شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"الذين قتلوا مي"... كتاب جديد يكشف جريمة اغتيال أدبية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 19 ديسمبر 202111:00 ص

"ظلت تكتب وتبدع ثم ماتت وكأن شيئاً لم يكن. لقد عملوا جاهدين على اغتيالها عبر تغييبها في حياتها وبعد رحيلها، فسقطت مع سبق الترصد من قائمة رموز الإبداع".

في حياتها وضعها رجال الأدب والثقافة من معاصريها في موضع الملهمة. وبعد وفاتها حرصوا على أن تبقى في صورة الحسناء المثقفة، فسقط إبداعها من الحسبان، وبهذا قتل الرجال مي زيادة عدة مرات، كما يكشف المؤرخ الأدبي والناقد شعبان يوسف في كتابه الجديد "الذين قتلوا مي".

فى كتابه الصادر عن سلسلة "كتاب اليوم" يحذّر الناقد والشاعر شعبان يوسف مما تقود إليه السيطرة الذكورية على المشهد الأدبي والإبداعي العربي، إذ لا تزال تحاول عرقلة مسيرة إبداع المرأة العربية عبر سجن المبدعات العربيات في مساحات ترتبط بالفتنة والجسد، وتغييب القيمة الفنية لإبداعهن وعدم التعرض له بجدية، ما منع مبدعات عربيات كثيرات، منهن مي زيادة، من أن يحزن المكانة المفترضة، لما قدمنه من منجز ثقافي.

 تُسجَن المبدعات العربيات في مساحات ترتبط بالفتنة والجسد، وتغييب القيمة الفنية لإبداعهن، ما منع مبدعات عربيات كثيرات، منهن مي زيادة، من أن يحُزْن المكانة المُستَحَقّة، لما قدمنه من منجز ثقافي

تموت الكاتبات كمداً

ليست هذه المرة الأولى التي يحاول شعبان يوسف فتح هذا الملف الشائك. فقد سبق أن أصدر عام 2016 كتابه " لماذا تموت الكاتبات كمداً؟". وفى كلا الكتابين يلفت إلى التمييز الذي تواجه به النساء في الحقل الأدبي العربي، وبخاصة المشهد الأدبي في مصر، مشدداً على أن "فصول كتاب الظلم الفادح الذي تتعرض له المبدعة العربية، لمجرد كونها امرأة لم تطو بعد، رغم الزيادة الواضحة في أصوات المطالبين بحقوق المرأة والمنادين بحقها في المساواة بالرجل، وتحقيق ما يمكن وصفه بعدالة الفرص للمبدعين ذكوراً ونساء، دون الاستسلام لأية موروثات تاريخية يفترض أن نكون قد تجاوزناها".

لا يقدم شعبان يوسف في كتابه "الذين قتلوا مي" سيرة ذاتية لحياة مي زيادة، وإنما يغوص للكشف عن حلقات مسلسل التهميش والاستبعاد والإقصاء الذي تعرضت له كأديبة ومبدعة، على يد مبدعي جيلها. ويصل من خلال الأدلة الأدبية إلى أن مي زيادة تعرضت للاغتيال المعنوي "مع سبق الإصرار والترصد والتخطيط الفكري والثقافي"، وأن الباحثين الذين تطرقوا لحياتها وأعمالها، أصروا، كما رجال عصرها، على اختزالها في دور الأنثى الفاتنة، معشوقة الأدباء وملهمتهم، في حذف متعمد لحقيقة دورها ككاتبة ومبدعة. هكذا شارك الباحثون والنقاد في "تكريس التسلط الذكوري، وبخس الإبداع النسوي ما يستحقه. بل اعتباره كأنه لم يكن".

"مي زيادة لم تقتل كمبدعة بأيدي الجهات الرجعية أو المتطرفة التي تأخذ موقفاً عدائياً من المرأة، وتختزل كل أدوراها داخل جدران البيت والتشديد على أن جسدها ليس ملكاً لها، بل اغتالتها عقلية المثقف العربي الذكورية التي حاولت أن تجردها طوال حياتها وبعد سنوات من رحيلها من كل منجزاتها الثقافية والإبداعية، واعتبارها إمرأة حسناء مثقفة ليس غير، دون ذكر أي من مؤلفاتها" حسب ما أورد يوسف في كتابه.

يرصد شعبان يوسف في تحقيقه الجنائي/ الأدبي، أن زيادة لم تكن الضحية الأولى، كما أنها ليست الأخيرة في طابور المبدعات والمفكرات العربيات اللواتي اختزلن في أدوار محددة تنفي عنهن صفة الإبداع

 العقاد قاتل مي!

يرصد يوسف في تحقيقه الجنائي الأدبي أن زيادة لم تكن الضحية الأولى، كما أنها ليست الأخيرة في طابور المبدعات والمفكرات العربيات اللواتي اختزلن في أدوار محددة تنفي عنهن صفة الإبداع، "تجرعت من نفس الكأس أديبات وكاتبات مثل نبوية موسي وملك حفني ناصف ودرية شفيق وجليلة رضا". لكن مي نالها من التنكيل أكثر مما طال زميلاتها. وهنا يتطرق الكاتب إلى عباس محمود العقاد، الذي كان ضيفاً في صالون مي الثقافي، وله مراسلات في محبته لها. لكنه عندما أصدر كتابه "شعراء مصر وبيئاتهم" عام 1937، لم يذكر من شاعرات مصر كلهن إلا عائشة التيمورية. ويرجح يوسف أن يكون السبب في ذلك هو شهرة أسرتها في ذلك الوقت.

لكن اللافت أن العقاد نفى في كتابه إمكانية أن تكون المرأة شاعرة "حتى لو نالت قسطاً وافراً من التعليم"، فالمرأة بحسب رأيه "قد تحسن كتابة القصص أو الرقص الفني".

أخريات تعرضن للاغتيال

برغم أن شعبان خصّ مي زيادة بعنوان كتابه، تطرق لكاتبات ومفكرات أخريات تعرضن للاغتيال المعنوي على يد المثقفين العرب، فيخصص فصلاً كاملاً عن نوال السعداوي. ويعتبرها - إلى جانب مي زيادة- نموذجاً واضحاً للقهر الذي تعرضت له عدة بدعات عربيات في ظل "الرجعية التي تهيمن على العقل الثقافي الجمعي".

كسرت زيادة احتكار الرجال للنقد، وألقت في كتبها الضوء على إبداع شاعرات وأديبات تجاهلهن النقاد والكتاب من الرجال 

النقد النسوي

يقول شعبان يوسف لرصيف22: "اخترت أن أتطرق إلى التهميش الذي يواجه به الإبداع النسائي عبر تسليط الضوء على شخصية مي زيادة، فهى كاتبة كبيرة ورائدة وتمثل تجربة فريدة من نوعها، إذ أصدرت ثلاثة كتب بالغة الأهمية عن مبدعات عصرها عائشة التيمورية وملك حفني ناصف ووردة اليازجي، فحققت بذلك اختراقاً لهيمنة الرجال على مجال النقد الأدبي، ونجحت في إضافة ما يمكن وصفه بالبعد النسوي في النقد، والذي لم يكن موجوداً من قبل".

ويضيف: "تعرضت مي لظلم كبير من قبل الأدباء والكتّاب الذين همشوا إبداعها وإنتاجها الفكري المتميز وعاملوها بوصفها أمرأة جميلة صاحبة صالون أدبي، ولم يتناولوا أي كتاب لها بالنقد أو التحليل، وهو ما بخسها حقها".

ويتابع: "قدمت مي عطاءً متدفقاً، وربما يكون السبب فيما تعرضت له نظرة هؤلاء الأدباء الكبار لها كمنافسة لهم على المكانة الرفيعة التي كانوا يتمتعون بها".

ويرى يوسف أن المبدعات العربيات تعرضن عمداً للتهميش والاستبعاد، وأن تناول السيرة الأدبية لمي زيادة يكشف ذلك بوضوح.

سهير المصادفة: الإصرار على نسبة أي إبداع تكتبه النساء إلى جنسهن، يضع قيوداً أدبية ونقدية على عملية التلقي، ويحرم النساء من الاعتراف بهن كمبدعات كاملات الموهبة 

التهميش مستمر

"لقد ساد مبدأ ذكورية الثقافة في عالمنا العربى عقوداً طويلة وما زال صداه يتردد على أرض الواقع حتى اليوم. فوجود المرأة يأتي تالياً للرجل. ويكفى للتدليل على ذلك قراءة كتاب "زعماء الإصلاح في القرن العشرين" لأحمد أمين لنكتشف حجم الخلل. فالرجل لم يتناول ولو أمرأة واحدة رغم أن تاريخنا حافل برموز نسائية كبيرة لعبت دوراً محورياً"، طبقاً لما يراه شعبان يوسف.

يقول شعبان يوسف إن هناك تغيرات حدثت لا يمكن إنكارها بعد ذلك بفعل نضال المرأة والحركات النسوية وظهور أجيال جديدة تؤمن بدور أكبر للمبدعات في المجتمع. ويضيف: "لكن الحقيقة أن التطور يبدو في الشكل أكثر مما هو في المضمون، فإقصاء الإبداع النسوي ما زال قائماً حتى الساعة".

ويدلل على ذلك بالظلم الذي تتعرض له المرأة في الجوائز الثقافية، متسائلاً "هل يعقل أنه لا توجد مبدعة مصرية تستحق الفوز بجائزة الرواية، التي لم تحصل عليها امرأة من قبل؟ حتى سلوى بكر رغم إنتاجها الغزير منذ السبعينيات، لم تحصل على جائزة الدولة التقديرية إلا بعد أن تجاوز عمرها الـ72 عاماً، والسبب أن الشللية الذكورية ما زالت تحكم الكثير من الأمور. حتى عندما يسمح بفوز كاتبة معينة، لا بد أن تكون من المرضيات عنهن".

من هن المبدعات ؟

تقول الروائية الدكتورة سهير المصادفة لرصيف22: "تهميش المبدعات له جذور تاريخية عميقة. فلفترات طويلة ظل الرجل وحده يحتل مركز الصدارة في أحداث العالم أجمع. فهو الذي يتولى السلطة بمختلف أشكالها. وهو الذي يخوض الحروب والصرعات. وهو أيضاً الذي يكتب التاريخ".

وتضيف: "عالمياً ظلت مكانة المرأة مهدورة في سياق الحركة الإبداعية حتى جاءت فرجينيا وولف، وألقت حجراً في المياه الراكدة".

وتؤكد المصادفة أن تاريخ الإبداع النسائي العربي أقدم بكثير من مي زيادة، وتتابع: "من منا يمكن أن ينسى رثاء الخنساء؟ كانت هناك مبدعات عربيات كثيرات في مجال الشعر الذي كان ينسب للرجال في نهاية الأمر في ظل القيود المجتمعية التي ظلت ترزح المرأة تحتها فترات طويلة".

وتكمل: "أحسب أنني وغيري من مبدعات العصر الحالي وقود المعركة، وربما تنعم بالثمرة أجيال أخرى من المبدعات هن الآن بنات أو حفيدات. فحتى اليوم لا تعامل رواية المرأة على قدم المساواة مع روايات الرجال حيث ينظر لها دوما بوصفها رواية امرأة".

وبمرارة تقول: "دائماً أطرح السؤال دون أن أجد له رداً، هل يوجد اختلاف بين لوحة المفاتيح التي أكتب عليها وتلك التي يستخدمها الرجال؟ هل تتضمن المشاعر والأحاسيس الإنسانية قدراً ما من التباين؟ وحتى لو سلمنا بوجود تباينات في التكوينات الجسمانية والرؤى المختلفة، فإن هذا يجب أن يكون أمراً مرحباً به لأنه يساهم في إثراء بيئة الإبداع".

وتتابع الروائية الحاصلة على جائزة اتحاد الكتاب المصريين للرواية: "تعامل المرأة في المجال الإبداعي اليوم بطريقتين لا ثالثة لهما، فإما ينظر لها بوصفها محل رغبة تفتح لها الأبواب لجمالها لا لإبداعها أو تكون ذات موهبة إبداعية، وهذه ينظر إليها بوصفها خطراً محتملاً، ولا يسمح لها بالاقتراب من عروش الرجال، وربما يتم حصرها في خانة الكتابة النسوية كامرأة تخاطب نساء. وتكشف قوائم الجوائز الرسمية عن حجم الغبن الذي تتعرض له المرأة".

وتشدد المصادفة على ضرورة أن تعامل المرأة كمبدعة وتُقوّم نصوصها على قدم المساواة مع نصوص الرجال، وتضيف: "فلا توجد رواية نسوية أو رجالية، بل عمل روائي متكامل أبدعته امرأة أو رجل. فصاحبة الإضافة القوية يجب أن تحصل على المكانة التي تستحقها ولا ينبغي تقزيم جهدها لأنها امرأة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image