شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"يا اللا نلوث بطننا"... في مديح ديدان المعدة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 26 أغسطس 202104:13 م

ما زال صاحبنا يتمتع بصحة جيدة، وبينما هو يتناول وجبة فلافل، شهية الرائحة، رخيصة الثمن، متلذذاً، رأى صديقه مريض القولون يعاني، ليست معاناة جسدية مع القولون فحسب، بل نفسية أيضاً، فهو لم يعد قادراً على تناول تلك الأكلة المفضلة لديه مثلما كان يفعل.

بالتزامن مع ذلك، يُعرض أمامه بث مباشر لمؤتمر طبي في مصر، يعلن أن نسبة الإصابة بمرض القولون في مصر 2% بما يوازي مليون و800 ألف مواطن، نتيجة انخفاض جودة الحياة، والطعام الرديء، بجانب عوامل أخرى مثل: القلق، والتوتر، وبعض العوامل الجينية.

يتجاهل صاحبنا المؤتمر وأرقامه، ويعود من عمله في اليوم التالي، قلقاً، مشغول البال براتبه الذي لن يكفيه لآخر الشهر بعدما سدد ديون الشهر الماضي، ومن أجل توفير القليل من المال، قرّر تناول الطعام الرخيص مثلما يفعل في كل مرة. طبق من الفول وآخر من الفلافل مع كوب ماء من الصنبور "الحنفية" مباشرة، وأحياناً طبق من الكشري الرخيص الثمن أو ساندويتشين من الكبدة، لا يتجاوز ثمنهما 5 جنيهات، الدولار الواحد يساوي 15.68 جنيهاً، من أحد المطاعم الرديئة، أو من عربات الأكل في الشارع.

يرى أمامه مجموعة من الأدوية الخاصة بالسيطرة على أعراض مرض القولون الخاصة بصديقه، لكنه حتى هذه اللحظة لم يفكر في إمكانية إصابته هو بالقولون، إذ يشعر أنه بخير وأن جسده يتحمل، وأن بإمكانه مواصلة تناول طعام الشارع الرخيص وتوفير المال.

لكنه كان مخطئاً، فجأة أصبح هو الآخر مريض قولون، وأجرى فحوصاً للتأكد، كان يشاهد حينها فيلم Red 2، حين علم نتيجة تشخيصه، أخذ يردد مع بطل الفيلم "لم أر هذه اللحظة قادمة أبداً".


"الجملي هو أملي"

في بلد يعيش معظم أفراده على أقل من دولارين في اليوم، تصبح معظم الخيارات الخاصة بالطعام سيئة ورديئة، وفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة الصادر في 2015، ففي مصر مفارقة غريبة، إذ يعاني مواطنوها من عبء مزدوج يتمثل في مزيج من السمنة وسوء التغذية معاً.

في حين يعاني 5% من سوء التغذية، يعاني 39.7% من السمنة، والعنصران سببهما الفقر.

قبل أن يُصاب صاحبنا مريض القولون بجرثومة المعدة، كان قد توجه إلى مطعم طلب منه بعض الساندويتشات، وأثناء إعداد العامل لساندويتش البيض، سقطت منه بيضة على الأرض فالتقطها ببساطة، ووضعها في الساندويتش مرة أخرى، وعندما اعترض مريض القولون، أجابه العامل: "يعني أرميها يعني ولا ايه؟!". لا، لا تلقها، ضعها في بطن الزبون، فهناك ديدان في بطنه بحاجة هي الأخرى إلى الطعام.

يقول له صديقه العائد من الغربة بحماسة: "يا اللا نلوث بطننا، الأكل في الغربة ما لوش طعم"، فيختاران مطاعم تحمل أسماء باتت مألوفة، مثل: "عبده تلوث" و"زيزو نتانة"

أخذ يفكر صاحبنا في العرق الذي يتساقط من العامل وزملائه أثناء إعدادهم للطعام، بالتأكيد بعض منه يسقط في الطعام، ثم استطرد تفكيره في عدة مواقف، مثل بائع البطاطا المشوية، الذي قصده صاحب القولون لشراء بعض البطاطا، فلم يجده بجانب عربته، وبينما يلتفت حوله وجده يتبول في الشارع، وبالتأكيد لا يوجد مكان يغسل فيه يديه، وهو ما يعني أنه يقضي حاجته، ومن ثم يعبث بالبطاطا بيده، توقف صاحبنا عن التفكير حتى لا يتخيل مشاعر يومية مقززة أخرى.

