أثناء توصيله لي إلى المكان المتفق عليه، أخبرني كم يعاني من آلام مبرحة في القولون، مما دفع طبيبه لتوبيخه وتحذيره: "بتقتل نفسك بالبطيء"، إذ ثؤثر مضاعفات مرضه على كل شيء في حياته.
وسادته الخاصة به، يضعها أسفل بطنه وهو نائم كي يختلس من دفئها قليلاً من الراحة.
يلتزم بكل تعليمات الطبيب إلا الصوم، ويرفض شادي ونس (46 عاماً) سائق تاكسي، وتاجر ملابس بالقاهرة، التخلي عن نظامه الغذائي السيئ الذي أوصله لحالة بائسة لم تعد تفلح معها أدوية القولون، بل تزيده تعباً.
يلتزم شادي بكافة طقوس الصيام التي تقرها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية على المسيحيين، وتمثل ما يزيد عن ثلثي العام، أي نحو 200 يوماً، حتى وان كانت لا تتناسب مع صحته العامة.
تخضع أنظمة الصوم المسيحية إلى طرائق صارمة في الأكل، مثل الامتناع عن الأطعمة الحيوانية، ومشتقاتها من ألبان وبيض وأجبان، مع الاكتفاء طوال مدد الصيام بالطعام النباتي، باستثناء بعضها يسمح بوجود الأسماك.
أزمات صحية
أزمة شادي، وغير قليل من الأقباط في مصر، ليست الطعام النباتي، فاختيار النمط النباتي أصبح له مكانة، خاصة لدى المهتمين بالصحة العامة، وقد يكون صحياً إذا ما أُعد بطرق واعية، غير أن الثقافة المصرية بشكل عام لا تتعامل مع الأكل النباتي إلا من خلال طهي البقوليات والمقليات، وهي المتاحة في الشارع لمن يقضي معظم وقته بالعمل مثل شادي.
والنتيجة، يتناول الصائمون المسيحيون الفول والطعمية والبطاطس المقلية والباذنجان والعدس طيلة مدة الصيام، ومع هذه الأطباق تأتي الأزمات الصحية بالجملة.
يصوم الأقباط الكاثوليك في مصر "صوم الميلاد"، ويمتد حتى 43 يوماً، بدأ في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني، وينتهي فى 7 يناير/ كانون الثاني، أو في 24 ديسمبر/ كانون الأول بالنسبة للكنائس التي تتبع التقويم الغربي، ويسمح في هذا الصوم بتناول المأكولات البحرية والأسماك، بينما تمنع في أصوام أخرى.
يتناول الصائمون المسيحيون الفول والطعمية والبطاطس المقلية والباذنجان والعدس طيلة مدة الصيام، ومع هذه الأطباق تأتي الأزمات الصحية بالجملة
كان المسيحيون الأوائل يحتفلون بعيد القيامة أكثر من أي عيد لآخر، لذلك لم يبدأ الاحتفال بميلاد الرب قبل القرن الرابع الميلادي، لأن فكرة موت السيد المسيح وقيامته هي صلب المسيحية، واستقطبت كل شيء في حياة المسيحيين، ويلي عيد القيامة في الأهمية عيد العنصرة "حلول الروح القدس"، واتخذ الاحتفال بعيد الميلاد أهميته من مجيء المسيح ورمزية القصة، فالمسيح هو النور المتجسد وشمس الحياة وفق المسيحية.
لم تذكر القوانين القديمة شيئاً عن صوم الميلاد، ولكنها ذكرت الاحتفال بعيد الميلاد، ولأنه بدأ في القرن الرابع، كان لا بد من الاستعداد له بصوم اليوم السابق للعيد، ويقول المؤرخ بن سباع: "يجب أن يكون للعيد براموني "يوم الاستعداد" أي صوم يوم واحد من الصباح حتى المساء، إذ إن الصوم قديماً كان يوماً واحداً ولم يتطور إلى شكله الحالي إلا في القرن الحادي عشر، في عهد البطريرك خرستوذولس الـ 66، وجعله فرضاً على جميع أفراد الكنيسة".
ما قيمة الصوم أو الفروض الدينية إذا أوصلتنا للمرض؟ هل سيكون الرب راضياً عن هذا التعذيب الجسدي والنفسي، وإهدارنا للصحة والمال والوقت؟
ينفي كتاب "أصوامنا بين الماضي والحاضر.. أصولها الروحية وجذورها التاريخية" للقس كيرلس كيرلس من كنيسة مارجرجس بشبرا، وجود مصادر تشير إلى أن مدة الصوم 43 يوماً "ستة أسابيع" قبل الميلاد إلا عند غريغوريوس، الذي ذكر في كتاباته أن الصوم كان أيام الاثنين والأربعاء والجمعة فقط من كل أسبوع، وبدأ في فرنسا تغيير مدة الصوم إلى 6 أسابيع قبل عيد الميلاد، وتم ترتيبها في القرن السادس لتتشابه مع الصوم الكبير السابق للقيامة.
مع الأهمية الكبرى لعيد الميلاد لم ينفصل عن عيد الغطاس إلا بعد زمن القديس أثناسيوس بداية من روما، ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم إن "عيد الميلاد أخذناه من مسيحيي روما"، وكانت روما قديماً تحتفل بمجموعة من أعياد "الوثنية" أو الأديان القديمة مثل الساتورناليا، وسيجلاريا، وجوفيناليا، وروماليا.
وفي منتصف القرن الرابع عمد الأسقف يوليوس الأول إلى تحويل عيد الساتورناليا "الوثني" في الفترة ما بين 17- 23 ديسمبر/ كانون الأول إلى مسيحي.
ويروي فيترابل بيد، راهب إنجليزي ومؤرخ من القرن الحادي عشر بأن يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول كان عيداً قبل أن يعتنق الإنجليز المسيحية بأجيال، وكانوا يطلقون على ليلة هذا اليوم اسم ليلة "الأم" يرفعون فيها القرابين لآلهة الخير.
أما الأناشيد والتمثيليات الخاصة بالميلاد فقد بدأت من العصور الوسطى، في حين ترجع شجرة الميلاد وزينتها إلى أبعد من القرن السابع عشر.
"المهم الصوم"
الصيام بشكل عام في المسيحية يهدف إلى الترفع عن الارتباط الزائد بأي شيء، بما في ذلك الطعام الشهي، وينطبق ذلك على صوم الميلاد، سواءً كان يوماً كما بدأ أو 43 كما أصبح الآن.
الهدف إعلاء قيمة الإنسان على حساب الوصية: "السبت إِنّما جُعِل لأجل الإِنسان، لا الإنسان لأجل السبت"، عبارة جاءت على لسان المسيح حين لامه اليهود على كسره وصية تخصيص يوم السبت لله ،والامتناع عن أي عمل آخر، بعدما قام بشفاء يد رجل يابسة.
وكأن التشابه الذي يجمع مسيحيي اليوم بيهود الماضي هو رفض تحرير الإنسان من قيود الوصية، وتحويل الشريعة إلى أحكام شكلية، وفرض المزيد من الأكبال على حساب الراحة والرفاهية، بل وأحياناً يعاقب البعض أنفسهم إذا ما شعروا بهذه الرفاهية لبعض الوقت.
الأمر تجاوز مركزية الإنسان في الطقوس إلى عدم المبالاة بإلحاق الضرر، مثل سناء عبد السيد (60 عاماً)، والتي تعاني من جملة من الأمراض كالضغط والسكر والتهابات بالمعدة، تقول لرصيف22: "لا يهم ما يحصل لي، المهم أن أكمل الصوم".
سألتها: ما قيمة الصوم أو الفروض الدينية إذا ما أوصلتنا للمرض؟ هل سيكون الرب راضياً عن هذا التعذيب الجسدي والنفسي، وإهدارنا للصحة والمال والوقت؟
لم أحصل على إجابة حاسمة منها، كما هو حال كثيرين، يمارسون هذه الشعائر ويرتبطون بها، ربما دون التفكير بما يمكن أن تؤثره على حياتهم من نواحٍ مختلفة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون