تبدو قصة قبر الجندي المجهول في تونس، مثيرةً للاهتمام، ومختلفةً كل الاختلاف عن بقية القصص التي يتم تداولها في معظم دول العالم. فهذا التقليد الذي ابتدعته بعض الدول الأوروبية، نهاية الحرب العالمية الأولى، سرعان ما انتشر في معظم دول العالم، وبات اليوم تقليداً خاصّاً تحتفي به بعض الدول، كاعترافٍ بجميل ما قدّمه الشهداء من تضحياتٍ، في سبيل بلدانهم.
وتحتفظ الذاكرة الشعبية التونسية برواياتٍ مثيرةٍ ومختلفةٍ عن هذا القبر الذي ظلّ لغزاً محيّراً، لكل من يسلك سوق السكّاجين الذي يبعد كيلومترين عن وسط العاصمة تونس.
مجهول الهوية
حسب المعطيات التاريخية، فإن بداية قصة قبر الجندي المجهول انطلقت في أوروبا، حيث قرر مسؤولون من دول الحلفاء في كلٍّ من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، وضع نصبٍ تذكاري في عواصمهم، تكريماً لعددٍ كبيرٍ من الجنود الذين لقوا حتفهم في الحروب، ولم يتم التعرّف على جثثهم، نظراً لكثرتها.
وتعود أول قصةٍ لضريحٍ للجندي المجهول، إلى عام 1858، وهو ضريح "جندي المشاة" في فريدريكا، في الدنمارك. هذا التقليد انتشر في الوطن العربي، ليشمل دولاً عدة، منها العراق، وسوريا، وفلسطين، واليمن، والأردن، والمغرب، وكانت مصر أول من قام بتشييد ضريحٍ للجندي المجهول، في حرب تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1973.
لم تحتفظ السجلات التونسية بأي معطياتٍ رسميةٍ عن الشخصية الموجودة داخل "قبر الجندي المجهول"، وهو ما فتح باب التأويلات، وانتشار القصص والخرافات
في تونس، يوجد قبر الجندي المجهول في ممرٍّ ضيقٍ، تحديداً في سوق السكّاجين في المدينة العتيقة، أو كما يحلو للبعض تسميتها بـ"المدينة العربية"، على بعد كيلومترين تقريباً من وسط العاصمة. هذا الضريح، على عكس بقية الأضرحة في العالم، لا يلقى اهتماماً من الدولة، ولا حتى من الأهالي. في المقابل، ترفض الدولة المساس به، أو حتى تغيير مكانه، لأسبابٍ تبقى مجهولةً، وباتت لغزاً محيّراً لكل مواطنٍ، ومصدراً لهذه التساؤلات، خاصةً أنه يقع وسط طريقٍ يمرّ منها الناس.
فلو كان شهيداً، لماذا لم يتم نقل رفاته إلى مقبرة الشهداء؟ ولو كان شخصيةً مناضلةً ومعروفةً، لماذا لم يتم نقله إلى جوار الزعماء؟ ولو كان وليّاً صالحاً، لماذا لم يتم تشييد قبّةٍ خاصّةٍ به، ليصبح محل اهتمامٍ كالبقية؟ كل هذه الأسئلة تبقى مطروحةً، لكن بعض الروايات التي قدّمها الأهالي، وبعض المختصّين، تطرح نظريةً أخرى، بعيدة عن ذلك كله.
بُني القبر على ارتفاع ثلاث درجاتٍ، ويحمل في جوانبه قبباً نحاسيةً، ويطغى عليه اللون الأخضر الذي امتزج بأشكالٍ هندسيةٍ، وأقواسٍ أندلسيةٍ يتوسطها نجم ذو خمسة أضلاع، ولا يحمل أيّ تعريفٍ، أو معلوماتٍ تاريخيةٍ بشأنه.
أما عن طبيعة المكان الذي يقع فيه، فقد خُصّص هذا المكان للشكّازين (يطلق عليهم في تونس السكّاجين، نسبةً إلى اسم السوق)، وهم الحرفيون المتخصصون في تجميل جلود السروج، ولباس الفرسان، وكانت هذه الحرفة رائجةً بقوة في القرون الوسطى، وظلّت صامدةً حتى اليوم، على الرغم من تراجع مداخيلهم.
العم طاهر (70عاماً)، أحد سكان المدينة العتيقة، يروي لرصيف22، حكاية سكان المنطقة القدامى عن ذاك القبر، قائلاً: "عندما كنا صغاراً، كان أهلونا يحذّروننا من العبث بذاك القبر، أو بسياجه، وكانوا يستحون من أن يحدّثونا عن سبب وفاة الجندي، لأنهم كانوا يرون أنها تخصّ الكبار والشرف، حتى أنهم كانوا يمرّون بنا بسرعةٍ، عندما نصل إلى جوار القبر، كي لا نسأل عن قصّته، بيد أننا كنا نبحث عن اللغز، ونسأل شباب المنطقة؛ فمنهم من يعطينا روايةً خطأ، كي لا نلحّ في السؤال، ومنهم من يدّعي أنه لا يعرف الحكاية، وآخر يحكي لنا نصف الرواية، ولا يكمل البقية، فتشكّلت لدينا تساؤلات عدة لم نستطع فكّ شيفرتها إلى يومنا هذا... لكن برأيي، أياً كانت حكايته، فإنه يُعدّ معلماً تاريخياً، وبقاؤه يترجم الحضارات المتعاقبة على تونس، منذ ثلاثة آلاف سنة، وهو أمر مشرّف، وليس العكس".
رمز الشرف والشجاعة
يتداول الباعة والحرفيون قصصاً مختلفةً عن هذا القبر، من دون الاستناد إلى معطياتٍ علمية، إذ يقول محمد، وهو في الخمسينات من عمره، وتاجر في السوق، إن الإسطورة تقول إن هذا القبر يعود إلى رجلٍ مقدامٍ وشجاع، قام بقتل جنديٍّ إسباني، دفاعاً عن شرفه.
وفي القصة، أن جنديين إسبانيين تحرّشا بفتاةٍ وأمها، في طريق عودتهما إلى المنزل، وحاولا اغتصاب الفتاة، فقاومتهما حتى تمكّنت من قتل أحدهما، وتكفّل إخوتها وبقية سكان الحي بقتل الجندي الآخر.
بعد ذلك، قام الاحتلال الإسباني الذي استولى على العاصمة تونس، عام 1535، لمدة 40 عاماً، بإرسال وحدةٍ عسكريةٍ قامت بقتل إخوة الفتاة السبعة، ورفاقهم.
أياً كانت حكايته، فإنه يُعدّ معلماً تاريخياً، وبقاؤه يترجم الحضارات المتعاقبة على تونس، منذ ثلاثة آلاف سنة. قبر الجندي المجهول في العاصمة تونس
وحسب محمد، أن أحد الإخوة ظلّ يقاوم حتى فصلوا رأسه عن جسده، وسقط في ذلك المكان الذي ارتوى بدمائه. حينها، تم دفنه في ذلك المكان، كرمزٍ من رموز العزّة والشجاعة.
ويقول أحد الباعة إن هذا القبر يعود إلى أول شهيدٍ سقط برصاص قوات الاحتلال الفرنسي، وهو ما ينفيه كثيرون، ويرون أن هذا القبر يعود إلى زمنٍ بعيدٍ جداً.
ولا يزور هذا القبر أحدٌ، ولا يهتم به العامّة، ولا تحتفي به الدولة كبقية الشهداء، علماً أن تونس خصصت يوم التاسع من نيسان/ أبريل من كل عام، عيداً للشهداء.
حارس البوابة
يطلق بعض سكان المنطقة على هذا الضريح، صفة حارس البوابة، نظراً لوجوده أمام المدخل الرئيسي لسوق السكّاجين.
ويقول لطفي، وهو في الأربعين من عمره (تاجر)، إن هذا القبر أصبح رمزاً من رموز المكان، إذ تقول الأسطورة إن بعض المسؤولين قرروا، بعد الاستقلال، إزالة هذا القبر، في إطار تهيئة المكان، وإعادة توضيبه، إلا أنهم تفاجأوا بشيءٍ مريبٍ، إذ ظلّت الدماء تسيل من القبر يوماً كاملاً، عندما حاولوا نبشه وتكسيره، ما دفعهم إلى اتّخاذ قرارٍ عاجلٍ بإعادة ترميمه، وعدم المساس به مرةً أخرى.
وتبقى هذه المعطيات من وحي الأسطورة، ولا تستند إلى معطياتٍ تاريخية، إذ لم يتم التطرق إلى هذا الضريح في أيٍّ من الكتب التي تحدّثت عن المدينة العتيقة، وعن البلاد بصفةٍ عامة.
تقول سهى (30عاماً)، من تونس: "كلما مررت في الزقاق الذي فيه الجندي المجهول، أشعر برهبةٍ كبيرةٍ، ولا أتوقّف عن قراءة القرآن، والدعاء، حتى أخرج من النهج (الشارع). وبغضّ النظر عمّا إذا كانت الأسطورة صحيحةً، أم لا، فإن وجود قبرٍ بذاك الحجم وسط الطريق، أمرٌ مفزعٌ، ويدعو إلى الرهبة والخوف، ونحن نعيب على البلدية تركه حتى هذه الساعة في مكانه. فلو كان صاحبه مهماً جداً، أو شخصيةً وطنيةً مثلاً، يجب أن يُنقل إلى مقابر الشهداء، وإن كان شخصاً عادياً، فنقل الرفاة إلى مقبرةٍ مجاورةٍ هو الحلّ الوحيد، ويجب إبعاد ذاك التابوت الملوّن عن وجوه المارة، إذ تمرّ نساء حوامل، وأطفال، وأناس لديهم رهاب... ثم أنا أستغرب ما الرمزية في الموضوع؟ إنها واهية، ولم تعد صالحةً للقرن 21".
ويوضح المؤرخ، عبد الستار عمامو، أن القبر الموجود داخل سوق السكّاجين، هو قبرٌ منسيٌّ لم تتم إزالته من مقبرةٍ قديمةٍ في العاصمة، تمت إزالتها بسبب التوسّع العمراني في القرن التاسع عشر.
ويضيف عمامو، أن 16 قبراً بقيت من المقبرة القديمة، تم التخلّص منها جميعاً، عدا ذلك القبر الذي رجّح أنه قبر شخصية يطلق عليها "الإمام الرصّاع".
ولم تحتفظ السجلات التونسية بأي معطياتٍ رسميةٍ عن الشخصية الموجودة داخل هذا القبر، وهو ما فتح باب التأويلات، وانتشار القصص والخرافات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين