لابد لنا حالياً أن نعيد النظر بمفهوم "الجديد"، ماذا يعني عام جديد ؟ لقاح جديد؟ جرعة جديدة ؟ والأهم، متحور جديد؟
لا نمتلك هنا القدرة الكافية على تحليل تاريخ "الجديد" أو مفهومه، لكن، كوننا في عالم أدمغتنا فيه متصلة بالشاشات، والفلسفة انتهت، مرتين، كل ما يتدفق أمامنا هو "جديد": جزء جديد من "ماتريكس"، جزء جديد من "الرجل العنكبوت"، حجر صحي جديد، كل هذا التدفق والقواعد المرتبطة به تخلق فينا خوفاً وحماساً، مصدره توقعاتنا عن المستقبل والخطر المحدق المحيط بنا، ذاك الذي يطرق أوجهنا دائماً، خطر نحرص على تفاديه ونستعد جسدياً للهرب منه.
الخطر، دون أن يكون ذا جدول واضح يضبط تدفقه وإيقاعه، يهدد ذاكرة أجسادنا، حتى لو ظننّا أنّا اعتدنا عليه. فتدفق الأدرينالين الدائم، خوفاً من "خطر" قريب لا نعرف إن كان سيقع أو متى سيقع، يهدد عضلاتنا وإدراكنا، فأجسامنا تستعد للهرب دوماً، تحاول حماية نفسها، ينكمش الكتفان داخلاً لحماية القلب والرئتين، تتقلص العضلات، الظهر يتقوس، التهديد الدائم يخلق توتراً دائماً، خصوصاً لدى من أصيب بكوفيد وتعافى، فإلى الآن لا نمتلك إلا ملامح من أثره طويل الأمد، كتهديد الوظائف المعرفية، التعب المزمن، الألم في المفاصل.
لابد لنا حالياً أن نعيد النظر بمفهوم "الجديد"، ماذا يعني عام جديد ؟ لقاح جديد؟ جرعة جديدة ؟ والأهم، متحور جديد؟
كأننا حالياً أجساد وجدت نفسها بمواجهة خطر مميت دون أن تقوم بحركة، عليها البقاء في المنزل، التباعد والتباطؤ. هذا "الخطر" بالرغم من أنه خفيّ، نوجّه دائماً نحوه، خصوصاً أنه يؤكد على حضوره في كل دقيقة. إذ يزداد تدفق الأدرينالين مع كل خبر، أو إشاعة، أو صوت، يترافق ذلك مع انكماش الجسم على الجسم، فلا مكان للهرب، لسنا أمام صفعة أو طوفان أو زلزال يحركنا الأدرينالين بعيداً عنه، بل خطر يقترب شيئاً فشيئاً حدّ تكميم أفواهنا.
الخطر النيتشوي المؤلم
نشر الباحث توبايوس كيوين عام 2018 ورقة بحثية بعنوان "أخلاقيات الخطر عند نيتشه"، يناقش فيها مفهوم الخطر لدى المفكر الألماني الشهير، وموقعه ضمن أفكاره، ويصف لنا كيف عاش نيتشه بخطر، وكتب كتباً خطرة، لكن كيوين يركز على "الخطر" الأكبر الذي واجهه نيتشه والمحرك لمعظم نصوصه.
لسنا مختصين بالفلسفة الألمانية، ولا نعلم ماذا كان يعنيه بالضبط صاحب "ما وراء الخير والشر" حين قال "عشْ بخطر!"، لكن، يطرح توبايوس أمامنا تعريفاً ملفتاً للانتباه للخطر النيتشوي، وهو "التهديد بتداعٍ غير متوقع، ضياع، أو تدمير بنية كانت ثابتة، هو التهديد المهيمن الذي لا يمكن التغلب عليه والذي يصيب أي رؤية مطمئنة للعالم، جاعلاً إياها متناقضة دون رجوع، كخطر النظام المتيافيزقي والأخلاقيات الدوغمائية، هذا الخطر متناقض في ذاته ولا يمكن الدفاع عنه".
استطراد لا جدوى منه محاولة تفسير التعريف وما يحمله من رعب، فالانهيار والتناقض لم يصيبا الميتافيزيقا فقط، ولا الأخلاق فقط، بل المؤسسة المنطقية أيضاً، والقطاع الفني، والعقل نفسه محتار، مقوّض لذاته، فالمؤسسة الطبيّة تتناقض، لا رؤية متماسكة لمستقبل، والأهم، أن هذا الخطر "يخلق لدينا الخوف بأننا لن نكون قادرين على تحقيق أحلام الشباب"، كوننا نستبدلها بـ"السينيكيّة" والسخرية.
الخطر الآخر الذي عمّق وجوده الوباء يتمثل بالسينيكية، التي ترى أن الواقع لا يمكن تغييره "الآن"، ولا يمكن له إلا أن يكون بهذا الشكل، بالرغم من أن احتمالات التغيير قائمة، لكنها تتقنع بسخرية عدميّة، وحتمية تاريخيّة، لا شجاعة في مواجهتها
"عكس الثقافة هو البربرية، هو غياب الأسلوب"
واحدة من الأخطار التي عمّق وجودها الوباء تتمثل بغياب الأسلوب، أي أن تفقد "الثقافة" قدرتها النقدية، وتهدد نفسها لتغرق في الماضي وتقلّده، تقتبس من ذاتها وتستهلكها، تفتقد للألق، كونها عاجزة عن تفسير ما مضى أو تقديم فهم للمستقبل، ما يحوّل "الآن" إلى مصنع للذاكرة النوستالجيّة.
الكلام النظري الغامض السابق نراه بكل وضوح في الجزء الرابع من فيلم "ماتريكس"، الذي يمكن القول أنه فيلم يتناول أجزائه السابقة و يفكر بها، يستعيدها ساخراً من الجمهور وإصرار شركة وارنر براذرز على إنتاج جزء جديد، ففي أحد المشاهد يظهر The Merovingian، مُهرِّب المعلومات والبرامج، مُشرداً منفياً من "الواقع"، يهذر بكلام غير مفهوم، بعد أن كان ملك الأناقة، حساساً مرهفاً ساخراً براغماتياً، أصبح الآن، في الفيلم الجديد، يمثل "القديم" ويشتم "الجديد" مُتهماً إياه بأنه لا يمتلك أسلوباً، أسير تصورات الماضي، قبيح، يلوك ما قيل سابقاً و يقدمه دون أي توقعات جديدة.
لكن، ماذا يعني بالضبط غياب الأسلوب بوصفه شكلاً من أشكال الخطر؟
غياب الأسلوب (ربما)، وحسب التعريف السابق، انهيار الكتلة السابقة القادرة على التفسير، تلاشي "منطقيّة" العالم والعلاقة بين داله ومدلوله. الطبيب لم يعد يقول "الحقيقة"، والسياسي يروّج لنظريات المؤامرة، ربما الأسلوب هو توليف للعناصر بصورة متتالية تترك مساحة للظن والشك، للتوتر والأخذ والرد، لا كما في فيديوهات اليوتيوب، حيث تتدفق ضمن تسجيل واحد ولبضع دقائق، مئات السقطات المتتالية من على الدراجة لأناس لا نعرف عنهم شيئاً سوى أنهم تألّموا بعد السقوط.
ما يحدث اليوم أشبه بنبوءة ماكبيثية: هناك ثلاث علامات، كوكب يحترق، وباء يعصف بالجميع، وقتلة للنساء في كل مكان
"لا يمكن للواقع أن يكون مختلفاً عن الآن"
الخطر الآخر يتمثل بالسينيكية، التي ترى أن الواقع لا يمكن تغييره "الآن"، ولا يمكن له إلا أن يكون بهذا الشكل، بالرغم من أن احتمالات التغيير قائمة، لكنها تتقنع بسخرية عدميّة، وحتمية تاريخيّة، لا شجاعة في مواجهتها، والمثير أننا نقرأ في ذات الورقة السابقة، التهكم التالي على لسان نيتشه الذي يرى أن الأسلوب الوحيد للبشر كي يعيشوا بتماسك، ضمن مجتمعات تحفظ الحياة، هو بتوحيد استخدام اللغة.
هذه السخرية تكشف أن "الحقيقة والوهم يتطابقان" و يتحول الخطر المحدق بالعالم إلى أزمة بلاغية بين القوى التي تخربه، ولا نتحدث عن كوفيد، بل ما حصل في قمة المناخ العام الماضي في غلاسكو، فبعيداً عن خيبة الأمل العالميّة وإدراكنا أن النهاية قادمة، كانت المشكلة، حسب التسريبات، اختلاف على العبارات المستخدمة في البيان. الكل مذنب بالطبع، لكن تصارعت الأطراف الأكثر تلويثاً، كالسعوديّة والصين، على البلاغة المستخدمة، وضرورة التخفيف من حدتها. الخطر قائم، نحدق به يدمر أكبر بنية ثابتة نعرفها "الكوكب"، لكن هذا لا يهم، المخيف هو أزمة الضمائر والنبرة.
ما نفهمه مما سبق، أن لا لغة واحدة لـ"وصف" الخطر، ولا اتفاق على درجة "خطورته"، هناك فقط اطمئنان لبلاغة الكلمات، التي تقول إن الخطر لم يصل بعد حداً نفقد فيه القدرة على التعبير، أي تدفق الأدرينالين لم يكمم أفواهنا بعد ويتركنا مشلولين أمام الكارثة.
"الأرواح الحرة، تهدد قواعد الحياة اليوميّة"
واحد من الأخطار التي تشير لها الورقة عن نيتشه هي خطر الاستقرار في قواعد الجماعة، وخصوصاً القواعد اليوميّة، فالراحة ضمن حشد مطيع نتشابه ضمنه في انصياعنا لما نؤمر به، ونتواضع أمام الخطر وحتميته، يخلق نوعاً من الأمان، ما يدفعنا لتجاهل ضرورة التغيير، بالتالي لا مواجهة مُجدية للخطر، ولا أهميّة للروح الحرة التي يتحدث عنها نيتشه، التي تخاطر في سبيل نقاء فرديتها وكسر قانون الجماعة، كونها تضع كمامة وتتباعد اجتماعياً، وهي أكسل من أن تحلّق، لأن مفاصلها موجوعة حد التفكك.
نركز هنا على القواعد اليومية، خصوصاً أن الخطر هو الآخرون، بكل تنوعاتهم، ملقحين أو غير ملقحين، بالتالي، أي أخلاقيات نمتلكها أمام الخطر إن أعدنا سؤال نيتشه في زمن الوباء، أي تمرد يصلح لنخاطر من أجله في سبيل "حرية الروح"؟ تغيير قواعد الحياة اليوميّة؟ أي إجراءات قد تصلح لخلق وهم لدينا بأن الخطر أقل، ولا داعي لكل هذا الأدرينالين؟
أحد الاقتراحات البديلة عن "العزل" الذي تخضع له المدن في حالة تفشي العدوى، يتمثل بالتحكم بتدفق الأفراد، إعادة تقسيم ساعات العمل وساعات النهار والليل، وفق "كوتا" تتيح للجميع التحرك ضمن ساعات محددة، لكن ضمن جماعات أقل، هذه التقنية تقلل من التجمعات لكنها لا تمنع أحداً من الخروج إلى الشارع، ما يعني ديناميكية أكثر واحتشاداً أقل، ولا نعني هنا انخفاض معدل الأدرينالين، بل التحكم بساعات ذروته، خصوصاً أن "قواعد التباعد الاجتماعي" لم تحقق فعلاً المطلوب، الخطر ما زال قائماً، غيّرنا اسمه ووصفه، لكنه حاضر، لا روح حرة خارجاً، وأما كسر القواعد في المنزل، فيخفف من القيد لا يحرر "الروح"، ويضبط معدلات الأدرينالين ونشاط قشرة الكظر، مبعداً ولو لساعات الخطر القادم، سواء كان الحجر الصحي، أم اقتراب موعد دفع الأجرة، أو الحاجة إلى الجرعة 14 من اللقاح.
ما الذي يمكن أن نفعله بوجه الخطر؟
يهزأ نيتشه من البطل التراجيدي وأخلاقه، بوصفه يتحرك بوجه الخطر، ويحاول مواجهته عبر ادعائه أنه يمتلك السيطرة على مصيره، لكن هذا الوهم بأننا أسياد أنفسنا، تهشم بشدة مؤخراً، فالإبر تدخل لحمنا، وأفكار تزرع فينا من الشاشات التي تثبت أن البطل التراجيدي لم ينته فقط، بل تحول إلى أضحوكة، كون أنفسنا مدمرة، ولا طاقة للواحد منا على مواجهة السفينكس أو العم الغدار، أو حتى قائد ميليشيا مسلحة.
لكن، ما الذي يمكن فعله؟ وصية نيتشه بأن نخاطر بأنفسنا لكشف الحقيقة لم تعد مجدية، ربما بقي حق الدفاع عن النفس بوجه هذا الخطر، خصوصاً أن ما يحدث أشبه بنبوءة ماكبيثية: هناك ثلاث علامات، كوكب يحترق، وباء يعصف بالجميع، وقتلة للنساء في كل مكان.
المشكلة أننا غير متفقين على معنى "اللغة" حسب الاقتباس السابق من نيتشه، بالتالي لا يوجد حل للـ"جميع"، حتى لو ظهرت الحقيقة العارية أمامنا، فستخضع للتأويلات والتحذلق والتكثيف الإعلامي ثم التحليلات المتأخرة، ومقالات المتحلقين والملفقين كهذه، الذين يحاولون التحكم بتدفق الأدرينالين بأجسادهم، ذات المفاصل المعطوبة، الخائفين من "الخارج"، ليقولوا إن ما نفعله الآن هو الأنسب.
ربما يستطيع الفن تقديم مخرج ما حسب ما يقوله نيتشه، أو حل متخيل يمكن تطبيقه، ربما الأمر مشابه لنهاية الماتريكس 4، فـ"نيو"/ "المختار" بعد أن يبعث من موته، يعجز عن الطيران، كل أدرينالينه لا يساعده على كسر قوانين الجاذبية، إلا حين يمسك يد من يحب ويحلّق، لا مواجهة إذن، بل هروب من نوع ما، ومحاولة لإعادة الكرّة في تدليل لاحتمال أن يعود كل شيء على ما يرام.
ملاحظة: نهاية الماتريكس 4 لا تقدم أي تفسير مقنع سوى أننا وقعنا بالفخ مرة أخرى ولم نتعلم شيئاً، النهاية حتميّة حتى لو تمكنا من الطيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون