شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"الطمع الجميل"... الإنسان يسعى إلى نجاحه الفردي وبذلك قد ينفع الآخرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 7 أبريل 202111:23 ص

نستخدم اللغة يومياً للتواصل وتبادل الأفكار أو لتناقل الأخبار سواء إنْ كانت حقيقية أو غير حقيقية. ولكن قليلاً ما ندرك أنّ ما نقوله يحمل معانيَ تمتدّ إلى أبعد من الكلمة بذاتها. فلكل كلمة عادةً معنيان، الأول لغوي محدَّد وثابت والثاني هو وعينا أو إدراكنا المبني على أفكار سابقة تختلف من فرد إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر.

مثلاً، إذا قلنا كلمة "راقصة". لغوياً هي تعني أنثى تمارس فعل الرقص فقط، لكن إدراك الأفراد للكلمة يمتد ليشمل معانيَ أكثر، ففي بعض المجتمعات ترتبط هذه الكلمة بمعانٍ تربط الرقص بالدعارة، وفي مجتمعات أخرى الراقصة ما هي إلا فنانة تقع في خانة مماثلة لعازفة بيانو أو مطربة أو رسّامة.

والآن بعد هذه المقدمة، لننتقل إلى صلب الموضوع. الطمع! الطمع الجميل.

مبدأ الدافع أو الحافز

ترتبط كلمة الطمع بمشاعر سلبية لدى الكثيرين، ولكن نادراً ما يتقبلون وضع أفكارهم تحت المجهر لمناقشة ما إنْ كانت متوارثة أو مكوّنة بالاعتماد على التفكير النقدي والحس الإحصائي.

ما الذي يدفعنا إلى الإنتاج الفردي؟ ما هو إلا ذاك الطمع الجميل، أو بكلماتٍ أخرى، رغبتنا في ملاحقة مساعينا الفردية لتحقيق نجاحات شخصية. وهنا، يجب التأكيد على أنّ ما أتحدث عنه يفترض السعي بالطرق السلمية بعيداً عن العنف وفي أجواءٍ من الحرية والتعامل الطوعي بين الأفراد.

روبرت فورد، الذي أحدثَ ثورةً في عالم صناعة السيارات من خلال تطوير آليات الإنتاج فخفّض الوقت اللازم لتجميع السيارة الواحدة من 12 ساعة إلى ساعة و33 دقيقة فقط، لم يكن يستمع لأوامر غيره ولم يكن هدفه المجموعة بل كان يلاحق طموحه بزيادة الإنتاج لتعظيم الأرباح. ونجاحه الفردي ذاك حقق النفع لكلّ البشرية. فبفضله، انخفضت أسعار السيارات وأصحبت متاحة للبشر بشكلٍ أكبر.

كما أنّه خفّض وقت عمل العمال في الشركة من تسع ساعات إلى ثماني ساعات. وبالرغم من ذلك، لم تنخفض أجور العمال بل على العكس تماماً، ضاعف فورد أجور العمال حتى أصبحوا قادرين على التوفير من أجورهم لشراء سيارة فورد موديل T.

يغيب عن أذهان الكثيرين مبدأ الدافع أو الحافز Incentive. فما الذي سيدفع أحدهم لأن يقرض ماله للآخر إنْ لم يحصل على فائدة؟ وما الذي قد يدفع عالِماً للدراسة لسنواتٍ طويلة إنْ كان سينتهي المطاف به بعملٍ مدخوله مثل مدخول مَن لم يدرس؟

نستنتج من ذلك أن إنكار الرغبات الفردية هو الخطوة الأولى نحو القضاء على الإنتاجية ومنع عجلة النمو والتطور من الدوران. اليوم، في بعض الدول التي تعاني من التضخم السريع Hyperinflation نرى الحكومات تتخذ إجراءات لا يمكن لعاقلٍ تقبلها وسأحاول شرح ذلك بشكلٍ مقتضب.

أكثر الإجراءات المتبعة من تلك الحكومات هي إصدار قروضٍ على اعتبار أنّ الأفراد سيستخدمونها في إنشاء مشاريع اقتصادية، فيتعزز الإنتاج ويزيد فتنخفض الأسعار وينتعش الاقتصاد. ويترافق ذلك مع زيادة الرواتب ما قد يؤدي إلى زيادة القوة الشرائية وزيادة الاستهلاك (الطلب على السلع) ما يعطي حافزاً أكبر للمنتجين ليزيدوا من إنتاجهم والذي بدوره يتطلب توظيف المزيد من العاملين أي خلق المزيد من فرص العمل والتوظيف.

هذه الفكرة مستمدة من الاقتصادي جون ماينارد كينز، ووردت في كتابه "النظرية العامة في التوظيف، الفائدة والمال". حسناً، يبدو ذلك مثيراً للاهتمام إلّا أننا هنا أمام وضع مختلف فنحن أمام تضخم سريع وانهيار متسارع في القوة الشرائية والمشكلة تكمن في غياب الاستقرار المالي الذي يشكل عائقاً أمام أية رغبة في الإنتاج.

القروض والدافع البشري

سأناقش فكرة القروض المطروحة من قبل تلك الحكومات ضمن إطار الدافع البشري، وبشكل مقتضب سأذكر السيناريوهات الممكنة للتصرف بالقرض. وفي افتراضي، أعتبر مسبقاً أنّ الإنسان عاقل يفكر بمصالحه ويبحث عن رزقه أي يبحث عن أفضل منفعة من ذلك القرض.

يدور العالم كله على الطمع وعلينا الاعتراف بذلك، فكل ما نتنعم به اليوم من إلكترونيات وتطور ووسائل راحة ما هو إلا حصيلة إنتاج أشخاصٍ بحثوا عن الربح والشهرة وفي المقابل أعطونا هذه الاختراعات والإبداعات

السيناريو الأول: ادّخار القرض في أحد البنوك والاستفادة من الفوائد السنوية المقدمة من قبل ذلك البنك.

في هذا السيناريو سيقوم الفرد بادّخار أموال القرض بعملة بلده (لصعوبة ادّخار الأموال بالعملات الأجنبية في البنوك المحلية والمخاطر التي قد تنتج عن ذلك). في ظل التضخم السريع Hyperinflation، تنخفض القوة الشرائية للأموال بشكل سريع، فإذا كانت نسبة التضخم السنوية 100%، هذا يعني أن مَن يملك مليوناً في البنك ستنخفض قيمته وقدرته الشرائية بعد سنة لتماثل 500 ألف اليوم.

الأموال في البلاد التي تعاني من التضخم السريع تشبه قرصاً من الثلج في طقس صيفي يذوب ويتآكل بسرعة ليفقد من حجمه شيئاً فشيئاً حتى يختفي. وبناءً على ذلك، يمكننا الجزم بأن هذا السيناريو الأول ذو خطورة عالية ولا فائدة استثمارية منه. وطبقاً لمفهوم الدافع البشري، يمكننا أن نتنبأ بابتعاد غالبية الأفراد عنه.

السيناريو الثاني: استثمار أموال القرض في مشاريع اقتصادية إنتاجية مثل معمل أو مطعم أو غيرها من الاستثمارات.

في هذا السيناريو، يبحث الفرد عن إنشاء مشروعٍ يعمل فيه ويجني منه أرباحاً أفضل من قيمة الفائدة التي سيعطيها البنك له في السيناريو الأول. ففي السيناريو الأول، لا يبذل الفرد أي جهد ويحصل على الفائدة دون أي عمل، ولكن إذا أدخلنا عامل العمل إلى المعادلة، بما يترتب عليه من وقت وجهد ومصاريف، يمكننا التيقن بمنطق بسيط من أن الفرد يبحث الآن عن أرباح أكبر من فوائد البنك وهي مكافأة العمل المبذول.

إنّ نسبة الربح تساوي 0% إذا كانت العائدات تغطي فقط التكاليف بما فيها التضخم، أي يحتاج الفرد إلى تأمين عائدات تساوي ضعف المبلغ المُستثمر ليضمن أنه يغطي فقط التضخم، وليتمكن من إعادة شراء البضاعة والمواد الأولية وهذا قبل أن نضيف إلى المعادلة تكاليف العمل الأخرى من فواتير ورواتب موظفين وموظفات. هل هذا المدخول ممكن تحقيقه في بلد يواجه مثل هذا التضخم؟ إذا نظرنا إلى متوسط العائد على الاستثمار ROI (أداة قياس تستخدم لتقييم كفاءة الاستثمار) لبعض أفضل القطاعات الاقتصادية في العالم، نرى أن قطاع التكنولوجيا في الربع الرابع من 2020 كان الأفضل من حيث العائدات بعائد وسطي 43.41% وبالتالي لا يوجد أي مشروع نعلم به اليوم يمكن أن يؤمّن هكذا عائدات خيالية تغطي التضخم الكبير والتكاليف الأخرى وتقدم الأرباح للفرد. إذاً، بالعودة إلى مفهوم الدافع البشري، يمكننا أيضاً القول إنّ لا أحد يرغب في أن يعمل ليخسر وبالتالي لا دافع بشري هنا للعمل أيضاً.

ما الذي سيدفع أحدهم لأن يقرض ماله للآخر إنْ لم يحصل على فائدة؟ وما الذي قد يدفع عالِماً للدراسة لسنواتٍ طويلة إنْ كان سينتهي المطاف به بعملٍ مدخوله مثل مدخول مَن لم يدرس؟

السيناريو الثالث: أن يقوم الشخص بشراء العملات الأجنبية من الأسواق السوداء (كونها غير متاحة في أسواق العملات بشكلٍ قانوني).

في هذا السيناريو، يقوم الفرد بسحب القرض وينفقه في شراء مبلغ ما من العملات الأجنبية وليكن الدولار على سبيل المثال. في هذه الحالة يضع أمواله في عملات تحتفظ بقيمتها وبالتالي يجنّب ماله التآكل بفعل ضعف عملة بلده وانخفاض قيمتها المستمر. في ظل الانهيار المالي المتسارع، يمكن لهذا الفرد بعد عام أن يعود ليصرف الدولارات بعملة بلده فيكون المبلغ قد تضاعف مرتين على الأقل فيسدد القرض كاملاً ويبقى معه مبلغ لا يمكنه تحقيقه في أيّ من السيناريوهين السابقين. لا يبذل الجهد ولا الوقت. فقط ينتظر ويحقق عائدات عالية.

في هذا السيناريو، سيرتفع الطلب على العملات الأجنبية في السوق السوداء لأنها، بالرغم من مخاطرها القانونية، الخيار الأمثل مادياً لمنفعة الفرد وذات الدافع الأكبر ضمن الاحتمالات المذكورة ولا بديل أفضل عنها. ولكن ارتفاع الطلب على هذه العملات الأجنبية سيؤدي إلى تسريع انخفاض قيمة العملة المحلية أكثر مما هي عليه فتعطي خطة القروض مفعولاً عكسياً لما قالت به حكومات عالم ديزني.

من ذلك يمكننا التيقن من أن تلك الحلول غير مجدية وأية حلول لا تنظر بنظرة موضوعية واقعية للدوافع الإنسانية لا يمكنها أن تحقق أي نجاح.

مفهوم الدوافع

لإيضاح مفهوم الدوافع، علينا أن نستعرض الرغبات البشرية بشكلٍ موضوعي. وهنا أودّ أن أعرض هرم ماسلو للحاجات البشرية فهو حتى اليوم من أهم النماذج المستخدمة في الاقتصاد لبناء خطواتٍ ممنهجة في التنمية.

أبراهام ماسلو هو عالم نفس أمريكي نشر ورقته "نظرية في الدافع البشري" A Theory of Human Motivation عام 1943 وتضمنت هرم ماسلو للحاجات البشرية.

قام ماسلو بتقسيم الحاجات البشرية بشكلٍ تراتبي متسلسل لا يمكن السعي إلى واحدة منها قبل تحقيق ما يسبقها، وهي مقسمة كالتالي من القاعدة باتجاه رأس الهرم:

1ـ الحاجات الفيزيولوجية (الجسدية) مثل الطعام، النوم، الجنس وغيرها؛

2ـ حاجات الأمان مثل أمان الجسد، الأمان الوظيفي، أمان الموارد وغيرها؛

3ـ حاجات الحب والانتماء (حاجات اجتماعية) مثل الصداقات والعائلة وغيرها؛

4ـ الحاجة للتقدير مثل احترام الآخرين وتلقي الاحترام من الآخرين، الإنجازات وغيرها؛

5ـ حاجات تأكيد الذات مثل الابتكار، حل المشاكل، تقبل الحقائق، غياب الآراء المسبقة وغيرها.

ومن هنا، يمكننا التيقن من أنّ على المؤسسات السير بخطوات مدروسة بتحديد المشاكل الأكبر في الهرم دون القفز عبر المراحل. لا يمكن لأحد الحديث عن التكنولوجيا والإبداع المعرفي والعلمي قبل تأمين الحاجات الأساسية من غذاء وأمان، ولا يمكن الحديث عن الإنتاج قبل تأمين الاستقرار المالي ليعطي دافعاً قوياً للإنتاج عوضاً عن المضاربة واللجوء إلى أساليب أخرى.

يدور العالم كله على الطمع وعلينا الاعتراف بذلك، فكل ما نتنعم به اليوم من إلكترونيات وتطور ووسائل راحة ما هو إلا حصيلة إنتاج أشخاصٍ بحثوا عن الربح والشهرة وفي المقابل أعطونا هذه الاختراعات والإبداعات.

وللتأكيد، سأكرر أنّه لا يمكن للطمع أن يحقق لنا التقدم المنشود والرفاه المرغوب دون أن يرتبط بالحرية والمنافسة في سوقٍ حر. فالطمع عليه أن يكون محركاً للإبداع، أن يحفّز الإنسان للبحث عن حلول اقتصادية حديثة، تلك التي تجذب الآخرين لها لتبنّيها وشرائها بشكلٍ طوعي.

نتحدث فقط عن الطمع الجميل. أما الطمع القبيح فهو الإنسان الذي يلاحق الثروة بشكلٍ مبني على العنف والإكراه فيسرق الآخرين ويقتلهم ويعنفهم ويفرض عليهم أن يشتروا منه بالتهديد والوعيد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard