شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الغَنّاية" التونسية.. ملاكُ الفرح العابر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 10 أغسطس 202110:32 ص

"الغَنّاية" في بعض لهجات تونس تعني المُغنية التي كانت ناشطة في كل القرى والأرياف التونسية، يذيع صيتها وتُشتهر بجمالها وأناقتها وعذوبة صوتها وخفّة روحها، وجدتي من بينهن.

لم تعد الحاجة إليها ملحّة. للأفراح وللأعراس في تونس فلسفة أخرى ومغنيات أخريات يملأن البيوت التونسية والعربية كما ملأن شاشاته التلفزيونية، ونقصد المغنيات الشهيرات اللواتي لا يغبن على أحد.

أما من تبقى من الغنّايات فهن مشدوهات أمام الشاشات لا ينبسن بـ"نون"، بناءً على أن "النون" من أكثر الحروف غنّة، على حد قول الخليل، أما "خنة" الشهيرات اللواتي قد يحيين بلا جهد أعراس العرب قاطبة بواسطة وسائل الأفراح الجديدة، فجلّ أغانيهن لا تحمل في فحواها، ولو من بعيد، معاني تخصّ العرس أو الفرح.

"الغَنّاية" في بعض لهجات تونس تعني المُغنية التي كانت ناشطة في كل القرى والأرياف التونسية، يذيع صيتها وتُشتهر بجمالها وأناقتها وعذوبة صوتها وخفّة روحها

في البدء كانت النون

الظاهر أن الغنّايات القديمات في عدة مناطق من تونس، والصامتات الآن، كن دائماً وفيات لمادة (غ-ن-ن) في لسان العرب أكثر من غيرهن، فغنائهن يرتكز على حرف "النون" وذلك بتكراره عديد المرات في الكلمة الواحدة، على سبيل المثال أغنية أعراس تغنيها المرأة عندما ترى موكب العريس القادم من بعيد، مطلعها: "الفزعة طلت الحنة والعود مخلط" (ومعناه أن جماعة العريس هلت حاملة معها الحناء والعود الذي هو عبارة عن بذور القرنفل ذات الرائحة الزكية).

 في غناء هذا المطلع تعمد الغنّاية في أدائها وهي تحيط شفتيها بيديها من أجل إحداث بعضٍ من رجعِ الصدى إلى تسريب نون الغنة ليصبح تقريباً:
"الفنزعة طنلت والحننناء والعنود مخنلط". ذلك لأن الغنة صوت له رنين "النون" أو "الميم" على مستوى الخيشوم. (كما تشير إلى ذلك مادة غ-ن-ن في لسان العرب).

صوت نسوي يعبق بالفرحة وبالبساطة والعمق، فرح حقيقي يحمل طقوس وعادات تلك القرى والمدن، شبيهات الغنايات في الشمال التونسي ثمة "الحنانات" (واضعات الحناء على أيدي العرائس وأرجلهن) في ساحل البلاد وهن لا يترددن لحظة واحدة في الغناء في حضرة "الملكة" لليال طوال، أغنيات مليئة بحكايات الساحل البحرية المُرفهة.

"البلاد بعيدة والوحش قتلني"

غَنّاياتنا يرددن في أغانيهن التضاريس المحيطة بهن، والعادات التي يحفظن تفاصيلها، والأفراح التي يملكن ناصية مراحلها، وقد مثلن لحقب طويلة متوسط الدائرة النسوية في دور الأعراس، يُنصت لترنمهن وحكاياتهن. مبدعات يصل الأمر بهن إلى تأليف أغنية فرح لكل دار، وهي أغنية تذكر اسم العروس وتصفها على شاكلة النسيب في القصيدة العربية القديمة، دون نسيان ذواتهن التي تتسرب في الأغنية بصفة هادئة ومحتشمة.

غنّاياتنا قادرات على تفجير الأشياء البسيطة والمعتادة والذهاب بها إلى أبعد

 يقال للغَنّاية حين يريدونها أن تغني "هُزي بالصوت"، ولعل ذلك يذكرنا بكتاب الأغاني للأصفهاني، إذ تصبح عبارة "صوت" تعني "أغنية" أو جزءاً منها. صوتُها الطبيعي المتخلص من كل التحسينات الذي ينطلق من الحنجرة إلى الفضاء مباشرة فيعطي للفرحة صبغتها العفوية، غناء على السجية ينبع من العمق الشعبي لينتج فرحاً عميقاً، وعلى السجية تعني ألا تصنع يشوبه.

من تلك الأغنيات ما اخترقت حدود القرية الصغيرة لتلتحق بالإرث الفلكلوري للبلاد، وهي أغانٍ لا تزال صامدة في تقافز تلك "الأشياء" الجديدة الصاخبة التي لا يهنأ لها حرف ولا معنى، ما يعطي للفرحة معنى من معاني الجنون الجسدي لا الروحي إن صحت العبارة.

لأنه وأنت تقارن بين ساحتي عرس، بالأولى غناية وصاحباتها المرددات، وبالثانية الأغاني الصاخبة التي لا تخفى على الجميع، ترى في الأولى فرحاً هادئاً وعميقاً، يتم عبر عملية تقبل رصين تلونه الذكريات، ناهيك عن القواسم المشتركة التي تعطي لكل فرد في تلك الساحة قيمته وتغذي خصوصيته.

أما في الثانية فلا تسل، تعرّق وصخب وعصاب وسطحية مريرة مقارنة بمستوى مفهوم العرس العائدة جذوره إلى أولى لحظات تكون الحضارة والعمارة وقيمته الوجودية والاجتماعية.

غنّاياتنا قادرات على تفجير الأشياء البسيطة والمعتادة والذهاب بها إلى أبعد، ففي أغنية شهيرة في الشمال الغربي التونسي، تلتجئ الغنّاية إلى مخاطبة "الخلالة"، وهي آلة تستخدم في دق الصوف، وبذلك هي تحدث إيقاعاً منتظماً ورتيباً، ربما من ذاك الملل بالذات تنسج النساجة أغنيتها قائلة:

"خلالة رني/ البلاد بعيدة/ والوحش قتلني". دون نسيان النون المحشورة بين الحروف حشراً من أجل الغنة والتطويل، وربما لإضفاء بعض الغموض على الخطاب الفاضح في أجواء تقليدية لا تسمح للمرأة بالتعبير عن نفسها، لمَ لا؟

تمويه الغزل الصريح

نلاحظ أن هذه "النون" تتكثف أكثر كلما كانت الأغنية النسوية مغرقةً في الشكوى العاطفية أو كلما اقتربت من إباحية ما، ففي أغنية من جنوب تونس هذه المرة، معروفة ومتبادلة، تذكر فيها الجمل قائلة:
"الجمل يهدر/ يا خالقي يا مولاي/ هاي يا يُمه الجمل يهدر/ هيا نركبو الاثنين وإلا حدر".
تطلب المرأة هنا من حبيبها أن يشاركها ركوب الجمل، لذلك لا نستطيع إحصاء النون المُنزرعة بين كل حرفين تقريباً في حالة الغناء، هل هو تردد في القول من فرط الحياء الذي يبلغ ذروته في الجنوب التونسي، ومن فرط العاطفة الجياشة التي تلم بها هنا، كما تفعل امرأة بين ناريْنِ؟

نسمع الآن في تونس أغاني الجدات الغنايات مشوّهة ومُفرغة من عمقها إلا ما ندر، إذ لم يقدر مكرّرها الفنان الذي على الشاشة أو على الموجة الإذاعية سوى على توقيعها إيقاعاً صاخباً تحت شعار عصرنتها أو تهذيبها بلا رؤية وبلا عمق

 يزيّن الصوت الطليق بزغرودة مرددة لحرف "الراء"، الحرف الأكثر وضوحاً في خروجه وسهولة وقوة، كما يؤكد على ذلك سيبويه في "الكتاب" ضمن باب الراء. ليضيف بقوله: "والراء إذا تكلمت بها خرجت كأنها مضاعفة". فما الزغرودة سواء "راءات" مضاعفة تنطلق إذا ما وصلت الأغنية أوج قوتها وقوة تفاعل المستمع معها.

الزغرودة صرخة المرأة المزينة والغامضة التي تطلقها للتعبير علناً على الفرح، ارتكازاً على بعض "الصواتم" المخبولة، شبيهة التي يطلقها الهندي الأحمر في أفراحه وحروبه. راءات متتالية تنتهي عند انتهاء النفَس بياء مد أو بـ"شين" في بعض المناطق الأخرى.

الصوت كفضاء إيروتيكي

الغنّاية التونسية في قرى الكاف أو سليانة في الشمال الغربي وهي متزينة ببعض الكُحْلِ، وشمين صغيرين على الخدين وملاءة زاهية اللون "تهز بصوتها" في إحدى الدور لتكون برعماً يتجمع حوله أناس يحسنون الفرح والتقبل.
الرجال القابعون بعد مسافة ينشدون من أول الليل إلى آخره إلى أصوات النسوة المُغنيات/الغنّايات دون أن تكون الحاجة ماسة لحضور أجسادهن، إنه الصوت لا غير، بمعانيه وتقلباته وما ينطوي عليه من كلام بطل السهرات لليال عديدة، أي قوة خارقة كانت لغنّاياتنا وأي ثقافة حتى يسحرن الألباب لكل ذلك الوقت دون تدخل تقني وغيره.

الغنّاية متعددة المواهب حتى أنها هي من تدفئ الليالي الباردة بحكاياتها العجيبة في الشتاء، كنت لا أفارق جدتي رغم التلفاز وهي تكرر لي الحكاية ألف مرة، فلها قدرة على شدي وأنا أحفظ الحكاية عن ظهر قلب.

 نسمع الآن في تونس أغاني الجدات الغنايات مشوّهة ومُفرغة من عمقها إلا ما ندر، إذ لم يقدر مكرّرها الفنان الذي على الشاشة أو على الموجة الإذاعية سوى على توقيعها إيقاعاً صاخباً تحت شعار عصرنتها أو تهذيبها بلا رؤية وبلا عمق.

ودون الانتباه إلى معاني الكلام الذي مثّل ملاذ المرأة لسنين، ووسيلة تعبيرها النقية، يتم الرقص عليها خبط عشواء حتى وإن كانت الأغنية تصف ألم غنايتنا الصامتة الآن إلا نادراً هنا وهناك، من أصقاع أرياف تونس التي لا تزال تحافظ على بعض من ذاك الفرح البسيط، العميق والحقيقي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard