شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الغناء

الغناء "الصالحي" التونسي... صيحاتُ عشق وشهوة وتوحش

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 12 يناير 202202:52 م

الغناء "الصالحي" التونسي، ولعل الكلمة مشتقة من أول اسم صدح بذلك الصوت "صالح"، الاسم المنتشر في تونس، وخصوصاً في أريافها، أو لعله صوت "صالح" متى عجزت أي لغة أخرى عن الإدلاء بما يختلج في النفس.

صوت منتشر في براري تونس القاسية، يحمل نتوءات جبالها وجفاف مائها وقساوة بردها وخلوها من النبت. شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً تجد ذات الصوت متشابهاً. يطلق عليه البعض "الملالية" لفرط تكرار اللام فيه. وهو عبارة عن صواتم (وحدات صوتية) بلا معنى أحياناً، وتعتيم على شيء مثقل بما لا يتماشى مع المجتمع أحياناً أخرى أو رغبة متحررة عن كل سلطة خطابية. 

لا لا قلت نقبل [أي أتجه نحو القبلة]: ملالية فرشيشية قبيلة من قبائل مدينة "القصرين" بتونس

تمتلئ "الملالية" بالشكوى. تتحدث عن الاشتياق والتغرب وطبعاً عن الحب. إلا أن الحب في "الصالحي" التونسي حب متوحش، كما قد يدل الصوت وطبيعته ونبرته على ذلك.

تتكرر كلمات مثل "حرْقي" في الملالية السابقة بالقاف المثلثة (وهي كلمة مشتقة من الاحتراق المعنوي و"ليعتي") من اللوعة (و"جوحي") من الجوْح: المشتقة من فعل جاح، الذي يحمل في القاموس العربي معاني مثل: جوْح الدهر والجائحة واجتاح وغيرها كثير، و"جَرْبي" أيضاً في إشارة لمرض الجَرَب الذي كان في لحظة من اللحظات التونسية التاريخية وباءً مرعباً.

الغناء "الصالحي" التونسي صوت منتشر في براري تونس القاسية، يحمل نتوءات جبالها وجفاف مائها وقساوة بردها وخلوها من النبت

   لكأن الصالحي نوع من النواح، يأتي على قُدرات الصوت بما فيه من نفَس. تردده النساء في وحدتهن كما الرجال في "توحشهم"، بينما هم يتابعون قطعانهم في الجبال شمالاً وفي السباسب وسطاً وفي الصحاري جنوباً.

يمسك الراعي منهم آلة "القصبة"، ولعلها أكثر الآلات الموسيقية سذاجة وبساطة، آلة مصنوعة من القصب، بها خمسة ثقوب، غير أنها تؤدي مع الصالحي ذي الطابع "النواحي" دوراً نواحياً أكبر.

صالحي ركروكي مرفوقاً بآلة القصبة

كنا قد أشرنا في مقالة سابقة إلى هذا الصوت مردداً من طرف المرأة، حيث وجدت فيه نوعاً من الثغرة للتعبير عما يُخالجها، فنجدها تكرر حرف "النون"، ولعل ذلك عائد لقواعد موسيقية بحتة، وتكفي إطلالة بسيطة على مادة "غنى ــ يغني" حتى نفهم التجاء أولئك النسوة لهذه الحرف الخيشومي الذي يمثل سر أسرار الغنة.

نتبينُ هنا أن "الصالحي" التونسي، بمختلف أنواعه وميزاته وأوزانه، حمّال لكل اهتزازات العاشق وشهواته. تردُ في الرسائل واضحة محلياً، تكثر استعاراتها الشعرية الإباحية وتتميز بالوحشية أحياناً كثيرة. عشاق شعبيون كثر حملوا هذا النوع من الغناء رسائلهم. عشاق لم يذكرهم أحد كما ذُكر قيس وليلى، وإساف ونائلة، ووضاح وروضة، وعنتر وعبلة... هذا لأنه صوت يقع في الهامش ويستخدم لغة مغرقة في المحلية.

لا أحد من النخبة التفت إليه إلا حديثاً. لذلك ظل "الصالحي التونسي" صنواً للنواح، يتهرب منه المتطيّرون ولا يستوعبُ ثقله الرمزي أغلبية غالبة. أما سياسياً فقد رفضه الجميع لما فيه من خشونة، حتى أنهم اعتبروه في لحظة قديمة ما نوعاً من العواء والزعيق الحيواني "الجبري"، على حد تعبير التوانسة "الحق".

لذلك ظل مثله مثل الأرياف التونسية جميعها، مهمشاً لا أحد يلتفت ناحيته. يطلق التونسيون على تلك المناطق "ما وراء البلايك"، أي ما وراء اللافتات في تأسيس بورقيبي للأمة التونسية التي تفضل الرفيع عن غيره، بناءً على "القاف" أو "القالة" كما يسميها الجميع. مهمش من ينطق "القاف المثلثة" التي تحيل إلى أمازيغ البلد وأصولها و"بلْدي" من ينطق "القاف" في حركاته وسكناته.

يمتلئ الغناء الصالحي بالشكوى ويتحدث عن الاشتياق والتغرب وطبعاً عن الحب. إلا أن الحب في "الصالحي" التونسي حب متوحش كما يدلّ الصوت وطبيعته ونبرته

ظل "البلْدية" نائمين في خدرهم إلى أن احترق أحد "البوازيد": محمد البوعزيزي البائع الريفي المتجول وهو ممن ينطقون "القاف المثلثة"، حينها فقط استيقظ التونسيون أو شارفوا على ذلك بعد صدمة سنة 2011. وقد كانوا في حاجة لذلك الشواء القربان كي يتفطنوا لتنوع لهجات بلدهم وبالتالي غنائه وأصواته وفنه.  

الصالحي وعواء الطبيعة

في الصوت "الصالحي" تسكن الطبيعة برمتها، بعفويتها وزعقاتها وعوائها، حتى أن أحدهم صرح بذلك علانية فقال: "ع الكركار حرامو... جاني شاقي من بر الحيوان".

لا يحتمل الصوت محسنات تقنية، حتى أن معظم مستهلكيه يخيرونه طبيعياً لأنه –ربما- يحمل الحقيقة دون رتوش. مهما بلغ الريفي التونسي تغرباً في مدن تونس الكبرى فإنه يعود إلى حقيقته أمام "الصالحي"، تعود "وحشيته" الطبيعية التي دس بها تحت لزوم المظاهر، وقد تراه في إحدى الأعراس، مخدراً ناسياً لما تتطلبه الأصول، راقصاً كما ينبغي لرقصته الطبيعية أن تكون.

 ثمة من دخل عرساً في المدينة ونسي متطلبات المدينة، فرقص بكانون من الجمر حتى احترق، وتلك إحالة لما يُسمونه "الفزعة" ولعل الكلمة مشتقة دون أدنى شك من فعل "فزع".

خلال هذا النوع من الغناء المتوحش يعثر المغني على فضاء كاف لقول ما يُريد. وقد يلتجئ أحياناً إلى قول ما يخدش حياء المجتمع الذي يخاطبه. إذ له أن يتحدث عن الجنس بصريح العبارة، عن شهوته دون تردد، واصفاً أعضاء المرأة بلا مواربة، ذاكراً لما يعتمل في جسده وقلبه بلا مبالغة. ثمة من يُذكر الحبيبة على سبيل المثال بآخر لقاء جنسي جمع بينهما، واسم حبيبته فاطمة: يا فاطمة ماكي فطمتيه/ وبات عندك ليالي/ هزي حرامك ودسيه/ بين اللحم والحوالي.

والضمير الغائب المقصود من هذه الأغنية يعود على "العضو"، وهي أغنية شهيرة في الشمال الغربي التونسي معروفة تحت عنوان: "هزي حرامك وخامريك" التي تحتوي على دعوة رجل لحبيبته للتعري وخلع كل شيء بما في ذلك "الحرام" و"الخامر".

في مقابل هذه الصّراحة الّتي يتوخّاها الرّجل العاشق في مخاطبته للمرأة، تلتجئ المرأة إلى نوعٍ من الاستعارة ومن المداورة الصّوتيّة في محاولةٍ للتّعتيم على ما تريدُ قوله كما أسلفنا في مقالةٍ لنا على رصيف 22 تحت عنوان: "الغنّاية التّونسيّة".

 فغزلها بمعشوقها يتمّ إيحائيّا كأن تقارنه بالأسد وغيره وكأن تدعوه لمشاركته ركوب الجَمَلِ كما في أغنية من الجنوب التّونسي عنوانها: الجَمَل اللّي هدِّر، حيثُ تقول: "الجمل هدّر، هيّا نركبوا الاثنين"!

أو تصف لنا استعدادها لعوْدة الحبيب بعد غياب بقولها في أغنية عنوانها: "قالولي جاي" فتقول:

قالولي جاي قُمت نكحّل ونفوّحْ

حضّرت التاي وِلْفِي مِ الأبعاد مروّحْ

....

صدّقت الغير قُمت نعلّي في السّدّة [وهي المخدع]
وفراش حرير عليه ملاحف ومخدّة
شناشن في ايديّ حْرام وسوريّة
ونقول شوية عن ولفي غايب من مدّة
....

جوني الجران فرحولي برجوع الغالي
بعد الحرمان مشتاقة وقليبي خالي
فرحانة نحنّي نرقص ونغنّي
ما راده مني جرى دمعي على الخد سايل

وقد تمّ استعادة هذه الأغنية ضاربة القدم من قبل فنّانين كثر ولعلّ أهمّهم الفنانة نبيهة كراولي [جنوبيّة الأصل]:

الصالحي والشعر الجاهلي العربي

قد يلتقي الصالحي بالشعر الجاهلي الإباحي في ذكر اسم المرأة والتشبيب بها، فمنها فاطمة وصالحة وغيرهما، كما قد يذكرها بصفة تميزها حال "ذات الوشمة"، "زرقاء العيون"، "سوداء الأهداب" الخ...

كما يلتقي معه في "التشبيب" فيصف مشهداً معها، كقول الأغنية: قولي يا خالتي يا مخضبة الفم.

كما قد نلقى دعوة صريحة ووصفاً صريحاً للكلمة التي تُعتبر "سوقية" في تونس: "البزازل" (النهدين) في أغنية: "بزازلك يا لحنينة كرطوش حزين/ مالهم مثيل/ صابوا فيا وجهين"، أو قول الأغنية الأخرى: "وشامك أزرق، الشركة في الرقبة تشرق، بزولك على الصدر نطق، مثيل التفاح من بر الروم".

هي شهوة وحشية كما أسلفنا القول لأنها لا تسلمُ من دم في أحيان كثيرة، حال الأغنية الأشهر في تونس وعنوانها دموي، كما لا يمكن لأي أغنية شعبية عربية أخرى أن تكون: "بين الوديان الدم يقطر".

إن مغنيات ومغنيي "الصالحي" التونسي يرتدون الملاءة والبرنس والقشابية البربرية المارقة... وإنهم من يوحدون الخارطة التونسية في عمقها

دعوات صريحة للحبيبة

تحتوي معظم الأغاني التي أتيْنا على ذكرها والتي تنتمي "للصالحي" التونسي الشهير، على مقطع راسخ، مثله مثل "الملالية" في مفتتح الأغنية، فيه يتوجه خلاله الحبيب للحبيبة، أو العشيق للعشيقة، بدعوة صريحة للمعاشرة الجنسية من أجل نيل الدفء أو القطع مع العطش، وكل المبررات صالحة من أجل ذلك. وعادة ما تكون هذه الدعوة الغنائية في شمال غرب تونس ولعلها تلتقي مع غرض القصيدة الجاهلية الأخير وزبدتها، وعادة ما تتحدث الأغنية عن تغرب الفتى الريفي في المدينة ومعاناته الأمرين من أجل الفوز بصاحبة "العينين السود"، فيدعو كل أنواع المواصلات للعودة به إلى مسقط الرأس: هاه هاه/آ نعم، نعم/ الشفة دمْ/ والله بالسوري [الفرنسية]/ ها تترجم/ ناسك شدوني/ في ليلة ظلمة/ آش ماش تقولي.

إلى أن يقول: خليها ترقد/ ما تكلمهاش/ خليها تتلوح/ فوق ما الفراش.

إلى أن يقول: هاو خالك شاقي/ في حالة/ عرضيلو زندك/ خلي يتكى/ هاو منا ومنا/ صدرك وبزازيلك جنة.

كما في الرابط التالي وهي من تراث ريف القيروان الإسلامية:

 الصالحي التونسي وحقيقة البلد

 يحمل الغناء "الصالحي" التونسي وعمق البلاد التونسي. لذلك فقط اخترق الأسيجة المصطنعة واللافتات المعبر عنها بـ"البلايك"، وأصغى إليها الباي التونسي ومن بعده الرئيسان بورقيبة وبن علي، رغم محاولتهما لدفن هذا التراث العارم وردمهما خلف صورة سياحية ناعمة.

إن مغنيات ومغنيي هذا اللون هم ممن يرتدون الملاءة والبرنس والقشابية البربرية المارقة. وإنهم من يوحدون الخارطة التونسية في عمقها. فنجد العاشق من قبيلة أولاد عيار المقيمين في أقصى الشمال، يتغنى بالجميلة القفصية في أقصى الوسط، في أغنية تونسية لا يخلو منها بيت واحد عنوانها: "لامن يجينا مريض الدلالة"، حيثُ تقول العاشقة من مدينة الكاف الشمالية: هاو نجعك رصى/ على سوايح قفصة/ كان حمة وصى/ ردي السلامة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard