تتداول الحكايات الدينيّة الابراهيميّة قصّة أقوامٍ بربريّة، لا لسان معروف لهم، يفتكون بكلِّ ما يمرّ أمامهم، أقوام غرباء، خروجهم من مكمنهم يُبشّرُ بنهاية العالم، هم "يأجوج ومأجوج"، الشكل الأسطوري للآخرين الغرباء، اللذين يفصلهم عن عالمنا جدار مصنوع من النحاس والحديد.
هذا الجدار، لا يقضي على الخطر الذي يمثله يأجوج ومأجوج، بل يحتويه، ويحوّل العالم بأكمله إلى وضعية الدفاع ضدّ خطرهم.
وكأن الجدار حلٌّ مؤقت، يعكس ضعف هذا "العالم" وعجزه عن التعامل معهم، ليكون صرحاً لا فقط مادياً يفصل "الأمن" عن "الخطر"، بل أيضاً محرّكاً أدائيّاً يضع من وراءه بوضعية الدفاع، ويستنزف من أمامه، أولئك البرابرة العدوانيّون دوماً، الذين في كلّ يوم يحاولون اقتحام عالمنا، فـ"جهد" كلّه في سبيل اختراقه، هم موسومون إلهيّاً بأنهم عدوانيّون، حتى أنهم حسب بعض الأساطير "يلعقون" الجدار في سبيل عبوره، لكنهم يفشلون يوميّاً مع كلِّ قراءة لـ"سورة الكهف".
الجدار، صرح السلطة الماديّة على التراب، علامة على السيادة القلقة، هو الارتفاع في الأرض خوفاً، من آخر مجهولٍ أو معلوم، محرّك ماديّ للوهم بالأمان المتخيّل، يفصل نحن/الآمنين عن الآخرين/الأعداء، هو تحصين يخلق تناقضاً في مفهوم السيادة، بين قوّتها المفترضة وعجزها الواقعيّ عن "ردع" الآخر، هو يختزن العنف، لا يبدّده أو "يحلّه"، ويعطّل السيادة الدستوريّة على حساب الاستثناء والطوارئ، ويكشف هشاشتها أمام الآخر الذي يهدّد "الداخل" المتماسك، الآمن، الثابت الخاضع دوماً للتهديد، سواء كان جدار فصل عنصري في إسرائيل، أو ذاك الذي على حدود الولايات المتحدة مع المكسيك، أو الذي بنته السعوديّة على الحدود مع اليمن.
الجدار، صرح السلطة الماديّة على التراب، علامة على السيادة القلقة، هو الارتفاع في الأرض خوفاً، من آخر مجهولٍ أو معلوم، هو تحصين يخلق تناقضاً في مفهوم السيادة، بين قوّتها المفترضة وعجزها الواقعيّ عن "ردع" الآخر، هو يختزن العنف، لا يبدّده أو "يحلّه"، ويعطّل السيادة الدستوريّة على حساب الاستثناء والطوارئ
كل جدار هو أداة قمعية، الجدار الإسرائيلي أو الجدار الأمريكيّ أو السعوديّ، كلّها جدران تفترض أن من خارجها، عدوانيّ بالفطرة تجاه الداخل، فالجدار أشبه بطوطم، نعلم أنه لا ينفع لكنه يرضيّ الرغبة، هو أشبه ببورنوغرافيا متقنة للخوف الداخليّ
الجدار علامة على خوف داخلي، يعزل الخارج، ويخفيه عن النظر ويسيء تشفيره، هو كجهاز الدفاع النفسيّ لدى "الأنا"، التي تمتلك جداراً لحماية معتقداتها وشكلها، والحافظة على تفسيراتها الخاصّة للعالم، فالآخر أمام الجدار، عدواني ويحرّك الشبقي والعنيف في "الداخل"، فتحة واحدة تكفيّ لزعزعة الأمن وخلخلة النظام العام، وإنتاج فانتزمات الخطر.
صورة السيادة الهشّة
يعزّز الجدار الفانتازم السياسيّ بالهيمنة على الأرض والتحكّم بتكوينها، مع أنه حقيقة لا "يوقف" الانتقال عبره، سواء عبر الأنفاق أو عبر عمليات التهريب المستمرّة دوماً، لكنه يخلق وهمين، الأوّل لمن أمامه بأنهم أعداء، والثاني لمن هم وراءه- داخل الحصن- بأنهم "آمنين" وأن هناك خطراً قادماً لا بد من تفاديه. هو يحدّق دوماً بالموجودين على الطرفين، ويفعّل قانون الطوارئ وحالة الاستثناء في مساحة ماديّة محدّدة، تُعطّل فيها السيادة القانونيّة، و يفعّل العنف التأسيسيّ، سواء عبر قتل من يريد العبور كما في حالة إسرائيل، أو احتجاز من يحاول العبور كما في الولايات المتحدة.
هذا التناقض و"العنف" الذي يمارسه على الجانبين، يعكس سخف مفهوم الجدار، ماديّاً وثقافيّاً، صحيح له أثر شعريّ، لكنه ليس إلا تسليماً بأوهام السلطة عن السيادة في "الداخل"، داخل جدران المنزل، الأب هو السيّد، داخل جدران الدولة، السيادة هي من تتحكّم بالقانون، هناك صورة وهميّة للسلطة يختزنها الجدار ويبثّها للعلن، صورة عن القدرة على رسم الحدود على الأرض.
سخف الجدار الرمزيّ، نتلمّسه في فيلم " الرجل الذي سرق بانكسي" حيث قام "وليد الوحش" هاوي كمال الأجسام، بقطع جزء من جدار الفصل العنصريّ في سبيل بيعه كعملٍ فني يحوي لوحة لبانكسي، بعيداً عن سياسات سوق الفنِّ وموقف بانكسي السياسيّ، الجدار ليس إلا تجلياً للعنف بأشدّ أشكاله، فليس الجدار نفسه ما يحمي "إسرائيل"، بل العنف الممارس حوله وباسمه، وقيمته بالهالة التي يحويها كحالة لوحة بانكسي، هو محرّك لعنفٍ بوصفه الحدّ الذي يباح عندها القتل.
أثر السلطة على المكان
الجدار غرض مسرحي للسيادة، علني، واضح، يضبط سلوكنا حوله، ويختزن قدرة السيادة في الهيمنة على التدفّق البشري ضمن المكان، هو يعزّز النزعة بالتماسك الداخلي لمن هم وراءه، الخائفين من الآخر و من خرابهم، صحيح أن الجدران لا تتحدّث، لكنها تختزن حكايات السيادة، نصوصها القانونيّة وخوفها، لا يهم إن أنجزت الجدران والحواجز وظيفتها أم لا، فوظيفتها سينوغرافيّة، كونها تخلق صورة العالم الآمن،هي البديل عن الحصن والقلعة، والتي تقسم الناس داخلها إلى "مدنيين" و"عسكريين"، فهناك فئة مسؤولة عن الجدار و حمايته، جهاز بشري يراقب الجدار ومن يعبره ويحافظ على تماسكه وانتصابه، فالجدران تحول جهد الأفراد إلى شكل ثقافيّ لبناء "الجغرافيا المتخيّلة" حسب تعبير إدوارد سعيد، تلك المساحات التي تتكوّن ضمنها الهوية الوطنيّة، والاختلاف بين "الأنا" و"هو"، الـ"نحن" والـ"هم".
كلّ الجدران في الرأس
لا ننكر وجود الجدران الماديّة، العازلة، العنصريّة، فكلّ جدار هو أداة قمعيّة، كونه يقترح خطراً من نوع ما، مع ذلك، الجدار يقع في "الرأس"، هناك رغبة نفسيّة بالجدار، وأخذ وضعية الدفاع، هو أشبه بغرض فيتيشي يرغُب به "المواطنون" كونه يقدّم الوعد بالحماية والاستقرار والعزل، هو محرّك لمتخيّلات دينيّة، كتلك التي تحرّك السيادة، عن آخر يشكّل خطراً كليّاً لا بد من عزله، وإلا ينتفي الشكل القائم وقيمه ولغته.
الجدار هو التجلي الماديّ للقلق العميق الذي تحويه الدولة، والخوف الذي يختزنه مواطنوها، الخوف من التلاشي بين جموع "الآخرين"، ودليل على الرغبة بإغلاق دائرة الذات والقضاء على القلق من الآخر، ذاك الذي يحوي عنفاً أصيلاً موجّهاً تجاه الأنا، كحالة الجدار الإسرائيلي أو الجدار الأمريكيّ أو السعوديّ، كلّها جدران تفترض أن من خارجها، عدوانيّ بالفطرة تجاه الداخل، فالجدار أشبه بطوطم، نعلم أنه لا ينفع لكنه يرضيّ الرغبة، هو أشبه ببورنوغرافيا متقنة للخوف الداخليّ.
الرغبة بالجدار
الجدار كما البورنوغرافيا، يخاطب الفانتازمات والمتخيّلات غير القابلة للتحقيق، الاحتواء و عدم القدرة على الاختراق، وهي الأوهام التي يراهن عليه ترامب حالياً، بناء الجدار يعني منعاً تاماً وباتاً لأيّ آخر غريب، ذات الأمر مع الجدار السعودي مع اليمن الذي تداول مؤخّراً ناشطون هاشتاغ يدعو لإنجازه بوصفه "حلماً سعودياً".
كحالة يأجوج ومأجوج، الجدار حلّ ربّاني وديني يضمن سلام الداخل، كون هذا الجدار لا يخترق، وهم سخيف، لكنه يمنح السيادة فانتازم القدرة الكليّة، المشابهة لقدرة الله بإنشاء الحد الكليّ والفصل التام بين "الداخل" والخارج"، لتتعمّق في رؤوس المواطنين فكرة أن السيادة ذات أثرٍ عميقٍ في العالم في ذات الوقت تقضي مؤقتاً على الخوف الناتج من الآخر، الأهمّ أن الجدار، يعزّز الوهم الذي تروّج لها السيادة بأنها تحافظ على حياة مواطنيها.
الجدار شبه ديني وسحري استخدامه يدفع الموت، هو يحمي "حياة" من في الداخل ويحافظ على نقائها، هو الشكل العقلاني والاستعراضي لسطوة شبه دينيّة على الحياة، هو فانتازم من الإسمنت، سلاح السيادة السياسية المفضّل، وغذاء الأمن داخل عقول الناس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...