في الآونة الأخيرة، شنت أجهزة الأمن المصرية حملة للقبض على صاحب مطعم يدعى إبراهيم الطوخي، بمنطقة المطرية، أصبح مشهوراً لأنه يقوم بتتبيل الطعام تحت إبطه، ويبيع الساندويتش الممتلئ باللحوم بـ5 جنيهات فقط، ذاعت شهرته بين الزبائن بشعاره: "الجملي هو أملي"، والغريب أن الإقبال عليه كان مرتفعاً من المصريين، وتصدر "الترند".

حتى المطاعم التي يتهافت عليها الفنانون ولاعبو كرة القدم، يُضبط أصحابها بسبب بيعهم لحوماً فاسدة، مثل صاحب مطعم "البرنس" ناصر البرنس، الشهير في منطقة إمبابة بالقاهرة، والذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات.

الغريب أن الحكم لم يُنفذ، وما زال المطعم يعمل، وما زال الرواد يتهافتون عليه، لكن هذا لا يمر دون ثمن.

لم يعد يستسيغ الحياة

نتيجة الطعام الرديء، بجانب عوامل أخرى، صنفت مصر بلداً فيها أعلى معدلات الإصابة بالسكري في العالم بنسبة 16% من المصريين، ويموت 86 ألفاً كل عام بسببه، بحسب تقرير قرأته في موقع "فايس" بنسخته الإنجليزية، لكن ليست هذه المشكلة الوحيدة.

نجا صاحب القولون من السكري، لكنه لم ينج من مآسٍ أخرى.

فضلاً عن أنه أصيب بجرثومة المعدة، التي يعاني منها أكثر من نصف المصريين، بجانب الاضطرابات المعوية المستمرة واضطرابات الأعصاب نتيجة نقص الفيتامينات المهمة، لم يعد قادراً على تناول معظم الأطعمة بعد أن تحسنت قدرته على الاختيار، إما بسبب القولون أو لأنه لم يعد قادراً على تذوقها بشكل جيد، فبات يشعر بأن حاسة التذوق لديه لم تعد بخير، مثل تلك المرة التي جرب فيها تناول الكافيار فلم يستسغه مثلما كان يستسيغ ساندوتش الكبدة ولا المياه المعدنية مثلما استساغ مياه الصنبور.

والمفارقة أنه ما زال يشعر بألفة مع طعام الشارع أكثر من تلك الأطباق المزينة، الواثق بنظافتها، إنها أشبه بعملية تحول أو استحواذ للسيىء على حساب الجيد. عملية تدمير للذوق والحس الجمالي ربما.

لم يكن صاحب القولون يفهم من قبل سر تهافت صديقه المقيم بالخارج على طعام الشارع كلما نزل إلى مصر، كان يستقبله دوماً بتلك الجملة، "يلا نلوث بطننا، دا الأكل برة مالوش طعم".

ويبدو أصحاب المطاعم فهموا السر، فباتت هناك مطاعم تحمل أسماءً تدل على التلوث، لأنهم يعلمون أن الجميع سيقبل عليها، مثل مطعم "عبده تلوث" في الدقي ومدينة نصر أو "زيزو نتانة" في الجمالية.

الأجانب يعشقون الكشري

صديقي حسام ربيع، صحافي ومترجم مصري، زاره أصدقاء أجانب فبدوا حذرين للغاية عندما يتعلق الأمر بطعام الشارع المصري. سمعة هذا الطعام وصلت إليهم.

بينما يفضل بعضهم عربات الفول، وتحديداً ساندويتش الفول بالبيض، فهم يبتعدون تماماً عن مطاعم تبيع ما يعرف بـ "إكسسوارات اللحوم"، مثل: الكوارع، والفشة، والممبار، واللية.

يكرهونها ويتقززون منها لدرجة أنهم حتى لا يمروا من الشوارع التي توجد فيها تلك المطاعم، وخاصة محلات الكبدة، التي يرون أنها مجمع "الهرمونات" التي تُحقن للذبائح. فلا عجب فهي ممنوعة في دولهم أيضاً.

عرف صاحب القولون الآن لماذا "ساندوتشان" من الكبدة لا يتجاوز ثمنهم الـ5 جنيهات.

يمتلئ يوتيوب بفيديوهات لأجانب يتحدثون فيها عن أمور ينبغي أن يحذر منها من يريد زيارة مصر، معظمها يتعلق بشيئين: النصب والطعام السيىء.

لكن الأمر يختلف أحياناً بين الأجانب المقيمين لفترات طويلة في مصر والأجانب المقيمين لفترات قصيرة.

تقول ياسمين حجازي، منظمة معارض فنية: "المقيمون لفترات قصيرة لديهم فضول كبير لتجربة أكل الشارع المصري، ويأتي الكشري على عرش تلك المأكولات تليه ساندويتشات الفول وبابا غنوج".

وتضيف: "المقيمون مع الوقت يعرفون ما هو السيىء وما هو الجيد، لكن يظل الكشري هو وجبتهم المفضلة على أية حال".

أعراض تسمم

الدكتور أحمد حلمي، دكتور طب الأطفال في مستشفيات جامعة بنها، سألني: "من منا لم ينج من الديدان بسبب الأكل الملوث؟!".

مسببات الأمراض في طعام الشارع في مصر تتمثل في (بكتيريا وفيروسات وطفيليات وفطريات)، أشهرهم هي بكتيريا الملوية البوابية، المسببة لجرثومة المعدة، وهي في معدة 70% من المصريين، والأميبا المسببة لمرض الدوسنتاريا، والمعروف لدى العامة باسم الديدان، ولا يوجد في مصر من استطاع الإفلات منها، بحسب حلمي.

"قد تشعر أنك لست على ما يرام بعد أكل الشارع، هذا ليس نتيجة أن الأكل ثقيل كما تعتقد، بل هو أعراض تسمم"

"أشهر الأمراض لدى المصريين المرتبطة بالطعام، تتمثل في التهاب الكبد A، ومرض السكري، والتهابات الأعصاب، والتقزم والصفراء والإسهال المزمن، والذي تسببه السالمونيلا الموجودة في الفراخ والبيض، ومرض القولون الذي تسببه التقرحات والالتهابات بسبب البكتيريا والفيروسات، إضافة إلى الحكة، وصعوبة التنفس".

ويتابع حلمي لرصيف22: "قد تشعر أنك لست على ما يرام بعد أكل الشارع، هذا ليس نتيجة أن الأكل ثقيل كما تعتقد، بل هو أعراض تسمم تختلف حدتها من شخص إلى آخر، بعضهم قد يستدعي الأمر دخول المستشفى، أما البعض الآخر فيمر الأمر بسلام، والبعض يظل الأمر يتراكم عليه، حتى يتسبب في مرض أكثر حدة وخطورة، التهاب الكبد أ مثلاً".

الصين: "وجبة كاملة من الجراثيم"

الصينيون يشبهون المصريين في هذه النقطة، يواجه نظام الطعام الصيني مشكلة متزايدة بسبب الاستهلاك الكبير للزيوت والسكر والكربوهيدرات وعدم مراعاة أي اشتراطات صحية في المطاعم الرخيصة الثمن.

تقول صحافية أمريكية تعيش في بكين منذ 15 عاماً، نانسي غارث، إنه لا بد أن تُصاب بالتسمم الغذائي مرة واحدة على الأقل في السنة، وإن كنت تأخذ احتياطاتك، حتى أن المسؤولين الحكوميين لديهم مزارعهم الخاصة للتأكد من سلامة إمداداتهم الغذائية الشخصية.

يعتقد 92% من الصينيين أن خطر التسمم الغذائي هو أكبر خطر يواجهونه في بلدهم، و88% من الوفيات في الصين سببها أمراض منقولة عن طريق الطعام.

لا عجب أن معظم الأوبئة العالمية تخرج في الأصل من الصين.

أحمد السيد، مصري يتردد إلى الصين كثيراً، بحكم عمله كتاجر، في البداية شكل الصورة الذهنية عن الأطعمة الصينية من السينما، مجموعة من البشر يتغذون على الحشرات والكلاب والقطط، لكن الواقع غير ذلك.

نعم هم يتناولون تلك الوجبات لكن ليس في جميع المناطق.

السيد كان يتردد إلى مناطق الأغلبية فيها مسلمون في شينج يانج، وأطعمتهم "حلال"، لكن هناك تشابهاً بين شكل وتكوين طعام الشارع في مصر والصين، منظر الطعام المعلق على أبواب المطاعم، والأطعمة الغنية بالدهون المشبعة، وعدم مراعاة الاشتراطات الصحية تجعلك تعتقد أنك بصدد تناول وجبة كاملة من الجراثيم، وبينما يقول ذلك، يتذكر تلك المرة التي تعرض فيها لوعكة صحية بسبب وجبة طعام تناولها من الشارع، ومنذ ذلك الحين يقصد المطاعم النظيفة، حتى لو كانت غالية الثمن.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard