هي جماعة سياسية عربية اعتنقت القومية حدّ التطرّف، وانتشرت أذرعها في عديد من البلدان، وبلغت من القوة درجة أصبحت معها صانعة للأحداث، نمت سريعاً وانزوت سريعاً، لكنها تركت أثراً لا يمحى في أرض الهلال الخصيب.
رغم الأثر الهائل والسريع لها خلال عقد امتدّ من منتصف الثلاثينيات وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك الجماعة ظلّت سرية واختفى خبرها عنّا لسنوات طويلة، فلا يكاد أحد يذكرها في ثنايا الكتب حتى ولو همساً، ولهذا تفسير منطقي سنبيّنه لاحقاً في تلك المقالة التي تقوم بفعل نادر، وهو ملاحقة شبح جماعة "الكتاب الأحمر".
ما قبل التأسيس
منذ عشرينيات القرن العشرين، شهدت الساحة السياسية اللبنانية تنافساً حادّاً بين مختلف التيارات السياسية، متأثرة بحالة الاستقطاب التي عاشها العالم خلال هذه الفترة، عقب بزوغ الحزب الشيوعي في روسيا، الحزب النازي في ألمانيا والحزب الفاشي في إيطاليا. بعض هذه الأحزاب ألقت بظلالها على العقلية السياسية العربية فظهر رديف لها وأكثر في عدد من البلدان، مثل الحزب الشيوعي اللبناني سنة 1930م والحزب السوري القومي سنة 1932م.
ولمّا كانت سلطات الانتداب الفرنسي تعارض كافة هذه الأنشطة السياسية وتعتبرها تهديداً لها، فمارست الأحزاب القومية عملها سرّاً، وهو ما انعكس لحظة تأسيس "الحركة العربية السرية" التي اختار مؤسسوها أن يبقوا خبرها تحت الرماد شأنهم شأن الآخرين.
أيضاً تأثرت تلك الجماعة السرية بباقي التنظيمات السرية العربية في تبنيها حلولاً متطرّفة لأزمات المنطقة العربية، كنتيجة مباشرة للاستقطابات الحادة التي عانت منها كافة البلاد العربية حينها، علاوة على سوء الأوضاع الاقتصادية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء وقبضة الاستعمار التي أطبقت على أنفاس الجميع.
جماعة "الكتاب الأحمر" هي جماعة سياسية عربية اعتنقت القومية حدّ التطرّف، وانتشرت أذرعها في عديدٍ من البلدان، وبلغت من القوة درجة أصبحت معها صانعة للأحداث، نمت سريعاً وانزوت سريعاً، لكنها تركت أثراً لا يمحى في أرض الهلال الخصيب
لكن "الجماعة السرية" تميزت عن غيرها في حرص مؤسسيها الأوائل على كتمان أمر حركتهم، حتى أنهم رفضوا وضع اسم محدد لها، لكنها لاحقاً بعدما شاع أمرها وانكشفت سيرتها عرفت بِاسم "جماعة الكتاب الأحمر"، اشتقاقاً من الدستور الداخلي للجماعة والذي حمل اسم "الكتاب الأحمر".
التأسيس
في عام 1935م في مدينة بيروت، تأسّست النواة الأولى لجماعة الكتاب الأحمر، والتي اعتبر مؤسسوها أن حركتهم ردَّ فعل على أحوال الحالة السياسية في العالم العربي من تفكك وانقسام، واعتبروا أن لزاماً عليهم حماية القومية العربية من التلاشي، عبر إطلاق جماعة سرية تنتشر في كافة الأصقاع العربية تشعل شرارات القومية في نفوس الناس من جديد.
وبموجب هذه النوايا الطيبة نزلت الحركة العربية السرية إلى ميدان العمل الوطني في لبنان.
أما عن هؤلاء المؤسسيين فيمكننا حصرهم في الدكتور قسطنطين زريق، أستاذ التاريخ العربي بالجامعة الأمريكية في بيروت، وكاظم الصلح وأخيه تقي الدين، عضوي البرلمان اللبناني آنذاك.
يحكي قسطنطين زريق في مذكراته (2017): "استقر رأينا على تأسيس حركة قومية تضمّ نفراً مختاراً من المفكرين والعاملين، لا يكون همهم الأول الانخراط في الركاب السياسية الراهنة، بل وضع الأسس لتنظيم قومي شامل على مفهوم صحيح للأهداف القومية".
وهو ذات المعنى الذي أكّد عليه الصحفي محمد علي حمادة، وأحد الأعضاء المؤسسين للجماعة، في حوار صحفي أكد فيه أن حركتهم بدأت بـ"مجموعة من الشباب لا يتجاوز عددهم العشرة، أخذت تعقد اللقاءات إلى أن اتفقت على تأسيس "الحركة العربية السرية عام 1935م".
من هؤلاء العشرة أفراد نعرف 9 منهم، هم: قسطنطين رزيق، كاظم الصلح، تقي الدين الصلح، فؤاد مفرج، رامز شوقي، عادل عسيران، أنيس الصغير، محمد علي حمادة.
رغم الأثر الهائل والسريع لجماعة الكتاب الأحمر خلال عقدٍ امتدّ من منتصف الثلاثينيات وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إلا أن تلك الجماعة ظلّت سرية وخفي خبرها عنّا لسنواتٍ طويلة، فلا يكاد أحدٌ يذكرها في ثنايا الكتب حتى ولو همساً
وفي وسط العام انتهت الحركة من وضع ميثاقها الخاص الذي أطلقت عليه اسم "الكتاب الأحمر"، وبعدها باشرت نشاطها في جو مليء بالسرية والكتمان.
فيما بعد، قال تقي الدين الصلح (2007)، إن تسمية "الكتاب الأحمر" لم تحمل هدفاً محدداً وإنما جاءت بالصدفة البحتة بعدما طبع غلاف الميثاق على ورق أحمر، فأطلقوا عليه "الكتاب الأحمر" بسبب مظهره الخارجي.
ماذا يقول الميثاق؟
تضمّن الكتاب الأحمر العديد من الخطوط العريضة لعقيدة الجماعة القومية، فهو ينصّ على العمل على تأسيس "دولة قومية عربية قومية متحضرة، قادرة على صون كيان العرب المادي والمعنوي، ورفع شأنهم والاستمرار في تأدية رسالتهم إلى الإنسانية والحضارة العالمية".
وأكّد ميثاق الجماعة على سعيه لتأسيس "دولة عربية قومية لا دولة دينية، ولا دخل للدين في الشؤون الدنيوية الخالصة كالإدارة والاحكام المدنية والعقوبات".
كما شدّد الكتاب الأحمر على ضرورة أن يتعرّف المواطن العربي على حقيقة ثقافته القومية، فـ"يعرف حقيقة نفسه كفرد، فيعتز بما عنده من خصال وفضائل ويجاهد لإصلاح ما لديه من عيوب تشيع بين العرب، مثل الفردية المانعة للتعاون وضعف الثقة بالنفس والإفراط في الاشتغال بالمسائل الروحية".
وتميّزت الجماعة عن كثير من الأحزاب العربية القومية الأخرى في أنها حملت أجندة عربية وحدوية، بعدما اعتبرت الكتاب الأحمر بأنه "دستورها القومي لمختلف البلدان العربية، ويمكن تطبيقه في كل بلد عربي".
في عام 1935م في مدينة بيروت، تأسّست النواة الأولى لجماعة الكتاب الأحمر، والتي اعتبر مؤسسوها أن حركتهم ردَّ فعل على أحوال الحالة السياسية في العالم العربي من تفكك وانقسام، واعتبروا أن لزاماً عليهم حماية القومية العربية من التلاشي
لذا لم تكتفِ الحركة العربية بفرعها المركزي في لبنان، وإنما سعت حثيثاً لنشر فروعها في العديد من الأقطار العربية الأخرى، التي انخرطت مباشرة في العملية السياسية لكل دولة.
كما اختلفت عن غيرها في أنها لم تسعَ لتجنيد الجماهير العريضة، وإنما تخصّصت فقط في استهداف النخبة من شباب العرب، وخاصة من خريجي الجامعات.
