شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كل شيء يتمحور حول الحرية

كل شيء يتمحور حول الحرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 19 ديسمبر 202111:59 ص


"كل شيء يتمحور حول الحرية". للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الجملة غير منطقية أو ربما بديهية للبعض، ولكن إذا حاولنا التعمق فيها قليلاً سنجد الكثير من المحتوى المبهر.

عادةً ما يتطلّب التعاون البشري التخلي عن القليل من الحرية لتحقيق مصلحة ما. رغم ذلك، من المهم أن نذكر أنّ التخلي عن بعض الحرية لا يجدر أن يحصل عن طريق القمع، بل عن طريق التوافق والقبول الطوعي بين الأفراد. مثلاً، نتقبل وجود مؤسسة الكهرباء للحصول على الطاقة دون ممارسة حريتنا في تمديد الأسلاك بأنفسنا أو في إنشاء محطات التوليد وإدارتها بشكل مباشر.

وهكذا الحال بالنسبة إلى كل المؤسسات. والمؤسسة Institution هي مجموعة من القواعد والقوانين والممارسات. فكما أن مؤسسة الماء أو الكهرباء اللتين تشملان بالفعل مجموعة من القوانين والأنظمة والممارسات المحددة لخدمة هدف محدد، فإن العادات والتقاليد البشرية مؤسسة، وقوانين السير مؤسسة. حتى السلوك المتعارف عليه ضمن العائلة الواحدة هو مؤسسة.

وجود المؤسسات يعني بشكل مباشر غياب جزء من الحرية. فقانون السير مثلاً يحدد الحد الأعلى لسرعة قيادة المركبة على الطرق، ويحدّ من حريتنا في تحديد سرعاتنا كما نريد. كثيرون يعتبرون ذلك إيجابياً، ولكن يوجد أيضاً كثيرون من الرافضين. ففي ألمانيا على سبيل المثال، هناك طرقات سريعة لا تتقيّد السيارات عليها بسرعات محددة، وموضوع إخضاعها لتدابير تحديد السرعات ما يزال نقاشاً محتدماً حتى اليوم.

"التدمير الخلاق"

على الرغم من أهمية وجود المؤسسات، إلا أنها قد تصبح مميتة ومصدراً للمعاناة. بعض المؤسسات مثلاً تعطي إشارات لأتباعها بأن عليهم زيارة مدّعي القوى الخارقة للعلاج من المرض بدلاً من زيارة المستشفيات والعيادات، وهناك مؤسسات تحثّ أتباعها على رفض اللقاحات رغم تأكيد الإحصاء عبر التاريخ لأهميته في حماية البشرية من الانقراض. ولا ننسى، هناك مؤسسات تتحول إلى أدوات قمع وترهيب عوضاً عن تحقيق المصالح التي قامت أساساً على أساس تحقيقها.

عبر التاريخ، كانت الحرية العامل الأهم في التطور والتنمية. ليست عاملاً كافياً لوحدها، لأنها تحتاج إلى مكملات أخرى، ولكنها عامل أساسي ومحوري.

في العلوم الاقتصادية، كان يُنظر إلى فكرة الابتكار Innovation على أنها عامل خارجي لا يمكن التنبؤ به ولا التأثير عليه بأي شكل. وبعد زمن، ظهرت أفكار اقتصادية ثورية نظرت إلى الابتكار على أنه المحرك الأساسي للتنمية وتحقيق الرفاهية وبدأ كثيرون من العلماء برحلة شاقة عملوا فيها على اكتشاف تفاصيل ظاهرة الابتكار وآليات عملها، وكتب كثر منهم عن تلك الظاهرة الملهمة التي غالباً ما تحمل معها الرفاه والسعادة للبشرية.

"كل شيء يتمحور حول الحرية". للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الجملة غير منطقية أو ربما بديهية للبعض، ولكن إذا حاولنا التعمق فيها قليلاً سنجد الكثير من المحتوى المبهر

فقد وضع الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر Joseph Schumpeter نظريةً اقتصادية يُطلق عليها اسم "التدمير الشومبيتيري" أو "التدمير الخلاق" Creative destruction، ومفادها أنّ تدمير القديم من خلال ظهور الأفضل هو عمل نبيل ومحوري في مسيرة النمو.

ولذكر مثالٍ على ذلك، يمكننا النظر إلى مُنتَجيْن مهمين في مسيرة البشرية الأول هو الآلة الكاتبة والثاني هو الكومبيوتر. عند ظهور الكومبيوتر، توقف البشر عن استخدام الآلة الكاتبة وتم تدميرها في ثقافاتنا وأصبح إدراكنا لها مختلفاً يرتبط بالقدم والتخلف عن ركب الحضارة، بعد أن كانت رمزاً للتقدم.

هنا في هذا المثال، لنقارن قليلاً بين المنتجيْن. الكومبيوتر يعطينا المزيد من الحرية والمرونة، فيمكننا الكتابة عليه وتصفح الإنترنت وسماع الموسيقى ومشاهدة الأفلام والقيام بعمليات رياضية والكثير الكثير.

الأذية المسموحة

المسيرة المنطقية للتكنولوجيا هي إشباع رغباتنا بشكل أفضل. والحرية هنا بمعناها الذاتي لكل فرد، فقد يعتقد البعض أنّ شخصاً يقضي يومه على وسائل التواصل الاجتماعي ما هو إلا عبدٌ لها، ولكن مثل هذا الحُكم مليء بالتناقضات. المفهوم الموضوعي الوحيد هنا أنّ كل فرد يمتلك حريته في تقرير ما يريد فعله دون التسبب بأذية موضوعية للآخرين بشكل غير قانوني.

أجل هناك أذيّة مسموحة قانونياً مثل الأذية التي سببها الحاسوب لمالكي معامل إنتاج الآلات الكاتبة.

قد يستغرب البعض أن يثق أحدهم بغوغل أكثر من ثقته بالكثير من الحكومات والدول. الاختلاف الجوهري بين غوغل والحكومات هو أنّ غوغل في ساحة معركة كبيرة مع شركات كثيرة تتنافس لتحصل على رضى المستهلك. أنا مثلاً، لن أشعر بالخوف في أي يوم عند بحثي عن محتوى معيّن على محرك بحث غوغل وذلك ببساطة لإمكانية استبداله بمحركات بحث أخرى عند شعوري بانحداره. بينما عند التعامل مع بعض الحكومات، لا نمتلك تلك الحرية. هل يمكنني القول حسناً لا أريد إصدار جواز سفري من هذه المؤسسة الحكومية فخدماتها سيئة ولذلك سأتجه إلى مؤسسة أخرى وأعطيها أموالي بدلاً من الأولى؟ في الحقيقة مجرد تخيل الفكرة مغرٍ جداً، ولكنها غير ممكنة.

وضع الاقتصادي النمساوي جوزيف شومبيتر نظريةً اقتصادية يُطلق عليها اسم "التدمير الشومبيتيري" أو "التدمير الخلاق"، ومفادها أنّ تدمير القديم من خلال ظهور الأفضل هو عمل نبيل ومحوري في مسيرة النمو

الحرية في الأسواق تبقي الشركة المنتجة لغوغل في رغبة دائمة لتطور نفسها وترضينا نحن المستهلكين، كي لا تتحول إلى شركة مشابهة لنوكيا تقع في مستنقع الانهيار بعد أن اعتقدت أنها ملِكةٌ متوّجة لا يمكن إزاحتها من على عرش الهواتف المحمولة.

لنعود إلى شومبيتر قليلاً. هناك فكرة مهمة جداً في نموذجه للنمو الاقتصادي وهي متغيّر يطلق عليه اسم "الوسط الاجتماعي والثقافي" Socio-cultural Milieu ويُقصد به درجة الود من قبل البيئة الثقافية والمجتمعية تجاه الاستثمار وريادة الأعمال، أي هل المجتمع والثقافة السائدة ودودة تجاه الحديث والمختلف أم أنها عنيفة مع المختلفين ضمن المجتمع، أي أولئك الذين يحملون أفكاراً حديثة قد تكون اختراعاً جديداً أو فكرةً فلسفيةً جديدة ينتج عنها نهجٌ جديد للسلوك فيؤدي إلى ظهور أسواق جديدة ومن خلال ذلك المزيد من النمو الاقتصادي والرفاهية للجميع؟ تبعاً لنموذج شومبيتر، كلما زاد هذا المتغير كلما ساهم إيجابياً في النمو الاقتصادي.

وعليه، نحتاج إلى عاملين مهمين، ليسا كافيان لوحدهما، ولكنهما أساسيان: الأول، حكومة منفتحة تقبل تدمير نفسها عند شعورها بأنها قديمة غير مناسبة للعصر فتفسح المجال أمام دماء جديدة تقود المركبة؛ وثانياً، مجتمع متقبل لحرية الأفراد في التفكير خارج السائد ويقابل الحداثة بحيادية فلا يرفضها قبل التمحيص في فوائدها بموضوعية، والأهم أن يؤسس منظومة لا يخاف الأفراد فيها من تبعات تفكيرهم خارج المألوف، كأن يتعرضوا للتهميش المجتمعي أو فقدان الحقوق المدنية لمجرد طرحهم أفكاراً جديدة خارجة عن المألوف.

والآن لنعيد ما ذكرناه في المقدمة. كل شيء يتمحور حول الحرية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard