لطالما أعلن الرئيس الأمريكي، جو بايدن، للناخبين، أنه يريد إنهاء الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لكن مسؤولي الإدارة، بمن فيهم وزير الدفاع لويد أوستن، وعدوا شركاء واشنطن الإقليميين بأن بلادهم ملتزمة بأمنهم.
لا يظهر أن هناك تناقضاً بين الوعدين، لأن التغيير عبارة عن تعديل في إستراتيجية العمل العسكري، وليس انسحاباً. مثال على ذلك، عدم حاجة الولايات المتحدة إلى نشر قوّات برّية في الصفوف الأولى، لكن تنشر مستشارين خلف المقاتلين المحليين، وهو ما حدث في سوريا والعراق في الحرب ضد داعش.
تشير الاقتراحات إلى أنه يمكن للولايات المتحدة أن تسحب آلاف الجنود من القوات البرية في الكويت، ويظلّ المستشارون العسكريون مع الإبقاء على جاهزية قواعدها، كما تشير الاقتراحات إلى أنها ليست في حاجة إلى الأساطيل البحرية الضخمة، وإنما إلى سفن صغيرة وذكية.
هو تعديل في إستراتيجية العمل العسكري، وليس انسحاباً. مثال على ذلك، عدم حاجة الولايات المتحدة إلى نشر قوّات برّية في الصفوف الأولى، لكن تنشر مستشارين خلف المقاتلين
من الواضح أن النقاشات حول كيفية الانسحاب من الشرق الأوسط ليست بالشيء الجديد، إذ سعت واشنطن بالفعل إلى تغيير حجم وجودها العسكري في المنطقة، لكنها كانت دائماً تنخرط فيها أكثر، بسبب الأزمات والصراعات التي سعت إلى النأي بنفسها عنها.
وكان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، قد وعد بالانسحاب من المنطقة، لكنه أرسل آلافاً إضافية من القوات، مع تصاعد التوترات مع إيران بين عامي 2019 و2020، بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، كذلك الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، أعاد قوات بلاده إلى العراق، ودخل سوريا لمحاربة داعش في عام 2014.
ترامب وعد بالانسحاب من المنطقة، لكنه أرسل آلافاً إضافية من القوات، مع تصاعد التوترات مع إيران بين عامي 2019 و2020، بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني
قالت الباحثتان الأمنيّتان بيكا واسر، وإليسا إيورز، في تقرير نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية، إن "أيّ شيء بخلاف عمل تعديلات طفيفة في الوجود العسكري، يُعدّ خطأ جيوسياسياً فادحاً".
ومن الواضح أن سنواتٍ من الوجود العسكري الأمريكي المستمر، لم تفعل شيئاً يُذكر لردع الأزمات الأخيرة في المنطقة. وعليه، ترجّح الباحثتان أن "يكون هناك اعتماد على نهجٍ أكثر دبلوماسيةً وإستراتيجيةً تجاه الشرق الأوسط، يتماشى مع أهداف الولايات المتحدة، وهو ما سيسمح لواشنطن بإعطاء الأولوية لجهودها واهتماماتها في مكانٍ آخر، وستكون في وضعٍ أفضل للرد والعمل على الديناميكيات المتغيّرة في الشرق الأوسط".
في رأي الباحث العراقي، فراس إلياس، فإن الشرق الأوسط "يحتلّ مكانةً مركزيةً في المدرك الإستراتيجي الأمريكي، لأسباب جيو إستراتيجية وجيو اقتصادية، وهذه الأسباب هي من يعيد عادةً صياغة الرؤية الأمريكية حيال هذه المنطقة".
ولفت إلياس، في حديث لرصيف22، إلى أن "صعود حركة طالبان في أفغانستان، واستمرار الأزمات في سوريا وليبيا واليمن، والوضع السياسي الهش في العراق، ستدفع بإدارة بايدن إلى تأجيل أيّ حديثٍ عن انسحاب أمريكي مفترَض من الشرق الأوسط، بل قد يوفّر بقاؤها ضمانةً لمصالحها أكبر بكثير من انسحابها، في ضوء عجز الحلفاء عن أداء المهمة الأمريكية في المنطقة".
صعود طالبان، واستمرار الأزمات في سوريا وليبيا واليمن، والوضع الهش في العراق، ستدفع بإدارة بايدن إلى تأجيل أيّ حديثٍ عن انسحاب أمريكي مفترَض
من جانبه، رأى المحاضر الدولي في جامعة جورج واشنطن، الدكتور عاطف عبد الجواد، أنه "لن يكون هناك انسحاب أمريكي من المنطقة، بل تقليصٌ للموارد العسكرية والاقتصادية، وإنهاء حروب أمريكا الطويلة في المنطقة (أفغانستان)، وتوفير النفقات المالية المرصودة للتعامل مع الأزمات والنزاعات والتوترات في الشرق الأوسط".
وأضاف عبد الجواد، لرصيف22، أن "هناك اليوم أربعة تطورات مهمة في المنطقة، ربما لا ترتبط مباشرةً بعضها ببعض، ولكنها توفّر للولايات المتحدة مناخاً مختلفاً عمّا هو سائد في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية".
جاء بايدن بخبرة طويلة في مجلس الشيوخ والبيت الأبيض، خلاصتها أن أحلامه بالاستقرار في الشرق الأوسط ترقد فوق رمال متحركة
بنظره، "التطور الأول هو الحوار المباشر اليوم بين إيران والسعودية، وتصريحات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، بأن لكلٍّ من البلدين مصالح في البلد الآخر. والتطور الثاني هو المصالحة بين تركيا ومصر، والثالث هو الاتفاق الإبراهيمي بين إسرائيل وعدد من الدول العربية، والتطور الرابع هو المصالحة بين قطر والإمارات".
وتابع عبد الجواد: "جاء بايدن بخبرة طويلة في مجلس الشيوخ والبيت الأبيض، خلاصتها أن أحلامه بالاستقرار في الشرق الأوسط ترقد فوق رمال متحركة. لكن التطورات الأربعة هذه تسمح له الآن بالتعويل على شرق أوسط أكثر استقراراً، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار أيضاً جهود التحالف الاقتصادي المصري العراقي الأردني، ثم التحالف المصري اليوناني القبرصي الإسرائيلي في مجال الغاز".
الوجود العسكري
يعود الوجود العسكري للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والذي نجم عن صراعات بدأت، وبعضها انتهى، إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي. في ذلك الوقت، بدأت واشنطن بنشر أعداد كبيرة من القوات في المنطقة، مع احتجاز رهائن في إيران، وما تلاه من عقيدة الرئيس الأسبق جيمي كارتر عام 1980، التي ألزمت الولايات المتحدة بأمن دول الخليج.
وتواجدت الولايات المتحدة خلال حربَي الخليج الأولى والثانية، ثم توسعت بشكلٍ كبير بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وغزو العراق في 2003، وأدّت الصراعات المتتالية، مثل العمليات في أفغانستان، وحرب العراق، والقتال ضد داعش، إلى ترسيخ القواعد الأمريكية في جميع أنحاء المنطقة.
توسع الوجود الأمريكي بشكل كبير بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، وغزو العراق في 2003، وأدّت الصراعات المتتالية، إلى ترسيخ قواعدها العسكرية في جميع أنحاء المنطقة
تمتلك الولايات المتحدة ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية حول العالم، وتقول القيادة المركزية الأمريكية إن ما بين 60 و70 ألف جندي أمريكي موجودون في الشرق الأوسط.
في البحرين، يوجد أكثر من سبعة آلاف جندي أمريكي، معظمهم من البحرية. وتتمركز القوات في الدعم البحري في البحرين، وقاعدة الشيخ عيسى الجوية، وميناء خليفة بن سلمان حيث يتمركز الأسطول الخامس.
ويوجد في العراق نحو ثلاثة آلاف إلى 5،200 عسكري أمريكي، لكن من المرجّح أن يتراجع العدد إلى بضع مئات في مهمة تدريبية. وفي الأردن، يتمركز 2،795 جندياً، فيما يتواجد 13،000 جندي في الكويت، في معسكر بورينج، وقاعدة علي السالم الجوية، ومعسكر عريفجان، ومعسكر باتريوت، وقاعدة الشيخ أحمد الجابر الجوية.
تمتلك الولايات المتحدة ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية حول العالم، وتقول القيادة المركزية الأمريكية إن ما بين 60 و70 ألف جندي أمريكي موجودون في الشرق الأوسط
وفي عمان هناك بضع مئات من الجنود الأمريكيين بالقرب من مضيق هرمز منذ 1980، وساعدت الولايات المتحدة في محاربة داعش. وتتمركز القوات في ميناء صلالة، وميناء الدقم. ويتواجد في قطر ما يصل إلى 13،000 جندي أمريكي في قاعدة العديد الجوية، والتي تُعدّ مقرّ القيادة الأمريكية في الشرق الأوسط.
وتتواجد في السعودية بضع مئات من الجنود الأمريكيين، إذ تشير التقديرات إلى أن عددهم يقترب من ثلاثة آلاف جندي، لكن دائماً ما تتغير الأرقام حسب المهمات العسكرية، خاصّةً الدفاع الجوي.
ويتمركز في سوريا ما يقرب من ألفي جندي أمريكي، كانوا يعملون مستشارين عسكريين مع قوات سوريا الديمقراطية، وتحدثت تقارير عن احتمال تراجع الأعداد مع انتهاء القتال ضد تنظيم داعش. أما في الإمارات، فيتمركز خمسة آلاف جندي أمريكي في قاعدة الظفرة الجوية، وميناء جبل علي، وقاعدة الفجيرة البحرية.
ولم يتم الكشف عن عدد القوات الأمريكية في تركيا، لكن يُقدَّر عددهم بالآلاف في قاعدة إنجرليك الجوية، حيث تتواجد رؤوس نووية، كذلك في قاعدة أخرى في إزمير.
وتشير الباحثتان لـ"فورينز أفيرز"، إلى أن "الأنشطة العسكرية لواشنطن تتآكل منذ عشر سنوات. وعلى الرغم من وجودها المستمرّ نسبياً، إلّا أن ذلك لم يمنع حدوث كلّ الصراعات والحروب التي شهدتها المنطقة".
الشكل المحتمل
"تحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة تقويم رصين للأدوات العسكرية التي ينبغي أن تخصصها للشرق الأوسط. وهذا لا يعني الانسحاب من المنطقة، أو التغاضي عنها"، وفقاً للباحثتين اللتين تنبّأتا بالإستراتيجية الأمريكية المحتملة لقواتها في الشرق الأوسط، وفقاً للتالي:
لم تعد أمريكا تخوض حروباً برّيةً واسعة، وهذا يعني أنها ليست بحاجة إلى أعداد كبيرة من القوات والمعدات الثقيلة القادرة على السيطرة على الأرض
على سبيل المثال، لم تعد تخوض حروباً برّيةً واسعة، وهذا يعني أنها لم تعد بحاجة إلى أعداد كبيرة من القوات والمعدات الثقيلة القادرة على السيطرة على الأرض.
لذلك تستلزم إعادة التقويم ترتيب أولويات الموارد العسكرية لواشنطن، وكيفية ربطها بشكل أوثق بالأهداف الإستراتيجية للولايات المتحدة.
يقوم التواجد الأمريكي حالياً على التركيز بشكل أضيق على حماية مواطنيها، وحلفائها، من الإرهاب، وردع إيران عن تطوير أسلحة نووية، والحفاظ على تدفق التجارة وحرية الملاحة.
كذلك تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع الحلفاء والشركاء لتسيير دوريات في المناطق البحرية، ولا سيما الممرّات الخانقة، مثل مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، لكن مثل هذه الدوريات لا تتطلب قوّةً عسكريةً طاغيةً، أو عملاً أحادياً، وهذا ليس مرادفاً لتأمين التدفق الحرّ للنفط في المنطقة، وفقاً للباحثتين.
تحتاج الولايات المتحدة إلى العمل مع الحلفاء والشركاء لتسيير دوريات في المناطق البحرية، ولا سيما الممرّات الخانقة، لكن مثل هذه الدوريات لا تتطلب قوّةً عسكريةً طاغيةً
هذه ليست المصالح الوحيدة لواشنطن في الشرق الأوسط. هناك أمور أخرى، مثل ضمان سلامة إسرائيل، ومواجهة الصين وروسيا، لكن الديناميات تغيّرت، وتمتلك إسرائيل القوة الأمنية الأكثر قدرةً في المنطقة، ولم تعد تستفيد من الوجود المادي للجيش الأمريكي، كما كانت تفعل من قبل.
وستظلّ الولايات المتحدة بحاجة إلى جيشها في الشرق الأوسط، لمحاربة الإرهاب، ووقف الانتشار النووي، لكنها ستعتمد على قوّات العمليات الخاصّة، والقواعد غير المأهولة، وبعض الطائرات الهجومية التقليدية، والموارد التمكينية الحاسمة، مثل التزوّد بالوقود الجوّي، والاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع.
لا تستلزم أيّ من هذه المصالح حجم القوة الحالية في جميع أنحاء المنطقة؛ مجموعات كبيرة من القوات البرية، وقدرات "ثقيلة" في المحيطات. فعلى سبيل المثال، يمكن تقليص معسكر عريفجان في الكويت، وهو قاعدة مخصصة للقوات البرية الثقيلة، وتحويله إلى مركز لوجستي يساعد في زيادة القوات العسكرية الأمريكية عند الحاجة. ويمكن إبرام اتفاقيات تسمح بوصولٍ طارئ، ونشر قواتها، وتوسيع نطاقها متى لزم الأمر.
وتقول الباحثتان: "من المهم أيضاً تحويل الأصول بعيداً عن بعض القواعد التي يُرجّح أن تواجه هجمات من الصواريخ الإيرانية، ونحو قواعد خارج نطاق حلقات التهديد الأسوأ، مثل قاعدة موفق سلطي الجوية في الأردن، وقاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية، وقد يؤدي أيضاً وجود هذه الأصول إلى خلق توتّر مع الشركاء الإقليميين، الذين قد يرغبون في تجنّب أن يُنظر إليهم على أنهم طرف في أيّ هجوم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين