بعض القصص والقوالب الدرامية لا تنتهي مدّة صلاحيتها أبداً، ومنها بالتأكيد قصة روميو وجولييت التي كتبها شكسبير.
عندما اقتبس صنّاع المسرحية الغنائية الاستعراضية "قصة الحيّ الغربي" West Side Story، هذا القالب، عام 1957، وجعلوا قصة الحب المستحيلة هذه المرة، بين شابٍّ قوقازيٍّ أمريكي أبيض عضو في عصابةٍ من عرقه، وفتاةٍ لاتينيةٍ مهاجرةٍ من بورتو ريكو، ينتمي أخوها إلى العصابة العدوّة، كان النجاح ساحقاً.
هوليوود اقتنصت الفرصة سريعاً، وقدّمت عام 1961، فيلماً مقتبساً من المسرحية، بأغانيها وروحها الموسيقية نفسها، التي أبدع فيها الشاعر ستيفن سوندهايم، والموسيقار ليونارد برنشتاين.
مسار الفيلم الذي تشارك في إخراجه جيروم روبنز، مخرج المسرحية بخبراته الاستعراضية، مع روبرت وايز صاحب التاريخ السينمائي، كان أكثر نجاحاً، بعد أن احتلّ المركز الأول في شبّاك التذاكر سنة عرضه، واكتسح الأوسكار بعشر جوائز من ضمنها جائزة جائزة أفضل فيلم. وإلى اليوم، بعد 60 عاماً من عرضه، لا يزال في صدارة تفضيلات كثيرين من النقّاد والجمهور، كأفضل فيلمٍ موسيقيٍّ في التاريخ.
بفضل هذا النجاح المزدوج (سينما + مسرح)، ظلّت المسرحية، بأغانيها وموسيقاها، حيّةً وقيد التناول إلى اليوم، ليس على مسارح برودواي فحسب، لكن أيضاً في عروض الفرق المدرسية والجامعية.
وهذه كلها عوامل تنبئ بمكانةٍ لا داعي لمنافستها. ولهذا، عندما راجت أنباء عن نيّة المخرج الأمريكي الشهير، ستيفن سبيلبرغ، صناعة نسخة سينمائية جديدة، كان ردّ الفعل الملايين هو: هل نحتاج فعلاً إلى نسخةٍ جديدةٍ من هذه التحفة الكلاسيكية؟!
والإجابة التي يمكن قولها حالياً، بعد مشاهدة نسخة 2021: نعم... ولأسبابٍ عديدة.
تعالج نسخة سبيلبرغ، التي كتبها السيناريست توني كوشنر، وهو نفسه من كتب له سابقاً فيلمي ميونخ (2005)، ولنكولن (2012)، العديد من الثغرات والهفوات في نسخة الستينيات على المستوى الدرامي، ومنها مثلاً طريقة تقديم بطل القصة توني.
الفيلم الأصلي لم يبرر درامياً أبداً، لماذا يختلف سلوكه منذ البداية عن بقية عصابته، لكننا هنا نعرف أنه خارج لتوّه من تجربة سجنٍ مريرة، دفعته إلى مراجعة نفسه.
عندما راجت أنباء عن نيّة المخرج ستيفن سبيلبرغ، صناعة نسخة سينمائية جديدة من "قصة الحي الغربي"، كان ردّ الفعل الملايين هو: هل نحتاج فعلاً إلى نسخةٍ جديدةٍ من هذه التحفة الكلاسيكية؟ والإجابة التي يمكن قولها حالياً، بعد مشاهدة نسخة 2021: نعم... ولأسبابٍ عديدة
ينسجم هذا التناول الدرامي الأكثر دقّةً ومصداقيةً، مع فريق تمثيلٍ يتفوّق على طاقم الفيلم الأصلي في أغلب الشخصيات، وعلى رأسهم بطلة القصة ماريا، التي تلعب دورها هذه المرة الممثلة الجديدة راشيل زيغلر، خلفاً لنجمة هوليوود ناتالي وود في الفيلم الأصلي.
راشيل زيجلر وأنسيل ألجورت (ماريا وتوني في نسخة 2021)
الشيء نفسه يمكن قوله عن شخصية "إني بديز"، التي تلعب دورها إزرا ميناس، المشهورة كممثلة بإعلان انتمائها إلى النظام الجندري غير الثنائي (Non-Binary). ونلاحظ هنا دلالة اسم Anybodys التعبيرية باللغة الإنكليزية، لكونها رمزيةً لأيّ إنسان.
في الفيلم الأصلي، نراها كفتاة تتصرف كالصبية، وترغب في الانضمام إلى عصابة ذكور، يصعب عليهم تقبّل وجود فتاةٍ بينهم، أو الاعتراف بقدراتها.
وهي في 2021، الشخصية العابرة جنسياً، التي تعاني من الاضطهاد، ولا يتقبّلها أحد، لأنها كسرت تابوهاً يستحيل قبوله من بقية الشخصيات، خاصةً إذا وضعنا في الحسبان النطاق الزمني للأحداث، أي فترة الستينيات.
إني بديز في الفيلمين
تناول "إني بديز" كونها عابرةً جنسياً، منح الشخصية دوافع درامية أفضل، وعندما تصل أخيراً إلى لحظة انتزاع القبول والاعتراف بوجودها، وبهويتها الجنسية، ويُخبرها أحد المتنمّرين عليها سابقاً، بلهجة تقديرٍ واحترام: "أحسنت يا فتى"، وهي الجملة نفسها الموجودة في الفيلم الأصلي، يصبح مذاقها هنا أقوى درامياً، لأننا نعلم إلى أيّ مدى احتاجت "إني بديز" في نسخة 2021، إلى هذا التقدير والاحترام، وإلى أيّ مدى تُعبّر عن حال ملايين في مجتمع الميم-عين، في عالمٍ لا يتقبّل وجودهم/ نّ.
هذا التوسّع في التناول الدرامي في نسخة سبيلبرغ، امتداد لفلسفة المسرحية الأصلية، ورسالتها، كعملٍ ضد العنصرية والاضطهاد والتهميش، ضدّ أيّ شخصٍ أو جماعات، سواء لأسباب عرقية وطبقية كما في النصّ الأصلي، أو لأسباب أضافها الفيلم الجديد، مثل رهاب المثلية (احتقار المثليين/ ات، واضطهادهم/ ن، وثنائيي الجنس، والعابرين/ ات جنسياً).
تناول "إني بديز" كونها عابرةً جنسياً، منح الشخصية دوافع درامية أفضل، وعندما تصل أخيراً إلى لحظة انتزاع القبول والاعتراف بوجودها، وبهويتها الجنسية، ويُخبرها أحد المتنمّرين عليها سابقاً، بلهجة تقديرٍ واحترام: "أحسنت يا فتى"، يصبح مذاقها هنا أقوى درامياً
منهج سبيلبرغ إجمالاً في التعامل مع نسخة 1961، أشبه بمنهج مهندسٍ لا يرغب في إزالة المبنى الأصلي، واقتلاعه، واستبداله بآخر، أو في تغيير مظهره ورونقه، بقدر ما يحترمه ويقدّر طابعه الكلاسيكي، ويرغب في إضافة طوابق تجعله أروع فأروع، فحسب.
يتّضح هذا التقدير للأصل أكثر فأكثر، مع اختياره للممثلة ريتا مورينو، التي فازت بالأوسكار كأفضل ممثلةٍ مساعدةٍ عن دور "آنيتا" في الفيلم الأصلي، بدور جديد موفّق هنا، يناسب عمرها الحالي.
ريتا مورينو في الفيلمين
الطابع البصري
يمتدّ هذا النهج إلى الطابع البصري أيضاً، لأن فيلم 2021 يحتفظ بالاختيارات نفسها، وبتشكيلة الألوان الموجودة في الأصل، لكنه يمنحها حيويةً أكبر، وهي نقطة يستحقّ الشكر عليها أيضاً يانوش كامينسكي، مدير التصوير المعتمد لسبيلبرغ، بالإضافة إلى فريق تصميم الملابس والديكورات.
الألوان في الفيلمين
في الفيلم القديم، اكتفت الكاميرا، في أغلب الوقت، بحركةٍ بسيطةٍ، ولقطاتٍ واسعةٍ تتابع مجاميع الرقص، تاركةً اللعبة لمصممي الرقص والكوريغراف، لاستعراض مهاراتهم مع الراقصين. هنا، وبفضل سبيلبرغ، تضيف حركة الكاميرا باستمرارٍ ديناميكيةً وحيويةً أكبر إلى هذه المشاهد، وتصبح راقصاً مهماً يتفاعل مع الباقين.
العلاقة بالمكان بصرياً هنا، أقوى أيضاً، وروح خشبات المسرح، وديكوراته، التي صبغت الفيلم الأصلي في بعض المقاطع، وقد استبدلها هنا سبيلبرغ بروح شوارع وميادين أكثر مصداقيةً، ومقاطع تتفاعل فيها الشخصيات مع محيطها بشكلٍ أكثر قوة.
مشهد راقص من الفيلم
مشاهد العنف في الفيلم الأصلي نراها كاستعراضات راقصة فحسب، كما في المسرحية، من دون شعورٍ حقيقيٍّ بالخطورة، لكنها هنا أكثر عنفواناً، بفضل طابعٍ سينمائيٍّ أقرب إلى شجار شوارع حقيقي، وكاميرا لا تتردد في استعراض الدماء أحياناً، وخبرات سبيلبرغ الطويلة، كواحدٍ من أفضل مخرجي الأكشن.
وغالباً سيغازل الفيلم الجديد الأوسكار في الموسم القادم، بعشرة ترشيحات في المتوسط، في فروعٍ مثل: فيلم، وإخراج، وممثلة مساعدة/ ريتا مورينو، وممثلة مساعدة/ أريانا ديبوس، وتصوير، وصوت، وملابس، وتصميم إنتاج، ومونتاج، وماكياج، وسيناريو مقتبس.
مشهدان تحديداً سيصعب نسيانهما. في أولهما نتابع الجميلة أريانا ديبوس، وهي ترقص وتغنّي وسط الباقين، أغنية "أمريكا"، وهي واحدة من أشهر أغاني المسرحية، في مشهدٍ يذكّرنا بسحر الأفلام الميوزيكال، وكلاسيكياتها القديمة، عندما كانت وظيفة الرقصات استعراض الجماليات، وإضفاء أجواءٍ مرحةٍ ومبهجةٍ في الأساس.
أريانا ديبوس في مشهد راقص
وفي الثاني يبتكر سبيلبرغ حواراً بصريّاً، لا أصل له في نسخة 1961، نصفه راقص، ونصفه الآخر تشويقيّ وأكشن، نتابع فيه بطل الفيلم توني، وهو يحاول أن ينتزع من صديقه المُقرّب مسدساً، لأنه يعلم أن حمله سلاحاً، قد ينتهي بكارثةٍ خلال ساعات.
الطريقة التي يحافظ بها سبيلبرغ في هذا المشهد، على إيقاعٍ راقصٍ بصرياً، وموتّرٍ جداً في الوقت نفسه، تمنحنا فكرةً عما يمكن أن يحققه مخرج موهوب، في تطويع الرقص والموسيقى، لخدمة مقطعٍ يبدو نظرياً غير مطابقٍ للتطويع، في شكلٍ استعراضيٍّ، أو راقص.
شخصية المكان حاضرة بقوة
طلاء لامع للنسخة القديمة
هذان المشهدان يوجزان لماذا يستحقّ سبيلبرغ الشكر، على قراره بزيارة الأفلام الموسيقية للمرة الأولى في مسيرته كمخرج، بعد أن زار سابقاً أنواع الأفلام الأخرى كلها تقريباً؟ ولماذا كان اختياره لقصّة الحيّ الغربي في محلّه، كمحطة لهذه الزيارة؟
والمقارنة بين الفيلمين، لا تستدعي إعلان نسخة سبيلبرغ النسخة الأفضل فحسب، لكنها تحقق ما هو أكثر غرابةً وتفرّداً.
ما فعله سبيلبرغ بالأصل، أقرب إلى فنانٍ ينظر إلى سيّارةٍ قديمةٍ فخمةٍ بإعجاب، فيقرّر علاج عيوبها الهندسية المتوارثة من زمن تصميمها كلها، ويمنحها طلاءً لامعاً، ومحرّكاً أسرع، وقطع غيارٍ أجود، من دون أن يجعل النتيجة النهائية، تجعلك تتشكك ولو للحظةٍ، في الشكل والموديل والنوع.
سبيلبرج في المنتصف وسط نجوم الفيلم
أزمة إعادة إنتاج الأفلام الكلاسيكية العظيمة عادةً، كالآتي:
1- تُغيّر الكثير في الأصل، فتصبح التهمة: لماذا خنت الأصل؟
2- تحتفظ بالكثير من مواصفات الأصل، فتصبح التهمة: ولماذا صنعت فيلماً جديداً إذاً؟!
ما فعله سبيلبرغ بالأصل، أقرب إلى فنانٍ ينظر إلى سيّارةٍ قديمةٍ فخمةٍ بإعجاب، فيقرّر علاج عيوبها الهندسية ويمنحها طلاءً لامعاً.
ما حققه سبيلبرغ في قصة الحيّ الغربي، أنه صنع فيلماً يصعب اتّهامه بأيٍّ من التهمتَين السابقتَين، وهذا يكفي من وجهة نظري لاستحقاق الأوسكار مرةً ثالثةً، كأفضل مخرجٍ، بعد أن فاز بها مرَّتين سابقاً، في التسعينيات، عن فيلمَي قائمة شندلر، وإنقاذ الجندي ريان.
بقي أن أذكر أن "ويست سايد ستوري"، عُرض في دور العرض السينمائية في مصر، لكنه ممنوع في كلٍّ من السعودية والكويت والإمارات والكويت والبحرين وعمان وقطر، وأن الصحف الفنّية العالمية، أكدت أن سبب حظره يعود إلى تناول الفيلم لشخصيةٍ عابرةٍ جنسياً، وأن مقصّات الرقابة الخليجية طلبت حذفاً في هذا الشأن، وهو ما رفضته الجهات المنتِجة.
وكأن منطقتنا العربية السعيدة، قررت أن تشارك هي الأخرى في رسم صورةٍ أكبر وأكبر للفيلم، ليصبح عملاً يذكّرنا بأن رسالة القصة والمسرحية القديمة، واقعية، وتستحقّ فعلاً إعادة تناولها حتى اليوم، وأن المشكلة الأكبر في قضايا القبول والتسامح مع الآخر، قد لا تكون موجودةً في الحيّ الغربي، بقدر ما هي مستقرّة ومستديمة في حيّنا الشرقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...