شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لابدّ أنْ ينهار كلّ مقدّس II: التخريب

لابدّ أنْ ينهار كلّ مقدّس II: التخريب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 8 مارس 201910:47 ص
لا نقصد هنا التخريب بمعناه الأناركيّ وتهديم البنى الماديّة للعالم، بل تتحدث المقالة عن نوع من الحوار الخشن بين ما هو قائم وما هو مطلوب، بين ما يحافظ على الأعراف والمقدّسات وبين ما يزعزعها. فالتخريب حين يحصل علناً، يكشف عن مجموعة القوة التي تجعل كسر التابو بشكل فرديّ خفياً ومحارَباً، ما يمنع تحوّل هذا الرفض إلى ظاهرة علنيّة، كحالة فنّ الشارع مثلاً الذي يعرّف قانونياً على أنه "تخريب"، لكن قيمته النقديّة تتجاوز مضمونه، نحو كشف وسائل "المحي" التي تستخدم لإزالته من العلن.
في المجتمعات القمعية العربية، لابد من توظيف اللعب والفخ والتخطيط الدقيق للحفاظ على الحياة من جهة وتهديد "الممنوعات" والشكل القائم من جهة أخرى ليكون الكسر جماعياً لا فردياً
ليكون التخريب ذا جدوى، عليه أن يخاطب الإيقاع الرسمي للحياة، ويهدّد الشكل الطبيعي المعتاد الذي لا يثير الشبهات.
ذات الشيء في تخريب تماثيل الطغاة والسخرية منهم على الجدران، يكتسب قيمته من جهود أولئك "المطبعين"، الذين سيأتون لمحوها وإعادتها لشكلها "الأصليّ" للحفاظ على "هيبة السيادة"، وحرمة انتقاد الطاغيّة.
لجعل التخريب أكثر وضوحاً وعقلانيّة، لا بدّ من تصميم فخّ ما أو لعبة، الهدف منها كشف العملية التي يقوم عبرها جهاز السلطة البشري بالحفاظ على المقدّس ونفي كل شكل من أشكال معارضته، ليتحوّل فعلهم اليومي أو "وظيفتهم" التقليديّة إلى شكل من أشكال الأداء الذي يظهر عنفهم وسلطتهم على الآخرين وعلى الشكل الماديّ للمكان. كما حصل في سوريا مثلاً في "سبيكرات الحريّة" التي قام فيها الناشطون بوضع مكبرات صوت خفيّة في المساحات العامة، تبثّ أغان وشعارات مناهضة لبشار الأسد، لنشاهد في التسجيلات القليلة، كيف يتحرّك عناصر الأمن بصورة عشوائيّة، كاشفين عن هوياتهم و هم يركضون من مكان لآخر لإيقاف هذا الصوت الذي يخرّب أشكال الطاعة الرمزيّة. وقعوا في فخٍّ حوّلهم إلى أضحوكة، هم والسيادة الهشة التي يدافعون عنها والتي يمكن تهديدها بأغنية أو صوت عشوائي.
يحضر التخريب أيضاً ضمن مساحات الاستعراض التي توظّف اللعب كجزء من سياسات التطبيع وإنتاج حكايات وأراء سياسيّة ضمن سياق لا جدّي. وهذا ما يتضح بشدة في المسرح التفاعليّ، إذ أن مشاركة واحد من الجمهور وتقديم حكاية مخالفة لما هو متفق عليه، ستثير حفيظة الجمهور والمؤدين، وتخلخل "السيناريو" المتفق عليه. كما حصل في بيروت مؤخراً في عرض مسرحيّ، اتهم فيه أحد المتفاعلين من الجمهور بالتخريب والإقصائيّة فقط لأنه اعترض على واحدة من الحكايات التي لا تدين النظام السوري والعنف الذي مارسه ضدّ الناس. لم يتوقف العرض، لكنه كشف عن سياسات التهميش والتطبيع. الصورة الأشدّ لهذا نراها في باريس-فرنسا حين قام مجموعة من الشبان بتخريب عدد من المسرحيات في أهمّ مسارح باريس، بل إن محاولاتهم المتكرّرة أوقفت بعض العروض كما حصل في الأوديون، ودفعت مسارح أخرى كمسرح الكوميدي فرانسيس لتأجيل واحد من العروض وإعادة النقود للجمهور خوفاً من أن يتمّ "تخريب" العرض. في المثالين السابقين هدّد التخريب نظام الوقت وإيقاعه، ودفع الحضور لطرح تساؤلات حول طبيعة العروض المسرحيّة، وجدوى الجهود التي يبذلونها لـ"استهلاك" مسرحيّة ما، وما الذي تعنيه الحكايات التي يسمعونها ويرونها على الخشبة، هل هي تسلية فقط أم شكل من أشكال الهيمنة السياسيّة. ليكون التخريب ذا جدوى، عليه أن يخاطب الإيقاع الرسمي للحياة، ويهدّد الشكل الطبيعي المعتاد الذي لا يثير الشبهات. التخريب وسيلة لمساءلة "السكون" الذي تضمنه مؤسسات قانونيّة وقضائيّة وإعلاميّة ضمن خطاب قوّة يهدّد أشكال التغيير وكسر المقدسات ويمارس "الإصلاح" إثرها، كوسيلة لإعادة التوازن للمكان العام. ومثال ذلك المظاهرات والاحتجاجات التي عطلت العملية التعليميّة في فرنسا، لتتبعها تصريحات من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنهم محترفي تخريب، ثم اتهام رئيس الجامعة لهم بأنهم تجّار مخدرات ودعارة، ثم تدخل الشرطة العنيف لإعادة المؤسسة إلى شكلها "الطبيعيّ".  هذه القوى الخارجية، رأت في المخربين خطراً لابد من مواجهته بعنف، نعم هناك حفاظ على المصلحة العامة، لكن هذه المصلحة مرتبطة بشكل تشرعنه السيادة، وتنفي إثره فئة على حساب أخرى، ولو كان ذلك يعني العنف والاتهامات العشوائيّة . الأشكال السابقة لا تنجح كلها في دول قمعيّة كالدول العربيّة حيث التهديد بالموت والاختفاء قائم ضدّ من يحاول "التخريب". وهنا لابد من توظيف اللعب والفخ والتخطيط الدقيق للحفاظ على الحياة من جهة وتهديد "الممنوعات" والشكل القائم من جهة أخرى، ليكون كسرها لا فقط على صعيد شخصيّ بل جماعي، ما يجعل التغيير ذا أثر ماديّ في العالم لا مجرّد كلام، كما نقرأ في التقنيات و"الأسلحة" التي يقدمها كتاب "the anarchist cook book"، التي توظف "العنف" في سبيل التخريب وعدم الانصياع التام لقوانين التحريم والمنع والتهميش. إذا تختلف هذه الممارسات عن الأناركيّة، فهي سبيل لإبراز الأخطاء والعيوب وجعلها مرئيّة عبر التخريب، كوسيلة للفت الانتباه والمطالبة بالتغيير والمشاركة به سواء من قبل المنصاعين الآمنين أو من قبل أجهزة السيطرة والأمن العام كالشرطة والجيش.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image