لم نفكّر حين كنّا قبل أسبوع في الصحراء أنه يتغير حال المدينة بعد عودتنا في غضون يومين. قلنا -المجموعة- إننا سنلتقي خلال الأيام المقبلة، وقد تكونت صداقة مع مضيفينا اللطفاء الذين يديرون فندقاً صغيراً وجميلاً في تلك القرية الصغيرة والجميلة وسط الصحراء الواقعة محافظة أصفهان؛ مهندس يهوى العيش بعيداً عن المدينة، هادئ وطيب القلب، زوجته، أخت الزوجة وأمها. اتصلت الزوجة تقول: "إننا في طهران ويسعدنا أن نلتقيك، ولكن هل يمكننا اللقاء؟!" وطال الحديث عن الفيروس الجديد.
قبل أربعة أيام، أي مساء الخميس، حين كنت مدعوة إلى عشاء في بيت صديقتنا القديمة التي هي وعائلتها الصغيرة بمثابة عائلتي في طهران، ضحكتُ عند قدومي وهم يقولون: لا تقبّلينا!
في اليوم التالي تطوّر الوضع، وحين زرتُ صديقي الذي يكبرني بأربعين عاماً ولا يخرج من البيت، كان التلفزيون في بيته، من وراء الحدود الإيرانية، لا يتحدّث إلا عن فيروس كورونا في إيران. قال لي: "أرجوك أن تنتبهي كثيراً." وأهداني كمامة واقية. عند الوداع وتوصياته من جديد، قلت: "لا تقلقْ! أنا مؤمنة بالأقدار."
أختي أصرّت ألا أخرج من البيت بعد اليوم، وصديقتي التي نلتقي كلّ يوم تقريباً، قالت: "إن مرضْنا نحن، فسنتعافى، أما أنت فماذا نفعل بك بهذه المناعة المنخفضة؟" وأضافت: "أنا آتي إلى زيارتكِ بضمير مؤنِّب!" وذهبت بقبلة هوائية، ودون عناق.
اتّصل صديق وصديقة مقرّبيْن من خارج البلاد وأوصياني: "لا لقاءات، ولا سهرات ولا مقاه. انتبهي فإننا قلقون، والأخبار سيئة وستسوء أكثر"، وكانت المرة الأخيرة التي أذهب فيها إلى المقهى القريب من بيتي كعادتي منذ فترة لأجلس من أجل العمل.
بعد النادي زارتني صديقتي القادمة من الأهواز، معها كمامات لي أيضاً. إذاً، أصبح الناس يأتون إلى بيتي بالكمامات بدل الأزهار التي أحبّ، وبدل أن يسألوا: "هل تحتاجين إلى شيء لنجلبه معنا؟"
"لستُ قلقاً إلا عليك"؛ "تجنّبي الأماكن المزدحمة"؛ "من الأفضل أن تلغي رحلتك إلى بيروت"؛ "طمأنيني باستمرار"؛ رسائل وأصوات وصلتني من أحبةٍ كلُّ واحد/واحدة منهم/منهنّ، مقيمٌ/مقيمة خلف حدود بعيدة.
في اليوم التالي لهذا، كان لي موعدٌ مع صديق من أجل البحث حول الموسيقى العربية وتأثيرها على الفارسية. انتقل اللقاء من المقهى إلى البيت. وصل بكمامة على وجهه ومعه واحدة لي. منحني قبلة هوائية، وقال: "بعد البحث في عدة صيدليات وجدتُها. عيلكِ أن تنتبهي كثيراً." ذهبنا بعد اللقاء أنا وأختي إلى النادي الرياضي، وقالت أختي: "إنها المرة الأخيرة!"
بعد النادي زارتني صديقتي القادمة من الأهواز، معها كمامات لي أيضاً. إذاً، أصبح الناس يأتون إلى بيتي بالكمامات بدل الأزهار التي أحبّ، وبدل أن يسألوا: "هل تحتاجين إلى شيء لنجلبه معنا؟".
أعلنت الأخبار عن وجود حالة إصابة بفيروس كورونا في بيروت لدى سيدة قادمة من إيران. وهكذا بدا أن رحلتي إلى بيروت التي كان من المفترض أن تكون قريباً، ستُلغى.
في اليوم التالي، وهذا يوم الأحد الماضي، اضطررت إلى الذهاب إلى الطبيبة من أجل كتابة وصفة التحاليل الدورية الجديدة. حاولنا أن نتصل بمكتب الدراجات النارية الذي يقدّم خدمة إيصال المرسولات في أنحاء طهران، إلا أنهم حين سمعوا اسم الطبيبة والمشفى، قالوا: "ليس لدينا أحد في الوقت الحالي". قالت الطبيبة: "في المرة المقبلة يمكن أن يأتي أحدٌ آخر مكانك".
سألت صيدلية المشفى إن كان لديهم كمامات أو سائل معقم، فقال البائع: "لا شيء!".
في الشارع، كثيرٌ من الناس واضعون الكمامات الواقية، ولافتات في المدينة تؤكد على عدم لمس الأشياء في الأماكن العامّة ووسائل النقل العام. بالقرب من البيت، سمعتُ سيدة تقول لطفلتها، وهما خارجتان من محلّ أحذية الأطفال الواقع تحت بيتي: "أما قلتُ لكِ ألا تلمسي مقبض الباب؟!" ثمّ مسكت يدَي الطفلة وعقّمتْهما بالسائل المعقّم الذي شحّ بدوره في الصيدليات.
قالت الأخبار إن المسافرين القادمين من إيران إلى بيروت، سيبقون أسبوعين في الحجر الصحي، ثمّ بعد ذلك سيُسمح لهم بالخروج إلى المدينة أو لا يُسمح. رحلتي إلى بيروت ألغيت تماماً، كما رحلتنا أنا وأختي إلى الأهواز لزيارة أمّي، وأيضاً الرحلة التي كنتُ خطّطت لها بعد بيروت، من أجل حضور مهرجان موسيقي في جنوب إيران. قالت صديقاتي: "كنّا نفكر أنه من الأفضل أن تذهبي إلى بيروت وتبقي فترة هناك، أما الآن فابقي هنا وحسب." وكم أشتاق إلى لبنان!
بالقرب من البيت، سمعتُ سيدة تقول لطفلتها، وهما خارجتان من محلّ أحذية الأطفال الواقع تحت بيتي: "أما قلتُ لكِ ألا تلمسي مقبض الباب؟!"
في المساء، زارت أختي القلِقةُ طبيبيَ الذي هو بمثابة "البابا" بين الأطباء الآخرين، والمشرف على عمليتي الجراحية من قبلُ، وأكّدت من قِبلِه: "لا تسافرْ حالياً، ولا تلتقي كثيراً من الناس."
صديقتي التي قالت من قبلُ إنها ستزورني ليلاً، كتبتْ أنها تشعر ببعض الحرارة، ومن الأفضل ألا تلتقيني خوفاً عليّ. قالت: "لن آتي إليك إلا بعد التأكد من صحّتي". اتصلتُ بها، وهي المرتبطة مؤخراً بشابّ، قالت: "ماذا نفعل بالقُبَل في هذا الوضع؟" قلتُ: "لا تقلقي! العناقُ والقُبَل العادية ممنوعة، ولكنّ القبل الدافئةُ فهي تعقّم أصلاً!".
واليوم جالت أختي صيدلياتِ المدينة من أجل السائل المعقم، وجهاز قياس الحرارة، وما يوصى به لمقاومة فيروس كورونا هذه الأيام. بعد كثير من البحث أتتني بكثير من الليمون والخضار والسائل المعقم وجهاز الحرارة وكمامة واقية وخمسة قفازات طبيةز قالت: "هذا الكنز وجدناه في صيدلية وحيدة شمال غرب طهران، ولا يبيعون أكثر من هذا. أما أسعار الليمون والزنجبيل فقد تضاعفت." لأنهما يوصى بتناولهما هذه الأيام. منذ فترة وأنا أشرب يومياً كوباً أو كوبين من شاي الليمون والزنجبيل والعسل، فهل كانت يد الطبيعة وراء ذلك؟!
تزايدت الاتصالات بي والتوصيات والتحذيرات من قبل الأصدقاء والصديقات. زوجة صديقي الذي أحبه جدّاً، قالت: "إنه قلقٌ عليك. نرجو ألا تخرجي من البيت وإن أردتِ شراء شيء، فأخبرينا لنجلبه لك." قلت كالعادة: "كَم أحبّكما"، وطمأنتُها بأنني "منذ أمس التزمتُ البقاء في البيت، وأنا في حجر صحيّ قسريّ، وكأنني في سجنٍ جميل؛ أشاهد الناسَ بالكمامات في الشارع والسيارات والأشجار المصابة بالشتاء وليس بالكورونا، من خلف شبابيك بيتي، وأحمد اللهَ." من خلف الشبّاك يبدو أنه أنا والأشجار فقط ننتظر الربيع! لم أقل لها ذلك.
وصلتْنا رسالة على الهواتف المحمولة من قبل وزارة الصحة بألا تنتبهوا في ما يخصّ بفيروس كورونا في إيران سوى إلى الأخبار التي تأتي من قبل هذه الوزارة!
صديقتي المقربة صاحبة الضمير المؤنّب اتّصلت وقالت: "سألتُ كلّ الصيدليات من أجل السائل المعقم لك، ولم أجد." قلت: "توقّفي، (أصبح عندي الآن بندقية)!". وضحكتُ معها على كلّ ما يحدث.
اقترحتُ على بعض الاتصالات: "ما رأيكم أن نجتمع كلّنا في بيتي؟ نشتري ما يلزمنا من أجل الحياة والطبخ. نبقى في البيت؛ نطبخ، ونأكل، ونشتغل، ونرقص، ونشاهد الأفلام". قال أحدهم، صاحب الروح الفكاهية: "نسيتِ يا مريم جزءاً مهمّاً من الحياة. لماذا لم تذكري المضاجعة؟ فالحياة (package) وهذا من ضمنه!" قلتُ: "لابدّ من (الكافور) أيضاً في زمن الكورونا! كلّ الأكل سيكون منكّهاً به."
يوم دون خروج من البيت، وبعد كثير من العمل، وقليل من الطبخ، أضع نفسي كعادتي في هذه الليالي بين نصّ فارسي قديم من الترجمات الأولى للقرآن. يحمد الله بتلك الفارسية السلسة والفاتنة، وكأن الله هذا إلهٌ آخر.
أنهض لأهدي نفسي حفلة لعبد الحليم حافظ، ليغني على حائط البيت: "سافرت كتير معاه/ كتير كتير معاه/ بأحلامي في هواه". ثمّ أتركه يغني كلّ ما يأتي به Youtube عشوائياً، وأتمدّد أمامه وأؤمن بالأقدار التي في أغانيه، وبذلك الإله الآخر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يومينوالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت