الاكتشافات العلمية التي تكشف تاريخ الإنسان القديم. فما السبب؟
وبخصوص المرحلة الثانية من التنقيب، فقد بدأت سنة 2004، مع جيل ثانٍ من الباحثين، وبدءاً من الـ2007، بدأ اكتشافُ بقايا هذا الإنسان، إلى حدود سنة 2016، مع العثور على أدوات صيد، تُبيّن أنه كان يعيش على صيد الغزلان.
وحسب الباحثين في علوم الآثار، فإن هذا الاكتشاف كان بمثابة قفزة نوعية في الخزانة الأثرية المغربية، ستفتحُ تاريخ المغرب على العالم.
وخلال مطلع الشهر الجاري، كشفت دراسة علمية ألمانية حديثة، أن أول من ابتكر الملابس، هم سكان المغرب الحالي، قبل 120 ألف عام، وسيحافظون على هذا السّبق إلى حين اكتشافات مستقبلية.
الدراسة التي أعدها معهد "ماكس بلانك" لعلوم التاريخ البشري في ألمانيا، أوضحت أنه تم اكتشاف قطع أثرية في كهف في بلدية الهرهورة، قرب العاصمة الرباط، يعود تاريخها إلى ما قبل 120 ألف عام، تشيرُ إلى أن المغاربة القدماء كانوا يصنعون ألبسة من جلود الحيوانات، وفرائها، عن طريق السلخ بعظام الحيوانات.
ونقلت الدراسة، عن عالمة الآثار التطورية الألمانية إميلي هاليت، قولها: "نفترض أن الملابس كانت جزءاً لا يتجزأ من توسع جنسنا البشري"، مضيفةً أن "المغاربة استعملوا الأدوات لسلخ الجلد، بغية استعماله، وليس للأكل فحسب (...)، ويضم الكهف أقدم دليل، حتى الآن، على مصدر صناعة اللباس في العالم".
وجاء في توضيح العالمة أن العلماء "وجدوا 62 أداةً مصنوعة من عظام الحيوانات، وحددوا أيضاً علامات على عظام ثلاثة أنواع صغيرة من الحيوانات آكلة اللحوم"، مؤكدةً أنه "تم سلخ الحيوانات، بحثاً عن الفراء، وليس لأكلها".
إعادة كتابة تاريخ الإنسانية
هذه الاكتشافات، أصبحت توصف في الأوساط البحثية المغربية بـ"النهضة" العلمية. وهو الوصفُ الذي استعمله الباحث يوسف دجلال في الحديث عن اكتشاف الحلي في المغرب، مُبرزاً أن "هذا الاكتشاف مهم جداً، لمعرفة جزء غير مادي من سلوك الإنسان العاقل، خلال فترة العصر الحجري الوسيط في المغرب، وما زلنا نعمل على مجموعة من الأبحاث الأخرى التي ستميط اللثام عن معطيات جديدة بخصوص سلوكيات تلك المجموعات البشرية التي استقرت في مغارة بيزمون، ومغارات أخرى في مختلف مناطق المملكة".
المغاربة استعملوا الأدوات لسلخ الجلد، بغية استعماله، وليس للأكل فحسب (...)، ويضم الكهف أقدم دليل، حتى الآن، على مصدر صناعة اللباس في العالم". اكتشافات حول تاريخ البشر في المملكة
بالنسبة إلى دجلال، فإن الاكتشافات "تثري بالفعل الخزانة الأثرية، وتعطينا معطيات كثيرة ومهمة على أهمية الموقع الجغرافي للمغرب، خلال فترة ما قبل التاريخ، لأنه لعب دوراً كبيراً في ظهور الإنسان العاقل، وانتشاره، كما لعب دوراً في ظهور السلوك البشري المعقد والرمزي".
وأكد المتحدث أن "هذه الاكتشافات الأثرية الجديدة، ستمكّن المغاربة من معرفة فترة ما قبل التاريخ، لأن مجال الأركيولوجيا لم يكن معروفاً، خاصةً أركيولوجيا فترة ما قبل التاريخ".
وهذه الكتابات ستغيّر رؤيتنا إلى تاريخ المغرب، ومنطقة شمال إفريقيا، وتاريخ الإنسانية. وهو ما يؤكده الباحث المتخصص في علوم الآثار والتراث، يوسف المساتي، الذي يرى أنه "لا يمكن الوثوق بالنصوص التاريخية المكتوبة، أو بالسرديات التاريخية السائدة، فالتاريخ يكتبه المنتصرون. ومن هنا إذاً، يبدو علم الآثار مؤهلاً أكثر من غيره، لإعادة كتابة التاريخ عموماً، وتاريخ الحضارة المغربية على وجه الخصوص، والتي اعتقد أنها عانت من حيف كبير في القراءات التاريخية".
وأضاف المساتي، في تصريح لرصيف22، أنه "إذا كان علم الآثار يخضع لما هو علمي، فإنه أيضاً يخضع لكثير من التأويلات التي تظل محكومة بذاتية المؤول"، موضحاً أن "الوعي بالتداخل بين العلمي التجريبي، وبين التأويلي، يبدو مهماً في هذا السياق، حتى لا يتحول التأويل إلى يقين، أو حقيقة تاريخية تُبنى عليها حقائق تاريخية، وهو ما حدث مع كثير من السرديات التاريخية التي انطلقت من فرضيات، أو من تأويلات اعتمدت في ترسيخها على علم الآثار، حتى أصبحت حقائق لا تقبل الجدال".
وهذا التصريح قد يشير إلى الدراسات التي أُنجزت في القرنين 18 و19، وكان خلفها باحثون أوروبيون انطلقوا في دراساتهم من فكرة "المركزية الأوروبية" التي أعطت لإفريقيا والمستعمرات الأوروبية عموماً، دوراً ثانوياً في تطور تاريخ البشرية، وانتقصت من دور المنطقة في بناء "الحضارة الإنسانية".
وبالنسبة إلى الباحث، فإنه "من حسن الحظ أننا توفرنا على نخبة من الباحثين الأثريين في فترات ما قبل التاريخ، قدموا إسهامات مهمة جداً، برؤية نقدية متميزة"، مُستدركاً أنه "في ما يخص الفترات القديمة، أو الوسيطية، لا زلنا نعاني نقصاً في هذا المجال، خاصةً أن كثيراً من المنطلقات الأثرية لم تعرف مراجعات نقدية ومنهجية أساسية، ومع ذلك يظل علم الآثار أكثر مصداقية من الوثيقة المكتوبة، في إعادة كتابة تاريخ المغرب، وفق رؤية نقدية، وحذر منهجي".
لماذا المغرب؟
لماذا يهتم الباحثون الأركيولوجيون بجغرافيا المغرب؟ أكثر الأسئلة التي تُطرح بعد كل اكتشاف، بُغية فهم سرِّ اهتمام الباحثين بإنجاز حفريات أثرية في المغرب.
الباحث يوسف دجلال، يعزو هذا الاهتمام إلى "الموقع الجغرافي للمغرب، الذي لعب دوراً مهماً في فترة ما قبل التاريخ، إذ يطل على أوروبا كممر بحري، وعلى إفريقيا، وبقية شمال إفريقيا، والشرق الأوسط. فهو يُعد مثل جسر لأوروبا".
وأضاف دجلال: "بما أن الإنسان العاقل ظهر في إفريقيا، فكان من الأسئلة التي طرحناها سؤال كيف وصل إلى أوروبا؟ ومن بين المواقع التي من الممكن أن يكون قد انتقل منها من إفريقيا إلى أوروبا، مضيق جبل طارق".
والسبب الثاني، بالنسبة إلى المتحدث، هو مِشعلُ البحث العلمي والأركيولوجي الذي يشغل اهتمام نخبة من الطلبة الباحثين المغاربة، من خلال التعامل مع مادة أركيولوجية فحسب، من أجل "معرفة السلوك البشري ما قبل التاريخ، في غياب كامل وشامل للكتابة، إذ نأخذ أكثر المعلومات من الأدوات الحجرية، والأصداف البحرية، والعظام، وما دون ذلك من الاكتشافات".
وعلى مستوى آخر، يرى يوسف المساتي أن "المغرب يتوفر على خزانة أثرية ثرية جداً، من عصور ما قبل التاريخ إلى الفترة المعاصرة، لكنها تحتاج إلى عمل كبير على مستويات الدراسة والعرض. فكثير من المجموعات الأثرية لم تتم دراستها بعد، وبعضها يتعرض للتلف، بسبب عوامل مرتبطة بظروف التخزين، والصيانة، وغيرها من عوادي الدهر".
ومن زاوية العرض، يضيفُ الباحث، أن "الأمر لا يزال ضعيفاً، إذ إن البنية المتحفية لا زالت ضعيفة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المواقع الأثرية، التي لا تتوفر على رؤية إستراتيجية لتسويقها، والترويج لها، باستثناء بعض المواقع المحدودة، ناهيك عن الإشكاليات المرتبطة بالموارد البشرية، والتقنية، واللوجيستية، خاصةً أن هذا المجال يتسارع بشكل كبير، ويعرف تحديات كبيرة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...