شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
من مساعِدة برلمانية إلى بائعة خبز

من مساعِدة برلمانية إلى بائعة خبز "الملاوي"... التونسية سماح تتحدّى البطالة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 23 ديسمبر 202104:00 م

من متجرٍ صغير محاذٍ لمقهى للرجال، وغير بعيدٍ عن معهد ثانوي، تفوح رائحة الملاوي، وهو نوع من أنواع الخبز الذي يُعدّ في المنزل، ويتمّ حشوه بالهريسة، والسلطة المشوية، وبعض المكوّنات الأخرى، حسب الرغبة، كالبيض، والتون، و"الصلامي"، وغيرها.

يقبل الزبائن على المتجر الحديث الافتتاح، ومقدار جاذبيته بمقدار جاذبية مالكته التي ليست شخصيةً عادية. فمن مساعِدة برلمانية وصحافية، اضطرت سماح العويني إلى فتح المتجر، لكسب القوت، بعد قرار إغلاق البرلمان.

كسب القوت بعرق الجبين

تستدرج رائحة الملاوي المارّة من مختلف الشرائح، التلاميذ والعمال والأطفال. الإقبال كثيف على المحل، لأن المكان إستراتيجي، والملاوي لذيذ، وصاحبة المحل سماح استثنائية بكل المقاييس. فهي ثلاثينية خريجة معهد الصحافة في تونس، تتجاوز خبرتها في مجال الصحافة العشر سنوات، تمكّنت خلالها من اكتساب مهارات العمل الصحافي، وتقنياته، وتكوين علاقات إنسانية بفضل أخلاقها الحميدة، ثم التحقت سنة 2017، بمجلس نواب الشعب، كمساعِدة برلمانية. لكن تجميد المجلس النيابي قلب حياتها رأساً على عقب، وأُحالها على البطالة، فلم تستسلم، وقررت فتح محل بيع الملاوي، بمعيّة زوجها.

"يوم 25 تموز/ يوليو تمّ تجميد عمل البرلمان، وأنا كمساعِدة برلمانية في كتلةٍ نيابية، وجدت نفسي مجمّدةً آلياً". سماح افتتحت متجراً لبيع "الملاوي" بعد تجميد عقدها

محلات بيع الملاوي في تونس، عادةً ما تكون مهنةً للنسوة اللواتي يكسبن قوتهنّ بسواعدهنّ، ويمتهنّ حرفاً يدويّةً لا تحتاج إلى مستوى دراسي، أو تكويني، حتى أن مداخيلها محتشمة، وبالكاد تفي بحاجة عائلةٍ صغيرة، لكن سماح قررت أن تغامر، وأصرّت على خوض التجربة، لتتمكن من تلبية حاجاتها وعائلتها، بعد انقطاع مورد رزقها.


تحكي المرأة عن هذا التحول الكليّ في مسارها، قائلةً: "يوم 25 تموز/ يوليو، تمّ تجميد عمل البرلمان، وأنا كصحافية وفي الأساس مساعِدة برلمانية في كتلةٍ نيابية، وجدت نفسي مجمّدةً آلياً. نحن 29 مساعداً برلمانياً تواصلنا مع الكاتب العام، بعد أن تمّ تعيينه مكلّفاً بالأمور الإدارية والمالية للمجلس وموظفيه، وأرسلنا له مذكرةً مفادها أننا قمنا بمهامنا الموكَلة إلينا، وراسلنا كذلك رئاسة الجمهورية، فتواصلت بدورها مع الكاتب العام للاستفسار حول وضعيتنا، وفق ما وردنا من معطيات، وما راعنا إلا أن تمّ إعلامنا بعد ثلاثة أشهر، وبالتحديد يوم 23 تشرين الأول/ أكتوبر، عبر مراسلة، أنه تم فسخ العقد منذ يوم 24 تموز/ يوليو".

تضيف "سماح"، في حديثها إلى رصيف22، أن العقد الذي يربطها وزملاءها بالبرلمان، هشٌّ بطبعه، وأجرهم يتراوح بين 800 و1500 دينار، "حسب الشهادات العلمية"، من دون تغطية اجتماعية، ولا يتمّ تمكينهم حتى من شهادة عمل، ومع ذلك كانوا يؤدّون مهامهم على أتمّ وجه، طوال سنوات عملهم.

كانت سماح العويني تعمل في مجلس النواب التونسي. لكن قرارات الرئيس قيس سعيّد بتجميد المؤسسة، دفعها إلى بيع الملاوي، لكسب قوت يومها

قرار فصلهم من دون أيّ تبرير، كان له أثر عميق في نفسها. تقول: "لقد صُدمت بفسخ عقدي، وخسارة مورد رزقي الوحيد، وأنا التي كنت على أمل بأن تُسوّى وضعيتي، ومع مرور الأيام ازداد الضغط، وتراكمت الفواتير والالتزامات، وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فقد علمت بمرض ابنتي الذي يستوجب متابعةً طبيةً، فأُصبت بالاكتئاب، ومررت بحالةٍ نفسية صعبة استطاعت عائلتي وعائلة زوجي التخفيف من وطأتها، من خلال الدعم المعنوي، والمادي، لكن الحالة لم تستمر طويلاً، وقررت البحث عن حلٍّ لوضعيتي".

تقول سماح إنها كانت تعدّ لافتتاح محلٍ لبيع الملاوي لزوجها، بعد أن غادر عمله بدوره، وتمكّنت من اقتناء أغلب المستلزمات بالتقسيط، ففكّرت في الانطلاق في المشروع بمعيته، خاصةً وأنها تتقن إعداد الملاوي، وجميع أنواع الخبز المنزلي.

"لم أجد حرجاً في العمل في محل ملاوي. فإلى جانب عملي كمساعِدة برلمانية، كنت أعدّ بعض الحلويات التونسية، كالمقروض (حلوى تتكون من الدقيق والزيت والتمر)، واليويو (حلوى تتكون من الدقيق والبيض والسكر)، وأبيعها لزبائني الذين يتّصلون بي عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. أؤمن بالمثل الذي يقول: ‘خدمة النهار ما فيها عار’ (أي لا عيب في العمل)، وبما أنني ماهرة في المطبخ، فما الذي يمنعني من استثمار موهبتي لأعزز من قدرتي الشرائية؟".

نموذج للكفاح

حظيت تجربة "سماح" بصدى واسع، وتمّ الترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، كتجربةٍ فريدة من نوعها، وعنوان للتحدّي والكفاح، على الرغم من كل المتاعب الحياتية. تجربة يمكن أن تكون حافزاً وعبرةً لكل عاطلٍ عن العمل في تونس، خاصةً وأن نسب البطالة في ارتفاعٍ مستمر، في صفوف أصحاب الشهادات العليا، حسب من يناصرون خروجهم إلى العمل، بدل أن يندبوا حظهم.

 "لقد مرّت زوجتي بفترةٍ صعبة، لكني اقترحت عليها وضع اليد في اليد، فأنا أعرفها. إنها بمئة رجلٍ، وبإمكاني أن أعوّل عليها. انطلقنا في المشروع، ووفقنا الله".

تقول الشابة متحمسةً: "منذ أن افتتحنا المحل، أُعجب كل من حولنا بالفكرة، وبدأ التعريف بنا شيئاً فشيئاً في المعهد المحاذي، وفي المقاهي، كما كان للتناول الإعلامي تأثير إيجابي، فقد توافد علينا العديد من الزبائن الذين يرغبون في التذوق، وفي مزيد من الاستفسار عن قصتي. على الرغم من اقتناعي بمشروعي الصغير، فإني أطمح في أن أعود للعمل في اختصاصي كصحافية، فأنا أعشق مهنتي، وتميّزت في كل التجارب الإعلامية التي خضتها سابقاً".

يتدخّل حمزة زوج سماح، قائلاً: "لقد مرّت زوجتي بفترةٍ صعبة، لكني اقترحت عليها وضع اليد في اليد، فأنا أعرفها. إنها بمئة رجلٍ، وبإمكاني أن أعوّل عليها. انطلقنا في المشروع، ووفقنا الله".

يتدخّل رامي، وهو زبون، في انتظار إعداد الملاوي التي طلبها، قائلاً: "أتردد يومياً على هذا المحل، منذ أن تمّ افتتاحه، فالإتقان والمعاملة الحسنة شعاران للثنائي سماح وحمزة، ومنذ أن عرفت قصتهما، أصبحت أكنّ لهما احتراماً مضاعفاً، فهي الأم المثالية، ومثال المرأة التونسية الكادحة".

"حظ" أقلّ

لئن تمكّنت سماح من إيجاد حلٍّ لمشكلتها، فإن غول البطالة لا يزال يطارد بقية المساعدين البرلمانيين، وقد تحدّثت مريم (اسم مستعار) عن تدهور أوضاعها المادية بعد انقطاع مورد رزقها، وهي التي كانت تستأجر شقةً مع زميلاتها بالقرب من مدينة باردو (حيث يقع مجلس نواب الشعب)، فاضطرت عند إعلامها بفسخ عقدها، إلى الاستعانة بعائلتها لسداد ديونها التي تراكمت لفائدة صاحب الشقّة، وقد أحيلت بدورها على البطالة.

من جهته، أكّد الكاتب العام للمجلس النيابي، عادل الحنشي، في تصريح لوسائل إعلام محلية، أنه لم يتمّ طرد موظفين من البرلمان، بل تمّ فسخ عقود إسداء خدمات، لأنه لم يعد لهم نشاط يقومون به، منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية، وتجميد نشاط المجلس. كما أكّد أن إدارة المجلس اتّخذت القرار، بعد استشارة رئاسة الجمهورية.

وقد أعرب عدد من نواب البرلمان عن مساندتهم للمساعدين البرلمانيين، من بينهم النائب هشام العجبوني، الذي رأى أن المساعدين البرلمانيين تعرضوا لمظلمةٍ، داعياً رئيس الجمهورية إلى أخذهم بعين الاعتبار، وصرف أجورهم. وفي انتظار الحصول على حقوقهم المعنوية والمادية، تعوّل سماح، وآخرون، على أنفسهم، للخروج من مأزقٍ وضعتهم فيه قرارات الرئيس قيس سعيّد. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard