يُعرف الشركس في سوريا ببشرتهم البيضاء، وإخلاصهم. وكغالبية الإتنيات في بلاد مزّقتها الحرب في السنوات العشر الأخيرة، لا تخلو صفحات سيرتهم من قصص مظلمة لمعاناة بدأت منذ رحلات تهجيرهم القسري إلى سوريا في القرن التاسع عشر.
يقول المؤرخ خيري أرصو في كتابه "تاريخ الشركس الأباظية"، إن "موطن الشركس هو منطقة القوقاز الممتدة بين بحرَي قزوين والأسود، وكلمة شركس ألصقها العرب والأوروبيون بالقوقازيين، وهم شعوب تختلف لغوياً، وتتشابه بالعادات"، مبيّناً أن "معاناة الشركس بدأت عندما قرّر القيصر بطرس الأول الوصول إلى المياه الدافئة عام 1729، فأطلق ثلاث حملات نجحت الأخيرة في إخضاع مناطقهم، ثم اندلعت ثورة الإمام منصور ضد الإمبراطورة كاترين، وانضم لها الشركس، وتحالف مع العثمانيين ضدها، وهُزم الاثنان عندما قام القائد العثماني بطال حسين باشا عام 1891 بدخول المعركة ضد الروس بمجموعات صغيرة بدل الجيش كاملاً".
تجدد الصدام، حسب أرصو، بقيادة الإمام شامل (1832-1859)، وأصبح نائبه محمد أمين أول حاكم لدولة الشركس في عام 1848، ولم يُهزم إلا عندما ضحّت به الدول الكبرى بمعاهدة باريس، وشنّت روسيا هجوماً كاسحاً ضده، اضطره إلى الاستسلام.
موطن الشركس هو منطقة القوقاز الممتدة بين بحرَي قزوين والأسود، وكلمة شركس ألصقها العرب والأوروبيون بالقوقازيين، وهم شعوب تختلف لغوياً، وتتشابه بالعادات
يحكي الأستاذ في الجامعة الأردنية، الشركسي محمد خير مامسر، قصة التهجير، قائلاً إنه "حين هجّرت روسيا الشركس، بعد مفاوضات مع العثمانيين، خيّرتهم بين الهجرة إلى الداخل الروسي، أو إلى تركيا، وبدأ التهجير عام 1861 بـ800 عائلة من شراكس القبرطاي، وهُجّر عام 1864 مليونا شركسي شملوا 80% من شعب الأديجية، وتشير الـ12 نجمةً في العلم الشركسي إلى قبائل الأديجية، ولغتهم أصبحت لسان المهاجرين".
ويشير في كتابه "الموسوعة التاريخية للأمة الشركسية"، إلى أنه "رافقت عمليات التهجير مجازر، مثل إغراق سفينتين محمّلتين بالشركس عام 1878 في لارنكا القبرصية، والعثمانيون زجّوا بالمهجرين في حروب البلقان، وبعد الهزيمة نقلوهم إلى تركيا وسوريا والأردن وفلسطين".
رافقت عمليات التهجير مجازر، مثل إغراق سفينتين محمّلتين بالشركس عام 1878 في لارنكا، والعثمانيون زجّوا بالمهجرين في حروب البلقان، وبعد الهزيمة نقلوهم إلى تركيا وسوريا والأردن وفلسطين
حياة الشركس في سوريا
"عند وصول الشركس إلى سوريا، توزعوا على مناطق الجولان، وحمص، ومنبج، وخناصر، ورأس العين، وبرعوا كعسكريين في الجيش، وشكلوا كتيبةً شركسيةً في حرب عام 1948، بقيادة جواد أنزور، نجحت في تحرير تل العزيزات في الجولان، وقدّمت 80 شهيداً، إلا أنهم بعد نكسة 1967 عادوا وهاجروا إلى دمشق وريفها، ومنهم من رحلوا إلى الولايات المتحدة"، حسب رئيس المجلس القفقاسي الشركسي، هيثم بدرخان، في حديثه إلى رصيف22.
من جهته، يقول السياسي الشركسي من أبناء بئر عجم، والسجين السياسي السابق، ديب قات، في حديث إلى رصيف22، إن "أكبر تجمع للشركس السوريين هو في هضبة الجولان، حيث تمركزوا بعد تهجيرهم في 13 قريةً هناك، ويسكن القرية بين 500 إلى1000 نسمة، وفي حرب 1967 قاوم الشركس الاحتلال الإسرائيلي من أوّل قرية دخلها، وتُسمّى المنصورة، حيث تمترس عدد من الشبان، واعترضوا زحف الدبابات نحو القرية أربع ساعات، حتى اكتشف الطيران الإسرائيلي تسلّحهم بأسلحتهم الفردية، فاقتحم القرية".
ويضيف: "القرى الشركسية لم تنجُ من غضب الجيش الإسرائيلي، إذ طاف في القرى التي وصل إليها، ونادت ميكروفوناته على المشاركين في حرب 1948، ومن يجدوه يعدموه ميدانياً أمام أهله"، مشيراً إلى أنه "تبقّت بعد نكبة 1967، ثلاث قرى هي بئر عجم وبريقة والدودارية، ونصت اتفاقية الفصل في حرب 1973، على عدم إعمار القرى الشركسية، ولم يعد النازحون إليها إلا عام 1977، ووضع القرى كان معقداً لأنها شبه معزولة ومحاطة بحواجز للأمم المتحدة والأمن السوري".
وصل إلى منبج 350 عائلةً شركسيةً عام 1878، وكانت مهجورةً من سكانها منذ تدميرها على يد تيمورلنك، فأعاد الشركس إعمارها، ودبّت الحياة فيها
استقرّ الشركس أيضاً في عدد من بلدات الشمال السوري المهجورة، إذ يقول مازن بايرم، وهو أحد سكان منبج الشركس، إنه "وصل إلى المدينة 350 عائلةً شركسيةً عام 1878، وكانت مهجورةً من سكانها منذ تدميرها على يد تيمورلنك، فأعاد الشركس إعمارها، ودبّت الحياة فيها، ثم توافدت إليها المكوّنات الأخرى".
ويكشف تيمور الشيشاني، أحد وجهاء الشيشان في مدينة رأس العين، أنهم "أحد الشعوب الشركسية التي تتحدث الشيشانية، وبعد تهجيرهم من الوطن الأم، سكنوا رأس العين، وكانت مهجورةً، فأعادوا إعمارها أيضاً، لتصبح فسيفساء لمختلف الأعراق، وعاش الشيشان في حي المهاجرين مترابطين اجتماعياً، وعملوا في الزراعة، لكنهم لم يهتموا بتدريس اللغة الشيشانية، فالمستخدَم منها 25% حالياً".
أحد الشعوب الشركسية التي تتحدث الشيشانية، بعد تهجيرهم من الوطن الأم، سكنوا رأس العين، وكانت مهجورةً، فأعادوا إعمارها، لتصبح فسيفساء لمختلف الأعراق
ويصف أستاذ اللغة الشركسية، عبد السلام لاش، القاطن في بلدة مرج السلطان في ريف دمشق، استقرارهم في البلدة، ويقول: "فرض العثمانيون الشركس على البلاد، ولم يربطهم بأهلها سوى الإسلام، والهوية العثمانية، ولكنهم دافعوا عن وجودهم فيها، إذ في عام 1926، حدثت معركة بين ألف مهاجم لنهب القرية، و50 مدافعاً عنها، منهم 13 امرأةً، نجحوا في صد الهجوم، وعادت وتحسنت علاقتهم بجيرانهم بعد تضحياتهم في حرب 1948، مشيراً إلى أن "قدسيا هي حي في محيط عربي أنشأه بعض النازحين الشركس من الجولان".
اللغة والعادات الباقية
يروي لاش الذي وضع أربعة قواميس للّغة الشركسية، آخرها عربي-شركسي، لرصيف22، أن "اللغة الأديجية كُتبت بالحروف العربية، ثم اللاتينية، لتتحول عام 1947 إلى الروسية، وفي سوريا المنزل أكبر مدرسة لتعليم اللغة، وخاصة الأم، والجمعية الشركسية تقدّم حضانةً لغويةً للأطفال، ودورات للكبار لمدة ثلاثة أشهر، ولكن بعد عصر الإنترنت حدثت نهضة لغوية، وأنشئ 50 موقعاً لتعلم الشركسية، وعلى الرغم من ذلك بدأت تتأثر عند الجيل الجديد.
يتطرق لاش إلى تصميم المنازل الشركسية، "فبنيتها شبيهة بمنازل أرض الأجداد، مع اختلاف مواد البناء، وتتميز بجدار له بابان، وغرف متراصفة طولياً، وأمامها مصطبة، أو شرفة مسقوفة، والمطبخ والفرن والمرحاض مستقلة عن الغرف، وباحة الدار مزروعة بالأزهار مع بئر صغير".
منازلهم شبيهة بمنازل أرض الأجداد، مع اختلاف مواد البناء، وتتميز بجدار له بابان، وغرف متراصفة طولياً، وأمامها مصطبة، أو شرفة مسقوفة، والمطبخ والفرن والمرحاض مستقلة عن الغرف
انتقل الشركس إلى سوريا بعادات وتقاليد لم تغيّرها تقلّب السنوات، بل حاولوا قدر الإمكان تثبيتها في الوطن الجديد، ولا تزال موجودةً بينهم على الرغم من مرور 200 سنة على التهجير، منها الزي الشركسي الكامل الذي ينحصر حالياً بالفرق الفنية والمناسبات، بسبب كلفة اقتنائه العالية، ولا يباع في محالّ في سوريا، بل تصنعه نساء يعملن في الخياطة في الجمعية الشركسية، حسب لاش.
وأصبحت الجمعية الخيرية الشركسية مع الوقت، أكبر منصة تجمع الشركس في سوريا، ويوضح غسان شورى، رئيسها، أنها "تأسست عام 1948، إذ خلّفت الحرب آنذاك الكثير من الشهداء، وتالياً الأرامل والأيتام، فاجتمع كبار السن الشركس، وكوّنوا صندوقاً لإعانتهم، ليتحول إلى جمعية، وأصبح هدفها الاحتفاظ باللغة والفلكلور بجانب العمل الخيري، وأنشأت ستة فروع".
الشال تضعه العزباء فوق القبّعة، والمتزوجة تحتها، أمّا الشاب فيرتدي سترةً طويلةً سوداء للقتال، وحمراء للفرسان، وبيضاء للأمراء، ونطاقاً، وقامة "الخنجر"
للشركس عاداتهم في الملبس، تقول تالين ضياء الدين، النائبة في الجمعية الشركسية في منبج: "زي الفتاة يتميز بالحشمة، فهو فستان طويل بحزام، وأكمام واسعة، ومطرز بالذهب أو الفضة، وقبعة "القلبق" المطرزة حسب القبيلة، والشال تضعه العزباء فوق القبّعة، والمتزوجة تحتها، أمّا الشاب فيرتدي سترةً طويلةً سوداء للقتال، وحمراء للفرسان، وبيضاء للأمراء، ونطاقاً، وقامة "الخنجر"، وقبعة "القلبق" الصوف، والحذاء المصنوع من الجلد".
"من لا يجيد الرقص لا يجيد القتال"؛ هكذا تصف ضياء الدين لرصيف22، أهمية الرقص، وتنقسم الرقصات الشركسية إلى ثنائية بين شاب وفتاة كـ"القافة" (زفاكئوا)، ورقة الأمراء "الشيشان" لإظهار قوة الشاب ورجولته، وجماعية كـ"الوج"، وتدل على التوافق بين الطرفين، ولا يلمس الشاب يد الفتاة في أثناء الرقص، والآلة الرئيسية في الموسيقى البشنة (الأكرديون)، وتنقسم الأغاني إلى ثراثية تتسم بالحزن وقصص البطولات، وحديثة تتميز بموضوعات اجتماعية، والحنين إلى الوطن الأم.
أما الزواج، فهو ينقسم إلى نوعين: الأول التقليدي إذ يذهب وجهاء البلد إلى أهل العروس، ولا يحضر أهل العروس الفرح، فيما يختبئ العريس في بيت أصدقائه، وفي آخر يوم للعرس يذهب إلى بيت أبيه مع الوجهاء، قبل منزل الزوجية. والنوع الثاني زواج الخطيفة إذ يتفق الشاب والفتاة على الزواج، ثم يرسل أصدقاءه وقريباته ويخطفون الفتاة ويضعونها عند كبير البلدة، وبعدها يذهب وجهاء البلدة إلى والدها، ثم يُعقد القران، وعادةً ما يحدث بموافقة الأسرتين اختصاراً لمصاريف الزواج.
الدستور الاجتماعي للشركس "الخابزة"، قانون غير سلطوي ينظّم المجتمع، ويُختصر بـ"الأخلاق، والقوة، والوطن"، وتضم الشهامة والصدق واحترام المرأة وعدم خيانة الصديق
ولا يمكن أن نغفل في العادات الشركسية، الدستور الاجتماعي للشركس "الخابزة"، والذي وصفته زهيدة إسحاق، الرئيسة المشارك للجنة العلاقات الاجتماعية في منبج، كقانون غير سلطوي ينظّم المجتمع، ويُختصر بـ"الأخلاق، والقوة، والوطن"، وتضم الشهامة والصدق واحترام المرأة وعدم خيانة الصديق.
الشركس والثورة
"انضم الشركس إلى الثورة السورية كأفراد"؛ هكذا تصف الشركسية سلوى أقتاو، نائبة رئيس الائتلاف السوري المعارض، موقفهم من الثورة، مبيّنةً أن "الانقسام حول تأييدها وصل إلى العائلة الواحدة، بسبب وجود من يكنّون الولاء لعائلة الرئيس السوري بشار الأسد، ويتقلدون مناصب مهمة في الدولة، ولذلك الشركس غير ممثلين في الائتلاف ككتلة"، ولكن أقتاو انضمت إلى الائتلاف عبر التوسعة النسائية، وفازت بمنصب نائب الرئيس، وهويتها الشركسية رحّب بها الجميع.
قصف النظام دمّر قرى شركسيةً، وحاصر أخرى لشهور، فنزحت العائلات، وهذا يهدد بضياع المتبقي من لغتهم وثقافتهم العائدة إلى آلاف السنين
تقول أقتاو لرصيف22: "قصف النظام دمّر قرى شركسيةً، وحاصر أخرى لشهور، فنزحت العائلات، وهذا يهدد بضياع المتبقي من لغتهم وثقافتهم العائدة إلى آلاف السنين".
في المقابل، يروى بدرخان تجربة المجلس القفقاسي الشركسي، وهي منظمة اجتماعية سياسية شركسية معارضة. يقول: "بدأت فكرتها بقدوم 1،678 شركسياً سورياً عام 2014، إلى مخيم نزيب في غازي عنتاب التركية، وأنشأوا كياناً لمساعدة المهجرين الشركس، وعملهم المعارض رسالة بأنه ليس كل الشركس مؤيدين للنظام، بعد أن قدّم نفسه للعالم كحامٍ للأقليات".
وتطرّق فراس عمر فروقة، الشركسي المنشق، وابن أخ اللواء بسام فروقة وزير الداخلية، إلى العمل العسكري الشركسي خلال الحرب السورية، فيقول إنه "عمل كمهندس معلومات في شعبة الهجرة والجوازات، وبعد الثورة انضم إلى تنسيقية الكسوة المشكَّلة من الشركس، فهرّبوا الجنود المنشقّين، وأوصلوا الطعام والعلاج إلى الغوطة، وعندما اكتُشف أمره انشقّ مع 44 من أسرته".
يشير فروقة في حديثه إلى رصيف22، إلى أن "القوى العسكرية الشركسية في الحرب السورية تبدأ بكتيبة جواد أنزور التابعة للنظام، والتي أنشأها عام 2013، نائب مدير شعبة الأمن السياسي في دمشق، وليد أباظة، وابنه خالد، والمنضمة أسرهم إلى الجيش والشرطة، ودرّبها الحرس الثوري الإيراني في مقرّ للحرس الجمهوري في دمشق، لتحويلها كنواة لقوّات الدفاع الوطني عن الشركس، ولكن تفرّقت لاحقاً لقلة المنضمين إليها، وتوقف تمويلها بوصول الميليشيات الإيرانية".
كتيبة أحرار الشركس ظهرت في قريتَي بئر عجم وبريقة من شبان في البلدتين غير مؤدلجين، انضموا إلى الجيش الحر الوافد إلى البلدة، وهدفت إلى إسقاط النظام
ويضيف: "كتيبة أحرار الشركس ظهرت في قريتَي بئر عجم وبريقة من شبان في البلدتين غير مؤدلجين، انضموا إلى الجيش الحر الوافد إلى البلدة، وهدفت إلى إسقاط النظام، وحماية بيوت القرية، ونجحت في تحرير بئر عجم، والدفاع عنها، ورفعت العلم الشركسي، وعملت بإخلاص حتى ظهرت قيادات فاسدة في الجيش الحر، فما لبثت أن حلّت نفسها.
يقول أبو موفق، وهو أحد عناصر أحرار الشركس، لرصيف22، إن "أربعةً منهم انخرطوا ضمن المصالحة التي جرت في القنيطرة، وأحدهم أُلقي القبض عليه مؤخراً، ومفقود أثره من حينها، أما من تبقّى من أعضاء الكتيبة، فهم اليوم موزعون في أرجاء العالم كحال غالبية من السوريين".
شركس الجولان والثورة
يُعدد بدرخان، أبرز أعلام الشركس في سوريا، وهم "اللواء عواد باغ (1988-2004)، نائب وزير الدفاع، واللواء بسام فروقة، وزير الداخلية، وإبراهيم عثمان، مدير وكالة الطاقة الذرية، واللواء بدر الدين رمضان، قائد سلاح المدرّعات في حرب عام 1973، ومروان لوستان، مصمم جسر خط آلون، ومن المعارضين الرسام موفق قات، الذي فضحت رسومه النظام، والمفكّر الإسلامي جودت سعيد، الملقّب بغاندي العرب".
يروي قات، أنه حين بدأت المظاهرات في سوريا عام 2011، كانت في داخل قرية بئر عجم، في الجولان، ثلاثة تيارات سياسية معارضة، وهي التيار الإسلامي الإصلاحي الذي تزعّمه الشيخ جودت سعيد، وتيار علماني يساري قاده هو (قات)، وتيار غير مؤدلج قاد مظاهرات عام 2011.
بعض ثوار البلدات القريبة لجأوا إلى بئر عجم، لتمتّعها بوضعٍ دولي، وبعد دخولهم أمطرت قذائف النظام القرية، وحاصرتها مدفعيته ودباباته للمرة الأولى منذ انسحابها عام 1967
ويؤكد السياسي الشركسي، أن "بعض ثوار البلدات القريبة لجأوا إلى بئر عجم، لتمتّعها بوضعٍ دولي، وبعد دخولهم أمطرت قذائف النظام القرية، وحاصرتها مدفعيته ودباباته للمرة الأولى منذ انسحابها عام 1967، وسط غياب للقوات الأممية، وغضّ طرف إسرائيلي، فاحتمى السكان في الملاجئ".
لم يخلُ منزل من قذيفة أو شظية، فانسحب الأهالي وسط ضباب المعركة، ثم قُسّمت المنازل بين الوافدين، وسمّوا الشوارع في مناطقهم، ولاحقاً شهدت القرية اقتتال فصائل الجيش الحر، ما أدى إلى سيطرة لواءي الفرقان وسيف الشام، وبعض المظاهر المخجلة، كتجريد أحراج قرية البريقة، وبيعها لتجار الأخشاب. وبعد اتفاق المصالحات، عادت بعض الأسر الشركسية نظراً لغلاء الحياة في دمشق، حسب قات.
قوبل وجود حزب الله داخل قرى الجولان برفض شركسي، لأنهم سنّة أحناف، وتحذير إسرائيل للسكان بأنهم في خطر إذا استقر في قراهم، ولذلك اكتفى بتمركزه خلف القرى، ليصنع منها دروعاً بشرية
وتطرق إلى وجود حزب الله، مبيّناً أن النظام حاول عام 2001 إنشاء "جبهة مقاومة في القرية، للتغطية على حفره الأنفاق حولها"، ولاحقاً قوبل وجود الحزب داخل القرى برفض شركسي، لأنهم سنّة أحناف، وتحذير إسرائيل للسكان بأنهم في خطر إذا استقرت عناصره في قراهم، ولذلك اكتفوا بتمركزهم خلف القرى، ليصنعوا منها دروعاً بشرية".
تحت مظلّة النظام
"ما حماه الأجداد تحوّل اليوم إلى بلدة مدمّرة"، يقول لاش ويضيف أن "مرج السلطان كان يقطنها ثلاثة آلاف شركسي، وخلال الحرب أصبحت مساحةً لعمليات الكرّ والفرّ بسبب وجود مطار عسكري فيها، فدُمرت المدينة، وتركها سكانها بين عامي 2013 و2018، وعادت بعد ذلك 250 عائلةً، أما البقية فقد هاجروا إلى أوروبا، والوطن الأم".
"نؤخّر ذوابنا بالمجتمع"؛ هكذا يصف رئيس الجمعية الشركسية لرصيف22، دورهم في أثناء الحرب، مبيّناً أن الجمعية "اهتمت بتأمين مسكن للمهجرين من القري الشركسية إلى مناطق أكثر أماناً، ثم إعادتهم إلى قراهم مرةً أخرى، بمساعدة الدولة التي قدّمت 50 مليون ليرة لإعادة بناء مرج السلطان، وتقوم الجمعية بتوزيع مساعدات المنظمات الدولية على الشركس".
يضيف شوري: "الجمعية تقدّم دوراتٍ بالشركسية للكبار والصغار، ولكنها تعطّلت مؤخراً لعدم وجود أستاذ متفرغ، وقبل الحرب كانت توجد فرقة في كل فرع، ولكن الآن توجد فرقة مركزية للرقص عمرها أربع سنوات تنحصر في دمشق وريفها، فيها مئة فرد، وتوجد فرقة أصلان للموسيقى، وعمرها ست سنوات، وتنتج أغنيات شركسية جديدة.
حارب داعش كل من في منبج، فتعرّض الشركس للقتل والذبح والاعتقالات، وهدم المساجد والكنائس، وحتى القبور لم تسلم منه، فتركوا المدينة، ولم يتبقَّ فيها سوى 150 عائلةً
"يكفي خوفاً أن ترى أناساً مقطوعي الرؤوس، ومصلوبين في قارعة الطرقات"؛ هكذا وصفت الرئيسة المشارك للجنة العلاقات الاجتماعية في منبج، زهيدة إسحاق، لرصيف22، تجربة شركس المدينة مع داعش، مشيرةً إلى أنه "بعد سيطرة التنظيم، حارب كل من في المدينة، فتعرّض الشركس للقتل والذبح والاعتقالات، وهدم المساجد والكنائس، وحتى القبور لم تسلم منه، فتركوا المدينة، ولم يتبقَّ فيها سوى 150 عائلةً".
تؤكد إسحاق أن الشركس "ناضلوا مع قوات قسد لمحاربة داعش، ويشاركون في المجلس العسكري لمنبج، ولكن بشكلٍ فردي، لقلة أعدادهم، وهو السبب لعدم تشكيلهم قواتٍ خاصةً".
يسكن منبج الكرد والعرب والشركس والتركمان، وعندما أعلنوا الإدارة الذاتية، أدّى كل مكوّن القَسَم بلغته، والشركس ممثلون في المجالس التشريعية والتنفيذية والقضائية
وترى زينب قنبر، أول رئيسة لمجلس مدينة منبج بعد تحريرها من داعش، في حديثها إلى رصيف22، أن "المدينة يسكنها الكرد والعرب والشركس والتركمان، وعندما أعلنوا الإدارة الذاتية، أدّى كل مكوّن القَسَم بلغته، والشركس ممثلون في المجالس التشريعية والتنفيذية والقضائية".
من جهتها، تكشف ضياء الدين، أنه "أعيد فتح الجمعية الشركسية بعد إغلاق دام سبع سنوات عام 2017، في الذكرى الأولى لإخراج داعش، وتقدّم الآن دوراتٍ تعليميةً للّغة، وبالأخص للأطفال، ولديها فرقة رقص شركسي فيها 14 راقصاً وراقصةً أعمارهم بين 10 و16 عاماً".
"لم نعد نهتم بالعادات، بل نبحث عن العيش والأمان المفقود"؛ هكذا يُلخّص النازح الشيشاني تأثير الحرب على سكان حي المهاجرين، فالقصف التركي خلّف قتلى وجرحى من شبابهم، ومع عملية نبع السلام، نهبت القوات المهاجمة محالّهم ومنازلهم واستولوا عليها، ونزح الشيشان تاركين أرضهم ومزارعهم التي آوتهم لمئتي عام خلفهم، فسار المئات هاربين من القصف، وقُتل بعضهم على الطريق، ومن لديه وسيلة نقل اصطحب أهله، وبعض الجيران، حتى وصلوا إلى المدن المجاورة، فأصبحوا أقليةً فقيرةً فقدت كل ما تملك، وتمنع الحكومة الروسية نزوحهم إلى أرض الأجداد في الشيشان، حسب قولهم.
العائدون إلى الوطن الأم
أفرزت الحرب السورية هجرة الشركس إلى بقاع العالم، مثل تركيا وأوروبا والوطن الأم، وينقسم الأديجيون على ثلاث دول في روسيا الاتحادية، فيمثّلون 30% من سكان أديجية، و10% في قراتشاي-تشركيسيا (52 ألف نسمة)، و45% في قبرتاي البلقار (33 ألف نسمة)، حسب كتاب تاريخ الشركس.
لم أشأ أن يقتل أولادي، أو يُقتلون"، يقول مأمون مصطفى، الشركسي السوري الذي هاجر من سوريا عائداً إلى الوطن الأم، إذ زار القوقاز مرات عدة، وعندما اندلعت الحرب، خرج من سوريا عام 2012، مع عائلته بأكمله
ويوضح قات، أن العائدين إلى "الوطن الأمّ بلغ ثلاثة آلاف شركسي، منهم 1،500 إلى قباردينا بلقاريا، و1،500 إلى أديجية، وهو هاجر إلى مسقط رأسه في أديجية، وفشل في التأقلم لقلة الشركس، فانتقل إلى قباردينا بلقاريا، مبيّناً أن "الحكومة الروسية لا تعطي للعائدين جنسيةً، ولكن الأهالي استقبلوه، واشتروا له منزلاً"، فشعر وكأنه في قريته، واصفاً "أهل الجمهورية بأن لديهم جوعاً للإسلام، فيحبّون سماع القرآن، على الرغم من عدم معرفتهم بالعربية. وعندما يولد لهم طفل، يسمّونه كما تقع يده على صفحة القرآن".
"لم أشأ أن يقتل أولادي، أو يُقتلون"، يقول مأمون مصطفى، الشركسي السوري الذي هاجر من سوريا عائداً إلى الوطن الأم، إذ زار القوقاز مرات عدة، وعندما اندلعت الحرب، خرج من سوريا عام 2012، مع عائلته بأكملها، حتى والدته المريضة التي توفيت بعد عام من نقلها، ولم يستطع نقل والده بسبب شدة مرضه، ليستقر في شمال أديجية مع قبيلة "شاب سوا" الشركسية.
في الوطن الأم هناك ترحيب شعبي بالعائدين، إذ أعطوهم بيوتاً وجهزوها بالأثاث والمرافق، وعاملوه عندما تُوفي والداه كأبناء قريتهم، وعندما تزوج ابنه عدّوه أحد أبنائهم
ويؤكد مصطفى لرصيف22، وجود ترحيب شعبي بالعائدين، إذ أعطوهم بيوتاً وجهزوها بالأثاث والمرافق، وعاملوه عندما تُوفي والداه كأبناء قريتهم، وعندما تزوج ابنه عدّوه أحد أبنائهم.
يروي مازن بيرم عن هجرته إلى أوروبا، والتي بدأت نهاية التسعينيات من القرن الماضي بوصوله إلى أديجية، حيث حصل على الإقامة فيها من القنصلية الروسية في حلب، واستقر فيها، وعمل في وكالة روسيا اليوم، وبعد الثورة السورية، واستقبال أوروبا للّاجئين، انتقل إلى السويد، لأن "الفرصة في أوروبا أفضل من القوقاز، فالمجتمعات الشركسية ليست غنيةً، وتعاني من البطالة، ويحتاج العائد إلى تعلّم الروسية، لكي يجد فرصة عمل، على عكس أوروبا التي تقدّم للّاجئ المساعدات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 23 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع