تضعنا كتب التراث العربي القديم، التي تناولت موضوع الجنس والأدب الإيروتيكي، أمام قضية هامة، وهي مسألة التعبير الحر الذي كان متوفراً في تاريخنا القديم عن موضوع الجنس، في الوقت الذي تدخل فيه هذه القضية في زمننا الراهن في باب المحظورات، أو المسكوت عنه.
كما أن خطاب العرب الشبقي ارتكز على مجموعة مفاهيم وتصورات ترتبط بالجسد ارتباطاً وثيقاً، فالجسد لم يكن موضوعاً مسكوتاً عنه، بل كان ركناً أساسياً في الثقافة العربية، أعطاه الفقهاء بعداً لا نهائياً من خلال ربط اللذة الجنسية بلذة جنات النعيم، على عكس المحاولات اليوم لستر الجسد وحجبه داخل أقنعة وأكفان من الألبسة والمفاهيم.
هذا في ما يخص التراث العام المتمثل في النصوص الأدبية والفقهية، فكيف الحال إذا تعلق الأمر بالتراث الغنائي الذي يعكس بشكل واضح المزاج العام للناس، وينقل، بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يعتمل في نسيج المجتمعات من أحاسيس وعواطف ورغبات، تنشد الظهور والتعبير عن نفسها في أشكال إبداعية وعبارات صريحة أو مغلفة بالرمزية؟
ولم تشذ البيئة المغربية عن هذا المعطى إذ بدورها ظلت مطبوعة بهذه الازدواجية في التعاطي مع المسألة الجنسية، التي تحاصرها الأمثلة والقيم التي تحض على الوقار والحشمة، وفي الوقت نفسه، تحرص الأشكال التعبيرية على الانفلات من عقال المراقبة، وهو ما يظهر بشكل واضح من خلال النكت والحكايات الشعبية وأيضاً الأغنية بمختلف أنواعها.
تضعنا كتب التراث العربي القديم، التي تناولت موضوع الجنس والأدب الإيروتيكي، أمام قضية هامة، وهي مسألة التعبير الحر الذي كان متوفراً في تاريخنا القديم عن موضوع الجنس، في الوقت الذي تدخل فيه هذه القضية في زمننا الراهن في باب المسكوت عنه
الملحون في ذكر محاسن "الطبون"
تزخر الأغنية المغربية بنماذج عديدة لحضور الجسد واللغة الجنسية بدرجات متفاوتة، حسب نوعية النمط الغنائي، إذ يمكن التمييز في هذا التراث بين أكثر من شكل، تكتسي فيه بعض الأنماط ثوب الوقار والجدية، على الأقل بشكل ظاهري، كما هو الشأن بالنسبة إلى الآلة الأندلسية وفن الملحون.
ويظل الملحون في طليعة الأنماط الشعرية التي أبدعها المغاربة، وفيه أبرزوا ما لهم من طاقات تعبيرية وقدرات فنية تجلت في قصائده، من خلال سمات تميزه شكلاً ومضموناً وأداءً.
واتسمت اللغة التي صيغت بها قصائد الملحون بأنها عامية تسعى بمعجمها إلى الاقتباس من اللغة المعربة، مع التوسل في الأسلوب بألوان بيانية وبديعية تحسينية تكاد بدورها، وفي معظم الأحيان، أن تكون متأثرة بمقتضيات البلاغة العربية.
وعلى مدى قرون طويلة من التطور، استقر البناء الصوري للملحون على عدة أشكال تقوّت بطريقة الأداء التي تحولت بالتدريج من مجرد "السرد" في المساجد والزوايا إلى التلحين الغنائي الذي ازدهر في رحاب المجالس العامة والخاصة، والذي كان يعتمد "النوبات" الموسيقية التي عرفتها "الآلة" الأندلسية، والتي احتضنها المغاربة وحافظوا عليها وأضافوا إليها ووظفوها، أيام وجودهم في شبه الجزيرة الإيبيرية، وبعد ذلك عبر ما تواصل من هجرات نحو المغرب.
تزخر الأغنية المغربية بنماذج عديدة لحضور الجسد واللغة الجنسية بدرجات متفاوتة، حسب نوعية النمط الغنائي، إذ يمكن التمييز في هذا التراث بين أكثر من شكل، تكتسي فيه بعض الأنماط ثوب الوقار والجدية كما هو الشأن بالنسبة إلى الآلة الأندلسية وفن الملحون
وبقدر ما كان يتسع نطاق الشكل والأداء على يد "شيوخ" كبار، كان يتسع كذلك مجال المضمون الذي تناولوا فيه مختلف الموضوعات التي تتصل بحياة الإنسان في ذاته ومجتمعه، والذي تعرضوا فيه لجميع القضايا التي تأخذ بعنايتهم واهتمامهم، في غير تحرج من مس أي جانب منها مهما يكن شائكاً أو مثيراً أو مهمشاً، طالما أنه يرتبط بالواقع وهموم الناس فيه وطموحهم لتغييره.
ومن بين المواضيع التي لم تتحرّج أغاني وقصائد الملحون من الاقتراب منها، موضوع المرأة والتغزل فيها بكل حرية، في تجاوز تام لكل القيود، بل بلغ الأمر إلى ابتكار قصائد مخصصة لمواضيع جنسية محضة، رغم أن تداولها ظل محصوراً في نطاق ضيق، إلا أن بعضها نال نصيباً وافراً من الشهرة، خاصة بعد أن أتيح للعديد من القصائد إعادة تسجيلها على يد شيوخ "مبجلين" لم يجدوا غضاضة في الإبقاء على الأبيات والمقاطع "الماجنة" فيها.
وفي هذا السياق يمكن استحضار نماذج من هذا الغزل الجريء في قصيدة "غيثة" للشاعر إدريس بن علي المالكي، والتي اشتهرت بأداء الحاج الحسين التولالي، وفيها نجده يقول في أحد مقاطع الأغني،ة بعد ما تدرج في وصف محبوبته، من ملامح الوجه والكفين والذراعين إلى أن يصل إلى بعض المناطق المحرمة فيقول: "... والصدر روّيض حارسه ما هو مشموت/ حاضي تفّاحه ما رضى بشمتة/ ويقول من املكْ شي تفّاح يماثله هاتو/ (...) نعضّ فيه عضّة ونقول من المحاين بْريتْ (أي شُفيت)".
ويواصل في مقطع آخر ليقول: "قال يا سيدي وتفيفحات/ رفعوا القميص بحال شي لويمات/ ما أحلى منين قالوا هانا طلّيت"، لينتقل في مقطع آخر وهو يصعّد من غزله ويضفي عليه حرارة أكثر قائلاً: "البطن والسرّة باهية حقيّق عاج منبوت/ والخصر تقول شكيت لُه بهمّ التيت المبتوت/(...) والأرداف هالت ومالت بثقلها مرّتاتو/ وعيا بالحمل العاتي/ وفخاذ صافية نرضاها والساق به انكويت/ قال يا سيدي والساق كاس بلاّر وروح الذات به انسقات/ من خمر الغرام العذب وروات...".
وفي قصيدة أخرى للشاعر نفسه بعنوان "اللوطية" يحذر فيه عشاق المثلية الجنسية من مخاطرها، واصفاً لهم مزايا العضو التناسلي الأنثوي، يقول في مطلعها: "يا من هو لواط فارق الزعكة واسمع لي/ انصحتك من جانب المحبة روم الطبون/ يا من هو لواط توب".
ويمضي بن علي في تعداد محاسن فرج المرأة قائلاً: "روم الطبون وسير ليه/ عنداك تفضّل شي عليه/ مولاي الحرّ امبّرد الغدايد/ كيخضع له كل واحد/ وكثير اللي حواه/ من ذاقه عمره لا ينساه/ ديما فمّه محلول/ للدخول موجب مبلول/ غير ضرْبُه فيه واتركه يجول/ يدخل حتى للفول/ ذوق واتصنّت واسْطابه على جنابُه/ وتهلّى لا تكون فيه الرخوة...".
رغم أن الصورة التي ترسخت عن العيطة في العقود الأخيرة، باعتباره فناً شعبياً مشبعاً بالتعابير الجنسية والإيحاءات الصريحة بالكلمة والتلميح، وأيضاً بالجسد من خلال الجمع بين الرقص والغناء، فإن هذا الفن العريق نشأ وتطور في أوساط يطبعها الجلال والوقار
العيطة... نداء الجسد والرغبة
رغم أن الصورة التي ترسخت عن العيطة في العقود الأخيرة، باعتباره فناً شعبياً مشبعاً بالتعابير الجنسية والإيحاءات الصريحة بالكلمة والتلميح، وأيضاً بالجسد من خلال الجمع بين الرقص والغناء، فإن هذا الفن العريق نشأ وتطور في أوساط يطبعها الجلال والوقار، في مجالس ومسامرات القياد ورجال السلطة في مغرب ما قبل الاستعمار.
والمتأمل في النصوص المؤسسة للمتن العيطي الذي تشكل عبر سنين طويلة، يبدو له أن هذا المتن، في شكله المكتمل عبر "عيون العيوط" الموثقة إلى حدود الآن، يكتشف أن أغلبها لم تكتس تلك الجرأة التي يتوقعها كل باحث عن مكامن التعابير الجنسية، التي تحضر فيها بشكل محتشم مغلفة بالاستعارات والمجازات والكنايات.
في المقابل كانت شيخات العيطة، وشيوخها أيضاً، يحرصون على الابتعاد عن الأغاني صعبة التركيب في إيقاعها وأدائها، في اللحظة التي يريدون فيها الانعتاق من أسر التعابير الجادة والمأساوية، إلى الارتماء في حضن "البراول" الشعبية، وهي مقطوعات صغيرة، تتيح مجالاً رحباً للارتجال وتطعيم النص بمفردات متغيرة، غالباً ما تكون مرتبطة بالتعبير عن أشياء تدخل في دائرة التابو والمحرّم من منظور المجتمع.
وهكذا فإلى جانب الوجه الجاد الذي ظهر به فنانو العيطة ورموزها في بعض أغانيهم، تحتفظ الذاكرة الشعبية لهم بوجه آخر يستعرضون فيه مهاراتهم في الارتجال الجريء بألفاظ وتعابير جنسية، كما هو الشأن بالنسبة إلى الفنانة الحاجة الحمداوية التي اشتهرت بأغنية "با لحسن بشوية"، وتقول فيها: "با لحسن بشوية/ يمشي ويجي بشوية/ رانا عزبة لوالديا/ رانا عزبة من الركابي…"، وكأنها تتحدث بلسان فتاة عذراء تطلب من حبيبها أن يتمهل في الدخول عليها جنسيا، وأن لا يفتض عذريتها.
نفحات يهودية
أما الفنان المغربي اليهودي بوطبول، فقد غنى هو الآخر أغنية لا تقل جرأة بعنوان "ها تينتي" ولفظة "التينة" تشير في بعض المناطق المغربية إلى فرج المرأة، ويقول في الأغنية "ها تينتي يا الكافرة/ كاتاكلني بنت لحرام/ ما بغات تحشم/ يعطيها السم"، قبل أن ينتقل في موضع آخر من الأغنية ليقول: "آح كويتيني/ آه يا ذبّاح لحوالة/ يا بوغوفالة"، في إشارة إلى العضو الذكري الذي يشبهه بالسكين الذي يذبح الخرفان.
كما أن أغنية "قفطانك محلول" التي اشتهرت في الأوساط الغنائية المغربية اليهودية، فكانت تتضمن قدراً عالياً من الجرأة وهي تتحدث عن "قفطانك محلول آلالة/ واش ما وصلو حد قول لي/ راني كي المهبول".
وتتضمن الأغنية ذاتها مقاطع أخرى تقول: "راني كي المهبول راني/ حبك من اليوم بداني/ فقطانك محلول شهّاني"، أو: "صار الحب المعقول سيدي/ يوم نشوفك يوم عيدي/ قفطانك نحلّو بايدي/ بلا قاضي ولا عدول".
وأعادت بعض الأغاني الجريئة التي انتشرت في الفترة الأخيرة، بعد بزوغ نجم "شيخات" اخترن الإيروتيكا أسلوباً للانتشار، إلى الواجهة التراث الغنائي الجنسي، إذ في الوقت الذي انتفضت فيه بعض الأصوات مستغربة غناء "الشيخة الطراكس" أغنيتها الشهيرة "الحلاوة فين كاينة"، يغفلون أن هذا النوع من الأغاني ما هو إلا امتداد لحلقة ممتدة وطويلة لتعابير غنائية شعبية راسخة الجذور في المجتمع المغربي.
والواقع أن الشيخة الحقيقية النموذجية، مهنياً وفنياً، وفي المجتمع الذي يمجّد الرغبة ويكبحها تتسامى بالمحرم، وتلعب به وتحوله إلى فرجة ولحظات استيهام.
وهي لا تضع في اعتبارها، ولا ضمن رهاناتها، خرق أو مجابهة هذا المحرم، إنها تهيئ شرط التلذذ الإيروسي لكنها لا تحققه جنسياً، أي أنها تخلق حالة العطش بدون أن تكون معنيّة بتحقيق الارتواء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون