شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
لماذا لم أحضر معي دكتاتوري المفضّل إلى فرنسا؟

لماذا لم أحضر معي دكتاتوري المفضّل إلى فرنسا؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 26 نوفمبر 202102:07 م

"أتعلمون؟ إذا شربتم جرعة من الخوف في الصغر، لن تعرفوا طعم الباذنجان المقلي كما هو فعلاً". تبدو جملة رائعة للبدء من حيث انتهى المتذوقون وأصحاب الأطعمة المحددة، لكني أظنّ أني شربت أكثر من جرعة. أظنّ أن والدتي قد نقعت فيه كل وجباتنا لمدة عشرين سنة أو أكثر.

"أشعر بالخوف لأني لا أملك ما أخاف منه". يشعرني هذا بالفراغ الذي أحدثه الخوف بداخلي، أشعر بفداحة وجود هذه الهوّة التي لا يمكن أن يملأها شيء إلا الخوف وإلا ماذا؟ السعادة؟ ليست كبيرة كالخوف، ليست مفاجأة ومتفرعة وذات أذرع عديدة ومتوالدة كالخوف، الاطمئنان؟ هش وسريع الانكسار كجوارب النساء، الحب؟ لعبة وهمية تعتمد على أطراف أخرى وهذا ما سعيت للتخلّص منه دوماً. ماذا أستطيع أن أضع في تلك الفجوة التي أنشأتها 45 سنة من الخوف بداخلي، بأي مشاعر أستطيع أن أردم تلك الهوة؟ لماذا لم أحضر ديكتاتوري المفضل معي إلى فرنسا؟

إحداثيات الحيرة والخوف

أن تخاف يعني أن تتوقف في صورة خوفك. أن تغوص في وحل من التوقعات الأشد كارثية والتي يزيد من كارثيّتها خيالك السينمائي أيها الأحمق. أن تعجز عن استبقاء من تحب في دائرة يومياتك. أن تغرق في انحدار التقدير الذاتي لدرجة أن تتساءل إذا كنت تستحق قبلة على الخدّ أو حتى نصف التفاحة المجعّدة في البراد.

في العالم الذي يخلو من الخوف "الاعتيادي" السوري، في العالم الذي لا يحوي سوريين وأشباههم، العالم الذي لا يفهم كيف يعيش السوريون أيامهم ضمن الخوف المستمرّ والذي يرتبط بمجموعة أحداث قدرية تتعلق بدورها بمزاج الرئيس ونوابه وأجهزته الأمنية ووزرائه، إلى الخوف المرتبط بالطبيعة وانحباس المطر، خوف أصبح حميمياً لدرجة أني الآن أعاني من انعدامه، أعاني من الفراغ الذي لا خوف فيه والذي لا أجد شيئاً بحجمه يمكن لي أن "أدسّه" في فجوته، كما تدسّ العجوز قطعة الخبز في فجوات الجدران. لو كان خوفي امرأة، أو حتى رجلاً، لتزوّجته.

خوف أصبح حميمياً لدرجة أني الآن أعاني من انعدامه، أعاني من الفراغ الذي لا خوف فيه والذي لا أجد شيئاً بحجمه يمكن لي أن "أدسّه" في فجوته، كما تدسّ العجوز قطعة الخبز في فجوات الجدران. لو كان خوفي امرأة، أو حتى رجلاً، لتزوّجته

الأبواب المغلقة بغير ما أمان

في السجن، عندما ينتهي اليوم الاعتيادي للسجناء ويأخذ كل مكانه ضمن "السيستم" المتعارف عليه للسجناء: القديمون على أسرّة أرضية، المتوسطون على الأسرّة العلوية والأرض، أما الجدد، فبقرب الباب والمراحيض وفي المطبخ.

من المفترض، حسب المتعارف عليه في أنظمة السجون، أن السجن أكثر الأمكنة أماناً، إذ يستحيل تقريباً الخروج منه، وربما لهذا نقارب مدننا وبلداتنا ووطننا، باعتبارها سجناً، إذ لا يستطيع أحد الخروج منه إلا بمساعدة إلهية، لكن السجناء في ذلك المكان المعتم، وحين يتركون لهواجسهم ليلاً، بعد أن يغلق الشرطيون الأبواب الحديدية السوداء، يجتاحهم الخوف على هيئة سراب شفاف يخترق الجدران ويشاركهم الأغطية والوجبات القليلة، خوف غامض وسري ومتوحش ولا سبيل لتجنّبه، يفرغون الكؤوس البلاستيكية ويضعون له فيها بعضاً من القهوة الرديئة، بعضاً من الأعمار الرديئة، ربما يشعر بالسعادة ويغادر، مثلما جاء، من الشقوق في الجدران، ومن الشبك الحديدي الذي يغطي النوافذ، يطعمونه ما تبقى من أحلامهم علّه يصاب بالتخمة فينعس فينام...

يقولون: غادرنا أيها الخوف، أيها الصبي العابث، السمين بفعل أحلام الصبيان والفتيات، غادرنا، نحن بالكاد نقوى على حمل أسناننا وأطرافنا، بالكاد نحمل أسماءنا. غادرنا أرجوك، خذ ما تريده من أعمارنا ولكن، ابق لنا على بعض الساعات، بعض الدقائق فقط.

أن تخاف يعني أن تغرق في انحدار التقدير الذاتي لدرجة أن تتساءل إذا كنت تستحق قبلة على الخدّ أو حتى نصف التفاحة المجعّدة في البراد.

يخشى الرجال من أن تخونهم النساء، تخشى النساء من أن يقتلهن الرجال. يخشى الكبار من أن ينساهم أطفالهن، يخشى الأطفال من أن يفقدوا آباءهن. تخشى الزهرة من القاطفين، يخشى القاطفون من أيام بلا رائحة.

يتحدث علماء النفس عن الخوف من المجهول الذي تزامن مع بداية ظهور الدول الكبرى الحديثة وازدياد الصراع الاقتصادي في العالم، لكن اليوم لم يعد الغد مجهولاً، بالنسبة للعديد من البلدان والشعوب، أصبح الغد واضحاً وجلياً لدرجة الانسحاق. الغد يقترب بفأس دامية والمجهول أصبح معلوماً: لا أمل لأحد في هذا العالم من الفناء والانسحاق. أصبح الغموض وما يصاحبه من احتمال الأمل، فكرة أسطورية تليق بجدة تحكي قصص ما قبل النوم لأحفادها. كنا نظن أن غداً يأتي مع الغد، لكنه اليوم يأتي مع البارحة، مع خوف البارحة الذي يشبه خوف اليوم، أصبح يأتي بكلّ جبروته العادي الذي لا سحر فيه ولا ابتكار.

يعرّف سبيينوزا الخوف على أنه "حزن غير ثابت"، غير مستثمر وغير مدار، ينشأ من الشكّ في الماضي أو المستقبل، لكن الخوف السوري يبدأ من حزن سبينوزا ولا ينتهي عند أمل سبينوزا كـ"فرح غير ثابت"، بل يبدأ من "مشاريع العاطفة" تلك، التي نبني عليها حكايات تتعلق بالثقة والثبات والاطمئنان للتواجد في الحيّز الجغرافي هذا أو ذاك.

الخوف من وقوع خشبة المسرح على الجمهور

تشبه هذه الاستعارة أن تلتهم السمكة قطة صاحبها، أو أن ينشأ خوف سبينوزا من الأمل الذي تلوّح به قضايا صغيرة مثل العلاقات والحب والأسرة. خوف، كورق النايلون الشفاف، تتغلّف به كل فاكهتك، فبدل أن تحصل على الطعم المغمّس بعصير الفاكهة، وبدل أن يسيل على خدك وشفتيك، تحصل على طعم غامض، تحار في تفسيره بل وتحار في موقفك منه حتى: هل تضعه في حرز متين لئلا تفقده وتفقد معه تفسيراً واضحاً لحياتك، أم تتعمّد إضاعته وأنت تنظر بعين نصف مغمضة إلى ذيله الذي يختفي سريعاً في الزقاق؟

يعرف الجميع الخوف. يعرفونه ويعرّفونه باقتباسات طويلة ومليئة بالاستعارات الأدبية والصفات المنحوتة من عظم الخوف نفسه. لكن الخوف أكثر وضوحاً من سترة عمال النظافة، وله تلك اللمعة التي يمتلكونها والتي تجعل كل ضوء ينعكس، أمل أو حب أو شعور، على هيئة خطر أكيد

الخوف من أن يقع الاثنين بعد الأربعاء مباشرة

يضع الزمن سياقاً منطقياً، نحصره بمقدراتنا العقلية البسيطة ونتوقع أن يلي كل شدّة انفراج، أو كل سبت أحد، لكنك بالخوف الفالت من عقال المنطق، تحصل على نهايات لا تتفق مع مبتدئات الأشياء، كأن تنتهي من ممارسة الحب قبل أن تخلع ثيابك ثم تبدأ بتقبيل حبيبتك.

أما الزمن مع الخوف فيجمد، أو يكتسب تلك اللزوجة التي تجعل السير عبره، إلى الغد أو إلى أي وقت آخر، أشبه بيوم اثنين أبدي، لا يسبقه أحد ولا يليه ثلاثاء، الخوف يتحرّى عن أشدّ أوقاتك ظلمة ويبدأ بالنقر باستخدام تلك الآلة الرهيبة التي تقول لك في أزيزها: لا تفعل شيئاً، لن تستطيع أن تخرجني من رأسك.

الخوف من الاقتباسات التي تتحدث عن الخوف

يعرف الجميع الخوف. يعرفونه ويعرّفونه باقتباسات طويلة ومليئة بالاستعارات الأدبية والصفات المنحوتة من عظم الخوف نفسه. لكن الخوف أكثر وضوحاً من سترة عمال النظافة، وله تلك اللمعة التي يمتلكونها والتي تجعل كل ضوء ينعكس، أمل أو حب أو شعور، على هيئة خطر أكيد.

الذين خرجوا، يوماً ما، ضد نظام دكتاتوري، ثم عبر البحر وطرق الهروب الوعرة، لم يتخلصوا من خوفهم كما تخلصوا من زجاجات المياه الفارغة، بل حملوه معهم إلى بلد اللجوء، نقلوه في ثيابهم وفي صرر طعامهم وممتلكاتهم القليلة، وضعوه عميقاً بحيث يمسّدون على رأسه كلّما شعروا بالفراغ.

أبحث عن خوف ينتشلني من خوفي، مرة أخرى: لماذا لم أحضر معي دكتاتوري المفضل إلى فرنسا؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image