شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
أن أكون مصرياً في فرنسا... محاولة البحث عن محلٍّ من الإعراب

أن أكون مصرياً في فرنسا... محاولة البحث عن محلٍّ من الإعراب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 23 ديسمبر 202109:13 ص

أن أكون مصرياً في فرنسا... محاولة البحث عن محلٍّ من الإعراب

استمع-ـي إلى المقال هنا

على عكس العديد من البلدان صاحبة التاريخ الاستعماري الفرنسي، لا ترتبط الأغلبية من المصريين بالثقافة الفرنسية بقدرٍ كبير. فبخلاف إعجاب البعض من أفراد جيل ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ببروز أفلام "الموجة الجديدة"، وموسيقى أزنافور، وإيديت بياف، وإنريكو ماسياس، وغيرهم، واتفاقية متواضعة لاتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري مع قناة "سي إف آي"، أتاحت عرض حلقات متفرقة لبرامج مثل "حلها واحتلها"، خلال بث الظهيرة على القناة الحكومية الثالثة، وبرنامج "بانوراما فرنسية" المعروض مساء كل ثلاثاء على القناة الثانية، خلال الحقبة نفسها، لم يعرف جيلي الكثير عن فرنسا، سوى ما نسمعه عن بريق عاصمتها، بالإضافة إلى أسماء نجوم منتخبها لكرة القدم.

زملاء عمل من شمال إفريقيا، يجيدون الفرنسية كلكناتهم العربية، ويقيمون هنا منذ عقدٍ وأكثر، قالوا لي إنهم يعانون من المشكلات نفسها، ولكن بدرجاتٍ متباينة.

لم يخلق أيٌّ من ذلك في داخلي مخاوف حيال فكرة الانتقال إلى فرنسا، والعمل فيها، حتى وإن كان في إحدى المدن الحبيسة التي تأتي في المرتبة الثالثة بعد باريس ومارسيليا، من حيث المساحة، وتعداد السكان، والتعددية والانفتاح، خاصةً وأنني خضت قبل ذلك تجربتين أوروبيتين للإقامة في لندن وبرلين، تمتعت خلالهما بحياة اجتماعية ثرية وسعيدة تركت الأثر الأكبر في تكوين شخصيتي، وعوّضتني عما فاتني من خواء وخيبات أمل مجتمعية عانيت منها في مصر.

لكن ما وجدته هنا، في مدينة ليون، والحكم طبعاً بعينَي المتحدث، وبناءً على انطباعاته الشخصية، وتعميماته أيضاً، هو اختلاف المنظومة الاجتماعية الفرنسية عن غيرها من دول أوروبية كثيرة زرتها سابقاً، أو ما وجدته اختلافاً بين الفرنسيين أنفسهم، ونظرتهم إلى الحياة وإلى الآخرين، وهو ما ينعكس حتى على المهاجرين وأبنائهم وأحفادهم من مزدوجي الجنسيات المختلفة هنا.

ثمة مواقف يقف فيها الحاجز اللغوي عائقاً أمام التعرّف على ثقافة الآخر، تُظهر أحكاماً مبنيةً على انطباعات، وقد تتغير بتغيّر التجارب والأشخاص المحيطين، ومدى العلاقات معهم، وعمقها. فما رأيته هنا، وبشكل شبه يومي، هو أن الكثيرين من الفرنسيين يملكون قدراً كبيراً من العنصرية، والفخر الزائف، وغير المُعلن، بالحقبتَين الاستعمارية والتنويرية، وحتى ما قبلهما، ويصل في بعض الأحيان إلى درجة كبيرة من الغرور والانغلاق وانعدام الفضول في معرفة ما هو مغاير لهم، أو جديد عليهم: "لقد ساهمنا في تنوير العالم، وفي تقديم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ولنا الأثر الأكبر في فلسفة ما بعد الحداثة، وكفى". هكذا تبدو لي رؤيتهم في كثيرٍ من الأفعال التي أراها، والقليل من الأقوال الفرنسية التي يمكنني فكّ شيفراتها.

يجد المصري نفسه هنا، من دون محلٍّ من الإعراب، على عكس أصحاب الجنسيات والأصول الشمال إفريقية، أو اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر، والذين قد يكون تصنيفهم الفرنسي سلبياً، ولكنهم يواجهون ذلك بسلاح اللغة، وفهم الثقافة التي يعيشون وسطها، وتحبطهم في كثيرٍ من الأحيان

يتوقع العديد من الفرنسيين أن كل وافدٍ إلى بلدهم، هو بالضرورة فرنكوفوني، أو يجيد اللغة بقدر كبير من الطلاقة على أقل تقدير. لا يفهمون، ولا يساعدون، ولا يملكون الكثير من الاحترام، لمن لا يتحدث لغتهم. يتعاملون مع المهاجرين من منطلق الفئات والتصنيفات، وتالياً يجد المصري نفسه هنا، من دون محلٍّ من الإعراب، على عكس أصحاب الجنسيات والأصول الشمال إفريقية، أو اللبنانية على سبيل المثال لا الحصر، والذين قد يكون تصنيفهم الفرنسي سلبياً، ولكنهم يواجهون ذلك بسلاح اللغة، وفهم الثقافة التي يعيشون وسطها، وتحبطهم في كثيرٍ من الأحيان.

مثل أيّ تجربة سابقة لي في الخارج، بدأت حياتي هنا بالخروج إلى الحانات وحيداً، للتعرّف إلى أيّ غريب متاح الحديث معه، وهو ما كان له مفعول السحر سابقاً، في مدنٍ مثل لندن وبرلين وحتى موسكو وبوزنان وتالين. أتذكّر أوّل مرة أقدمت على ذلك هنا. جلست بالقرب من النادل في إحدى أمسيات نهاية الأسبوع، فحدّق بي عدد لا بأس به من مرتادي المكان بارتيابٍ شديد. لم يتحدّث أحد الإنكليزية، ولا يرغب كثيرون في الحديث إلى شاب عربي يتلعثم في نطق أساسيات الفرنسية، وفهمها. يعدّونه إما "تهديداً"، أو "استثماراً غير مجدٍ". أوشك أحدهم، بعد أن تمادى في شرب الكحول، على سؤالي كيف أجلس وحيداً، وأتوقّع إجراء محادثاتٍ مع أغراب، لكن عدم إجادتنا للغةٍ مشتركة منعه من إكمال سؤاله.

 لم يتحدّث أحد الإنكليزية في الحانة، ولا يرغب كثيرون في الحديث إلى شاب عربي يتلعثم في نطق أساسيات الفرنسية، وفهمها. يعدّونه إما "تهديداً"، أو "استثماراً غير مجدٍ".

تكررت مشاهد الارتياب والرفض والفظاظة المستترة. لست في الخامسة والعشرين، ولا أملك مرونة تلك المرحلة من عمري، ولا فخرها، وهو ما يجهض المزيد من محاولات الولوج إلى تلك الثقافة المختلفة. بيئة العمل نتحدث فيها بالعربية والإنكليزية فحسب، لذا لم تساعد على تعلّم ما هو أبعد من أساسيات الفرنسية، وتباين أعمار الزملاء واهتماماتهم وأولوياتهم، أطاح بفرص تكوين صداقات بينهم.

مع الافتقار إلى اللغة السائدة، تصبح المتاجر بلا لافتات. يصبح الحديث صمتاً، والصمت عجزاً. يصبح الخوف من النطق، وسوء الفهم، حاجزين أمام أي احتمال، لذا جاءت ردة فعلي تدريجياً بالانعزال الطوعي الذي صار رسمياً ومعمماً مع إغلاقات كورونا.

أضحت المشكلة أكثر وضوحاً في ظلّ عدم وجود استثناءات في الأفق: حين رُزقت بجارةٍ تونسية، أصرّت على الحديث معي بالفرنسية بنبرةٍ متعالية، لشكواها من علوّ صوتي في أثناء محادثة هاتفية مع صديقٍ في مصر. قلت لها إنني لا أجيد الفرنسية، وبما أننا عرب فلماذا لا نتحدث العربية؟ فاستمرّت في الحديث بالفرنسية، ولم أجد بدّاً سوى الاستمرار بالإنكليزية، من دون أن نصل إلى حل، فما بالنا بعلاقة صحية بين جارين من أصول متشابهة. السيدة المسنّة التي تقطن في الطابق الأعلى، تنظر إليّ بارتيابٍ كلما رأتني في مدخل البناية، وتنتظر التأكّد من امتلاكي مفتاحاً خاصّاً بي، نظراً إلى أن "الأجانب أمثالي لا يملكون ما يكفي"، لاستئجار شقّة في موقع متميز في وسط المدينة، وتالياً سأبقى في نظرها لصّاً محتملاً حتى أنتقل إلى مكانٍ آخر.

زملاء عمل من شمال إفريقيا، يجيدون الفرنسية كلكناتهم العربية، ويقيمون هنا منذ عقدٍ وأكثر، قالوا لي إنهم يعانون من المشكلات نفسها، ولكن بدرجاتٍ متباينة. "على الأقل نحن نفهم تلك الثقافة، ونعرفها جيداً، حتى من قبل قدومنا إلى فرنسا. نعرفها ونفهم لغتها تمام الفهم، ونعرف كيف نتعامل معها من دون الاندماج الكامل فيها"، كما قال لي أحدهم، قبل أن يكمل: "لا تتوقع أن يفتح لك الكثيرون هنا باب الصداقات، وخاصّةً إذا كنت لا تجيد لغتهم".

يقول لي أصدقائي ومعارفي في مصر، وبلدان عربية أخرى: "لماذا لا تنصهر وسط الملايين من العرب المقيمين في فرنسا؟"، وهو سؤال أصبحت أفقد صوابي من فرط سذاجته. مع مرور الوقت، صرت مقتنعاً بأن ما هو مشترك بيني وبين "المواطن الفرنسي الأبيض"، قد يكون أكبر مما هو مع أبناء الجيلين الثاني والثالث من الفرنسيين أصحاب الأصول العربية. أتذكّر سائق سيارة الأجرة الفرنسي جزائري الأصل، والمولود في مدينتنا، حين قال لي: "عندما أردت الزواج، سافرت للبحث عن زوجةٍ صالحةٍ في الجزائر. تزوّجنا وقلت لها لن تعملي، أو تبرحي منزلنا، واشتركت في جميع القنوات التلفزيونية العربية، لتشاهد أفلام عادل إمام".

من هم مثلي من العرب الذين جاؤوا إلى فرنسا طلاباً، أو وجدوا فرص عملٍ مكّنتهم من الإقامة بشكلٍ دائمٍ، تطبع البعض منهم بالنظام الانغلاقي العام: يعيشون في مجموعاتٍ تونسية، أو مغربية، أو جزائرية، أو لبنانية صغيرة، من المستحيل لغيرهم الولوج إليها

من هم مثلي من العرب الذين جاؤوا إلى فرنسا طلاباً، أو وجدوا فرص عملٍ مكّنتهم من الإقامة بشكلٍ دائمٍ، تطبع البعض منهم بالنظام الانغلاقي العام: يعيشون في مجموعاتٍ تونسية، أو مغربية، أو جزائرية، أو لبنانية صغيرة، من المستحيل لغيرهم الولوج إليها، إلا لو جمعت بينهم أنشطة محددة عادةً ما تكون في باريس، أو مارسيليا، أو نيس، وليس هنا. ولا يمكنني فرض نفسي على أناسٍ لا أعرفهم، ولا يعرفونني بطبيعة الحال.

لن أتحدّث كثيراً عن المصريين هنا، إذ إنني لم أجد منهم سوى طالبَين جامعيَين يصغرانني بسبعة عشر عاماً، كانا على وشك إنهاء دراستهما، وقالوا: "طبعا هنرجع مصر. مش عايزين نعيش هنا... كفاية إننا عرفنا نكمل دراستنا". كما أنني لم أترك أكثر من مئة مليون مصري تنهش أواصر العديد منهم ثقافة ذكورية سلطوية أبوية، لأبحث عنهم هنا في أوروبا، ولكن لهذا قصّة أخرى أتركها ليومٍ آخر.

بالطبع يوجد مصريون وغير مصريين من المهاجرين الذين يمرّون بتجارب مختلفة، وأكثر اجتماعيةً، ففي النهاية جميع التجارب شخصية، وتتعلق بالفرد، بقدر ما ترتبط بالمجتمع الذي يعيش فيه، أو ينتقل إليه. لا ينتهي إصراري على تعلّم المزيد من اللغة، لفهم تلك الحياة، وفرض نفسي على مجتمعها، قبل إطلاق أيّ أحكام نهائية. لكنها، وحتى الآن، تبقى تجربةً مغايرةً عن سابقاتها، حتى في دولٍ يشتهر مواطنوها بانغلاقٍ أكبر من هذا.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image