شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هل نعتقد أن الفقراء في مصر أقلّ وطنيةً؟

هل نعتقد أن الفقراء في مصر أقلّ وطنيةً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 22 ديسمبر 202111:11 ص

ذكّرني موقف نقيب الموسيقيين المصري، هاني شاكر، مع مغنّي المهرجانات، المتشنّج في الرفض لتلك الظاهرة على كونها لا تليق بعصر الرئيس عبد الفتاح السيسي، بنظرية اختبرتها خلال ثورة كانون الثاني/ يناير 2011، وتحديداً في أثناء الانفلات الأمني، حين كنّا نخشى من الغجر، وهم مجموعات بعاداتٍ مختلفة، عادةً ما يمتهنون التسوّل، أو الأعمال الهامشية، أو الخروج عن القانون.

تلك المجموعات التي تجاور منزلي في إحدى ضواحي منطقة الهرم، وتسكن في نطاقاتٍ قريبةٍ من بعضها البعض، وأحياناً تغطّي منازلها نصف شارع معيّن، اعتقدنا أنها مع سقوط المنظومة الأمنية، واتّساع أنباء الهجوم على المتاجر، ستقفز على منازلنا، وتُشهر في وجوهنا أسلحتها البيضاء التي تظهر سريعاً عند كلّ مشاجرةٍ، ويسلبوننا كلّ ما نملك.

هل كان القلق فعلاً طبقياً وعنصرياً؟ ربما.

هل كان القلق فعلاً طبقياً وعنصرياً؟ ربما. صحيح أننا نسكن النطاق ذاته، الذي يظلّ مهمّشاً على الخريطة، حيث المناطق الشعبية التي تختلط فيها العشوائية والتنظيم، لكن تظلّ التباينات الثقافية والطبقية موجودةً. نحن وغيرنا ننتمي إلى الطبقة الوسطى، أو حتى الدنيا، أما هم فيفترشون قاع الهرم المجتمعي، كما الأرصفة التي لا يبرحونها ليلاً أو نهاراً.

وعلى كلّ حال، بدأنا بأخذ الاحتياطات، وصدّ الأبواب، وإخفاء مقتنياتنا الثمينة، وتجهيز أيّ آلاتٍ نستطيع بها الدفاع عن أنفسنا، إذا ما وقع الهجوم. لكن المفاجأة كانت في أن مصدر قلقنا المتخيّل، كان صمام أمانٍ، فالغجر كانوا أول من دافع عن المنطقة، وانتظموا في اللجان الشعبية جنباً إلى جنب مع المتعلّمين والمثقفين والمتعجرفين، ولم نسمع عن حالة سرقةٍ واحدةٍ، أو مجرّد محاولة منهم للسطو على البيوت.

في المقابل، كنا نتداول ما يروونه لأشقائي وجيراننا، خلال جلسات اللجان الشعبية التي تحوّلت مع الوقت إلى محاكاةٍ للمقاهي، عن حصولهم على شاشةٍ، أو خلّاطٍ، أو مكنسةٍ، خلال عمليات السطو على "كارفور".

بالنسبة إليهم، كان الوطن المضطرب هو منطقتهم، وحيّهم السكني، فأدّوا واجبهم تجاهه على أكمل وجه، واكتشفنا أنهم ليسوا أقلّ وطنيةً منّا، على نحوٍ أو آخر.

لماذا أسوق ذلك الموقف الآن؟ ذكّرتني به كلمة وجّهها مغنّي المهرجانات، حمو بيكا، إلى نقيب الموسيقيين، قلبت المشهد في رأسي. قال بيكا: هل أنت مصري، ونحن غير مصريين؟ نحن عندنا ولاء لمصر أيضاً.

استطاع بيكا بردّه البسيط، كشف بُعدٍ آخر للأزمة الجارية، التي تتماسّ مع أزمات أخرى، سابقة، وتصبّ في النظرية ذاتها: "احتكار صكوك الوطنية"، و"الاعتقاد بأن الأفقر مجرّد جرثومة يجب أن نخفيها، وإلا وصمنا الوطن"، أو أن من يجب أن يتولى مهمة الحديث باسم الوطن، والتشنّج بشعارات الوطنية، هم "النخبة المثقّفة"، أو جماعات المصالح

استطاع بيكا بردّه البسيط، كشف بُعدٍ آخر للأزمة الجارية، التي تتماسّ مع أزمات أخرى، سابقة، وتصبّ في النظرية ذاتها: "احتكار صكوك الوطنية"، و"الاعتقاد بأن الأفقر مجرّد جرثومة يجب أن نخفيها، وإلا وصمنا الوطن"، أو أن من يجب أن يتولى مهمة الحديث باسم الوطن، والتشنّج بشعارات الوطنية، هم "النخبة المثقّفة"، أو جماعات المصالح.

الأزمة بحذافيرها، تكرّرت في فيلم "ريش"، حين انسحب الفنان شريف منير من قاعة عرض الفيلم في مهرجان الجونة، بعد وصلةٍ من الهجوم، بحجّة أنه عمل "غير وطني"، يضرّ بسمعة الوطن، ولا يليق بمصر.

كلّ من فيلم "ريش"، وأغاني المهرجانات، يصدران أو يتحدّثان عن الطبقات المهمشة؛ فقراء، وبلطجية، وأمّيين، وغجر، ورسالة مواجهتهم واحدة؛ هؤلاء سبّة يجب أن تُخفى، وهؤلاء في محاولتهم للظهور والتعبير عن أنفسهم بمفردات البيئة التي نشأوا فيها، وسياقاتها، يمارسون فعلاً غير وطني تجب مواجهته.

وكما صاح منير بالشعارات الوطنية خلال عرض الفيلم، استهلّ نقيب الموسيقيين مؤتمراً صحافياً نظّمه الأخير مع الممثل المعتزل، تامر عبد المنعم، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، بعبارات: "هذه الصحبة المستنيرة التي تخاف على مصر، وفنّ مصر، وولاد مصر، ومستقبل مصر الحبيبة الجميلة، محتاج أفضفض معاهم من فترة طويلة، الفن يُسحب من تحت أقدامنا، لم يعد هو الصورة الحلوة اللي كلنا بنحلم بها".

اللافت أن الدولة التي تمنع مغنّي المهرجانات، وفق قرار نقيب الموسيقيين، من الغناء، عدّلت قانوناً بموجبه يلتزم مغنّو المهرجانات، وغيرهم من المؤثّرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بدفع ضرائب، جرّاء ما يحققونه من أرباح على محتواهم.

صحيح أن شاكر لم يشكّك صراحةً في وطنية مغنّي المهرجانات، لكنه بالتضاد، ساق المعنى، ما دفع بيكا الذي يدّعي النقيب جهله، إلى الرد عليه بصفعة، بعدما أحسن قراءة الرسالة، ومفادها: لننحِ شعارات الوطنية جانباً.

قال بيكا لشاكر في بثّ عبر صفحته على تطبيق إنستغرام: "أنا مصري مش صيني، ولا تركي، ولا لبناني، وعندي ولاء لمصر". وتابع: "محتاج مسؤول يقعد معانا إحنا ما بنعملش حاجه مالكمش تمنعونا... مصر عمرها ما منعت حد، وهي مش بلدك لوحدك اللي خايف عليها... أنا مش جاي من بره، أنا بحمل جنسية مصرية... محسسنا إننا بيئة وملناش لازمة... أنا ليا صوت برضو".

وأزمة النقيب، أو منير، ليست أزمةً وطنيةً في الأساس، لكنها مشاجرة على المصالح، أو مواجهة لشعورٍ بالتهديد، كما فسّرها كثيرون، فالمغنّين غير المتعلّمين المنبثقين من مجتمعات مهمّشة في أغاني المهرجانات، وبالمثل دميانة، السيدة المصرية التي لا تحترف التمثيل، استطاعوا كظاهرةٍ متّسعة، التمدد واقتناص المساحات، وجني الأموال والجوائز والتقدير، فيما أصحاب المهن التقليديون لا ينالون سوى الفُتات.

لكن أيّاً من تلك الجبهات الراديكالية لا تستطيع الإفصاح صراحةً عن مشاعرها القلقة المضطربة على مصالحها، ولا يمكن أن تقدّم الأمر على حقيقته، بما يمثله من تهديد لنفوذها ومواقعها، فيتمّ حشر مصر والوطنية وإشهار صكوكها، لإغراق أنفسهم بها، وحجبها عن الآخرين.

وفي هذا السياق، نستطيع أن نفهم تكثيف النقيب من بداية الأزمة المفتعلة بالمناسبة، الحديث عن إنجازات الرئيس المصري، وكيف أن عصره لا يصحّ أن يتصدّره فنّياً "مثل هؤلاء". ومن قبله، تغنّى شريف منير بمبادرة "حياة كريمة" التي أطلقها الرئيس، للقضاء على العشوائيات، فيما يتناول فيلم "ريش" تلك الحياة الهامشية، عبر قصةٍ فانتازية لرجلٍ يتحول إلى فرخة، وتتصدّى زوجته لكل شيء.

أما سبب نعي الأزمة بالمفتعلة، فلأن إشعالها يأتي من جانب النقابة، التي تخرج بين كلّ فترة وأخرى، ببيانٍ يحمل أسماء بعض مغنّي المهرجانات الممنوعين من الغناء، على الرغم من أنهم لم يحتكّوا بغالبيتهم، بالنقابة، فلم يتقدّم من بين العشرات منهم بطلبٍ للحصول على عضوية النقابة، سوى ثلاثة، والغالبية يكتفون بالغناء عبر اليوتيوب، ويجنون منه أرباحاً كثيرة.

والمثير للسخرية، أن تامر عبد المنعم، الممثل المعتزل، عاد للظهور مع النقيب من فجوة الثورة، مؤدّياً الدور ذاته مع اختلاف السياقات، فقد كان عبد المنعم واحداً من أبرز مالكي صكوك الوطنية الزائفة في ثورة كانون الثاني/ يناير. وفيما كنت أنا ومن حولي نشكّك في وطنية "الغجر"، كان عبد المنعم عبر التلفاز يشكّك في وطنية كلّ من آمن بالثورة، ويصفهم بالمندسّين، والمخرّبين، والمموَّلين.

ووفق القانون، فإن كافة مغنّي المهرجانات، والفقراء، والمهمّشين، وحتى الخارجين عن القانون، وطنيون بالمعنى الأوّل للمصطلح، أي أنهم مواطنون معترَف بهم من قبل الدولة، ويتمتعون بما تتيحه لهم من حقوق، ويلتزمون بما عليهم من واجبات.

لكن ما يمارسه النقيب، وعبد المنعم، ومنير، وكل من ينحاز إلى السياق ذاته في إلباس معركة الذوق أو المصالح لباس الوطنية، وصورة الدولة، للحصول على تأييد السلطة، اعتناق لفكرٍ بدائي لذلك المفهوم حول "الجنسية أو الوطنية".

ربما كان في الحقوق الأساسية التي تصل إلى هؤلاء المهمّشين من الدولة، نقص أو قصور. ربما الحق في التعليم ليس الأفضل، أو الرعاية الصحية ليست على ما يرام، لكنهم في الغالب يلتزمون بواجباتهم، وينتظمون في القوّات المسلحة لتأدية الخدمة الوطنية، ويصوّتون في الانتخابات

ظهر أول تعريف لذلك المفهوم في العصر اليوناني، وكان يُقصد به هؤلاء الذين يملكون الحق في المشاركة في شؤون الدولة، ويُقصى منه "العبيد، والفلاحون، والمرأة، والأجانب"، فهؤلاء كانوا مجرد رعايا، حسب مقالٍ بعنوان "الوطنية والمشاركة"، على موقع المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان. ويوضح المقال نفسه أن ذلك المصطلح تغيّر الآن، وبات يعكس العلاقة القانونية بين الدولة والمواطن.

ربما كان في الحقوق الأساسية التي تصل إلى هؤلاء المهمّشين من الدولة، نقص أو قصور. ربما الحق في التعليم ليس الأفضل، أو الرعاية الصحية ليست على ما يرام، لكنهم في الغالب يلتزمون بواجباتهم، وينتظمون في القوّات المسلحة لتأدية الخدمة الوطنية، ويصوّتون في الانتخابات، حتى إذا كان ذلك طمعاً بصندوق أو بمبلغٍ مالي، أي أنهم يظلّون مواطنين كاملي الأهلية، وليسوا سبّةً أو وصمةً في ذاتهم، ولا يضرّ وجودهم الدولة، إلا بما ترتكبه بحقوقهم من تقصير.

واللافت أن الدولة التي تمنع مغنّي المهرجانات، وفق قرار نقيب الموسيقيين، من الغناء، عدّلت قانوناً بموجبه يلتزم مغنّو المهرجانات، وغيرهم من المؤثّرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بدفع ضرائب، جرّاء ما يحققونه من أرباح على محتواهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image