تشكيلة الحركة
يقول رجل الأعمال الفلسطيني مالك المصري في مذكراته عن فترة انضمامه للجماعة: "كانت كل خلية تتلقّى تعليماتها حصراً من رئيس الخلية، وكل من يفشي سراً من أسرار الخلية يعرّض نفسه لعقاب صارم قد يصل إلى حدِّ الموت... كنا نجتمع في خلايانا لنتدارس الكتاب الأحمر بمواده الستين، فقد كان هو الدستور المعتمد للحركة وقرآنها الذي يجب حفظه، وطلب منّا نشر مبادئنا القومية في الأوساط الطلابية فكنّا نتغلغل في تلك الأوساط".
كما يكشف لنا نقيب الصحفيين اللبناني الراحل زهير عسيران في كتابه زهير عسيران يتذكر (1998)، بعض جوانب طقوس الانضمام للجماعة، قائلاً: "وقفت أمام طاولة عليها (الكتاب الأحمر) وإلى جانبه مسدس وقرآن كريم وكذلك الإنجيل، وتلى قسماً محدّداً قال فيه: أقسم بالله وبشرفي وبأمتي العربية، وأقسم برجولتي وبمصيري وبإنسانيتي، وأقسم بذكرى أمواتي وشهدائي وبحياتي وبحياة كل عزيز حبيب إليّ، الآن وقد أصحبت ركناً في الحزب، أن أستمرّ خادماً نشيطاً مخلصاً لحزبي هذا وحده، وأن أتقيّد بقراراته وأنظمته وقوانينه، وأنفّذ ما يأمر وأمتنع عما ينهى".
وبعدها سيكون على العضو أن يثبت كفاءته وإخلاصه على مدى السنوات التالية ليتدرّج في المناصب داخل الجماعة، بدءاً من رتبة "متدرج" إلى رتبة "عون" وانتهاءً برتبة "ركن" التي تضعه في مصاف الكبار.
سرية... سرية... سرية
بحسب كتاب جماعة الكتاب الأحمر (1970) لعضو الجماعة شفيق جحا، فلقد اهتمت الحركة بنشر خلاياها السرية في البلدان العربية تدريجيًا، وحدّدت ألا يزيد عدد الخلية الواحدة عن 10 أفراد وألا يعلم أعضاء الخلية شيئًا عن باقي الخلايا. أيضًا حمل كوادر ألقابًا وهمية تبادلوا الحديث والخطابات بها حتى خلال الاجتماعات المباشرة، مثلاً حمل منير الريّس اسم "أسامة" و"خلوصي الخيري" اسم "مسعود وهكذا.
مؤسسو جماهة الكتاب الأحمر يمكن حصرهم في الدكتور قسطنطين زريق، أستاذ التاريخ العربي بالجامعة الأمريكية في بيروت، وكاظم الصلح وأخيه تقي الدين، عضوي البرلمان اللبناني آنذاك
ليس هذا وحسب، وإنما تعمّد قادة الحركة في كل رسائلهم أن يستخدموا شفرة لن يفهمها أحد سواهم حتى لو وقعت الرسالة في أيد غريبة.
ومن أطرف المواقف التي دلّت على حجم السرية التي عاشتها الجماعة، أنه بعيد نشوب الحرب العالمية الثانية، بقليل داهم رجال الأمن الفرنسيون منزل زهير عسران عضو الحركة لتفتيشه.
كان زهير قد استبق هذه الزيارة بحرق كافة الكتب والوثائق التي تثبت انتماءه لتلك الحركة، لكن المفاجأة أن رجال الأمن خلال تفتيشهم للمنزل عثروا على الكتاب الأحمر في غرفه أخيه حسن، ليكتشف زهير أن أخاه عضو في الجماعة منذ عامين دون أن يعرف أحدهما شيئاً عن الآخر، وفي النهاية اعتقل زهير بذنب أخيه وذنب جماعتهما التي أمعنت في سرية عضويتها.
وسعياً وراء السرية أيضاً اتبعت الجمعية سياسة مختلفة، فلم تنشئ مجلات أو كيانات رسمية تتحدّث باسمها، وإنما عمدت إلى اختراق كيانات مشهرة بالفعل، مثلما فعلت مع جمعية "العروة الوثقى" التي قامت في الجامعة الأمريكية في بيروت قبل تدشين الجماعة، وسيطرت جماعة "الكتاب الأحمر" على هيئتها العليا تماماً، كما فعلوا لاحقاً مع مؤسسات، مثل هيئة النادي العربي في دمشق، و"نادي المثني" في بغداد، وأصبحت هذه النوادي الأدبية الثلاثة مراكز رئيسية لنشر مبادئ الجمعية في الوطن العربي.
انتشار الحركة
بحسب شهادة شفيق جحا، عضو الحركة في كتابه "جماعة الكتاب الأحمر"، أنه منذ لحظة تأسيسها نجحت الحركة في نشر خلاياها في كافة أنحاء لبنان؛ في بيروت وطرابلس وصيدا والعديد من المدن والقرى.
ومع نهاية 1935م، باتت الحركة قادرة على التعبير عن آرائها عبر تنظيم مظاهرات حاشدة، مثلما روى عضو الحركة والدبلوماسي اللبناني يوسف شديد في مذكراته "بين السياسة والدبلوماسية"، بأنهم لما بلغهم نبأ منح المفوّض السامي حق استثمار التبغ في لبنان الجنوبي إلى شركة فرنسية، تلقوا أمراً من تقي الدين الصلح بتدبير مظاهرة يشارك فيها طلاب المدارس الثانوية في بيروت اعتراضاً على هذا الإجراء، ونجحوا في ذلك بالفعل.
كما بدأوا في تدريب أعضائهم على استعمال السلاح، مثلما فعلت العديد من الأحزاب الشامية الكبيرة وقتها، مثل: حزب الكتائب اللبنانية، الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي.
تضمّن الكتاب الأحمر العديد من الخطوط العريضة لعقيدة الجماعة القومية، فهو ينصّ على العمل على تأسيس "دولة قومية عربية قومية متحضرة، قادرة على صون كيان العرب المادي والمعنوي، ورفع شأنهم والاستمرار في تأدية رسالتهم إلى الإنسانية والحضارة العالمية"
علاوة على ذلك، بدأوا في تنفيذ ما عرف بـ"مشروع إنعاش القرى"، والذي تمثّل في تنظيم قوافل من كافة الكوادر المتخصصة من أعضاء الجمعية الأطباء والمهندسين والمعلمين وغيرهم ليقوموا بزيارات منتظمة لعدد من القرى اللبنانية، ليساعدوا أهلها قدر الإمكان ويقدّموا لهم نصائح تعينهم على تحسين حياتهم. وكذا اجتهد أعضاء الجمعية في تقديم خدمات مباشرة للأهالي، مثل توفير المياه النقية وإقامة فصول محو أمية لهم.
أما في سوريا، فقاد الحركة بها منير الريس وجبران شامية. حقّق الريّس نجاحاً لافتاً في نشر أفكار جماعته في أنحاء القطر السوري. يقول في مذكراته: "لم تمض الأشهر حتى أخذت الخلايا والحلقات تتألّف في دمشق وسائر المدن السورية. فانضم إلى الحركة شخصيات بارزة في اللاذقية وحمص وحماه وغيرها من مدن سوريا".
وكما ذكرنا سابقاً، فإن جماعة الكتاب الاحمر سيطرت على "النادي العربي في دمشق"، وكان أحد أهم المؤسسات الثقافية الوطنية في سوريا بأسرها، وكان للنادي تأثير كبير على النخبة السورية، لدرجة دفعت المترجم اللبناني عجاج نويهض إلى وصفه بأنه "زنبرك الحياة السياسية" في سوريا، وهو ما دفع الفرنسيون لاقتحام النادي واعتقال كل أعضائه فور قيام الحرب العالمية الثانية.
وبحسب مذكرات منير الريّس (1969)، فإن "جماعة الكتاب الأحمر" فكّرت في تدبير ثورة ضد الفرنسيين عام 1939م بدعم عراقي، وبالفعل جرت مفاوضات مع ألمانيا النازية لبحث شراء الأسلحة اللازمة لهذا الغرض، لكن خلافات جمعت بين الريّس وبين مفتي القدس أمين الحسيني، هزّت صورة العرب أمام الألمان، فقرّروا تأجيل الصفقة ثم إلغائها بالكلية بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
أيضاً، امتلكت الحركة فرعاً ناشطاً في فلسطين، تأسّس سنة 1937م، بقيادة واصف كمال وفريد السعد وخلوصي الخيري وعز الديان الشوا وأخوه رشاد الشوا، كما ظهر في العراق فرع الحركة برئاسة يونس السبعاوي وصديق شنشل وفائق السامرائي.
وفي صيف 1939م، كان العالم يعيش على شفا حفرة من نار بسبب احتدام المعارك بين دول الحلفاء ودول المحور، وشدّدت سلطات الانتداب الفرنسي من إجراءاتها، فقرّر المجلس الأعلى للجمعية الانعقاد بعيداً عن سوريا ولبنان ونقل مقر القيادة إلى العراق، وهو القرار الذي ساهم في إضعاف قوة الحركة كثيراً في لبنان.
المجلس الأعلى للحركة
استلزم هذا التوسّع القيام بعدد إجراءات للحفاظ على الكيان الإداري للحركة، فتقرر تأليف مجلسين؛ الأول مجلس قيادة عامة يمثّل فيها أعضاء من كل الأقطار العربية، يعقد اجتماعات دورية كل سنة أو كلما دعت الحاجة إلى ذلك.
هذا المجلس انبثق منه مجلس قيادة مصغّر عرف بِاسم "مجلس الأركان"، يتكوّن من عدد صغير من الأعضاء يجتمعون يومياً لمتابعة شؤون الحركة واتخاذ القرارات بشكل دوري، ترأّس هذا المجلس رئيس الحركة بطبيعة الحال بصحبة الأمين العام للحركة وأكثر الأعضاء ممن حازوا رتبة "ركن"، التي لا ينالها إلا أكثر الأعضاء إخلاصاً وقدماً.
اهتمت الحركة بنشر خلاياها السرية في البلدان العربية تدريجياً، وحدّدت ألا يزيد عدد الخلية الواحدة عن 10 أفراد، وألا يعلم أعضاء الخلية شيئاً عن باقي الخلايا
هؤلاء الأركان عوملوا وكأنهم وزراء في حكومة، وأنيط بكل واحد منهم عدد من الملفّات الشائكة في الوطن العربي، فشملت الحركة ركناً لـ"المالية" وآخر لـ"الدعاية" وثالث لـ"الداخلية" وهكذا.
داوَم على رئاسة مجلس الأركان قسطنطين رزيق من 1935 حتى 1939، وبعده كاظم الصلح من 1939 حتى 1940م ثم خلفه درويش المقدادي، لكنّه تنحّى خلال بضعة أشهر، وخلفه المحامي العراقي يونس السبعاوي بداية من 1940م واستمرَّ رئيساً حتى قبض عليه وأعدم، وكان ذلك إعلاناً بتفكك الحركة.
هذا الانتشار الهائل للحركة، والتنظيم المحكم لها في عدد هام من البلاد العربية، مكّنها من اللعب على عدد من الجبهات العربية في آن واحد، وأن تشارك في أحداث تاريخية كبرى.
ثورة فلسطين الكبرى (1936-1939)
فور نشوب الثورة الفلسطينية سنة 1936م، أسّس السوريون لجنة لدعم الثورة عرفت باسم "لجنة الدفاع عن فلسطين"، وبالرغم من أن تشكيل اللجنة ضمّ كافة أقطاب المجتمع السوري المهتمين بالقضية الفلسطينية، إلا أن جماعة الكتاب الأحمر كانت لها اليد العليا في كافة قراراتها وأنشطتها بفضل جهود عضو اللجنة وعضو الجماعة فؤاد خليل مفرج.
وعبر العواصم العربية الثلاث؛ بغداد ودمشق وعمان، تركزت استعدادات الحركة لنجدة ثورة فلسطين عبر تجنيد المتطوعين وتزويدهم بالمال والسلاح والذخائر ونقلها سراً إلى فلسطين عبر الحدود السورية الأردنية.
ومثل لبنان أيضاً، سعت الجماعة للتقرّب إلى المواطنين، عبر تقديم حزم متنوعة من الخدمات الاجتماعية كالرعاية الصحية وتوفير الأطعمة والمياه للمحرومين.
بعض أعضاء الحركة شغلوا مناصب رسمية استغلوها لتحقيق أهداف الحركة مثل عزالدين الشوا، القائم مقام بمنطقة جنين، والذي اشتهر بدفاعه المستميت عن الثورة ورجالها.
وكذلك منير الريّس، الذي استغلّ منصبه في شرطة دمشق لتخليص المناضلين المطلوبين وحمايتهم من ملاحقة أجهزة الأمن العام التابعة للانتدابين البريطاني في فلسطين والفرنسي في سوريا.
خليج إسكندرونة
حضرت الحركة رسمياً خلال اندلاع أزمة لواء إسكندرونة الذي استقطعته قوات الانتداب الفرنسي من سوريا وألحقه بتركيا، مثلت جماعة الكتاب الأحمر في الوفد السوري الرسمي الذي تابع إجراءات الاستفتاء الذي جرى في المنطقة لاستطلاع رأي أهله.
يحكي منير الريّس في مذكراته: "أوفدت الحكومة السورية نبيه العظمة ممثلاً لها في اللواء، فأرفقنا معه فؤاد مفرج وجمال الديب وهما من أقطاب الحركة العربية السرية". هؤلاء الرجال أشرفوا جميعاً على الاستفتاء الذي صوّت أغلبيته لصالح البقاء ضمن الحيازة السورية، رغم ذلك لم تعترف تركيا بنتائج هذا الاستفتاء، واقتحم الجيش التركي إسكندرونة وطرد ممثلي سوريا/ الحركة العربية منه بملابس النوم.
مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، نفّذت سلطات الانتداب إجراءات قمعية شديدة على الداخل السوري، وهو ما أقلق كافة جماعات القوميين العرب، ففضّلوا مغادرة سوريا ولبنان بعدما أصبح من العسير عليهم استكمال أنشطتهم الثورية.
هذه التطورات المقلقة دفعت قيادة جماعة الكتاب الأحمر إلى اتّخاذ قرار بنقلها إلى العراق، وهو ما جعل قادتها على موعد مع معركة جديدة ضد بريطانيا.
الحرب العراقية البريطانية
معوّلة على جهود عدد كبير من رجالها في العراق، مثل خلوصي خيري وواصف كمالا وغيرهم من "الحركيين" المهاجرين إلى العراق، أملت قيادة الحركة أن يهيئوا لها الأجواء الملائمة لاستكمال النضال السياسي.
سريعاً حقّقت الجماعة انتشاراً في المجتمع العراقي، حتى أنها بدأت في تكون خلايا عسكرية داخل الجيش العراقي، كما كوّنت ميليشيات عسكرية تابعة لها درّبت الشباب العراقي على استعمال السلاح الخفيف.
وكما فعلت سابقاً في "النادي العربي" في دمشق" سيطرت على إلى نادي "المثني" في بغداد، ليكون أغلبيته من أعضائها وحوّلته إلى بؤرة لنشر أفكارها بين الشباب المتحمّس.
وإزاء التعقيدات السياسية التي شهدها العراق، تحالفت الأقطاب القومية البارزة في كيان واحد، ضم رشيد عالي الكيلاني ومفتي القدس والعقداء الأربعة الذين كانوا يسيطرون على الجيش (العقيد صلاح الدين الصباغ، العقيد كامل شبيب، العقيد فهمي سعيد، والعقيد محمود سلمان)، فأطلقوا تنظيماً سياسياً جديداً اسمه "اللجنة السباعية" انتخبوا الحسيني أميناً لها. من أصل أعضاء اللجنة السبعة، كان 4 منها أعضاء في جماعة الكتاب الأحمر.
وبفضل الدعم السياسي القومي الذي تلقاه "العقداء الأربعة"، دبّروا انقلاباً أجبر رئيس الحكومة طه الهاشمي على الاستقالة، والوصي عبدالإله على الهرب من بغداد وبصحبته كافة السياسيين المؤيدين للإنجليز.
كنتيجة للانقلاب، تقرّر تشكيل حكومة رشيد الكيلاني التي كان نصفها من أعضاء الجماعة، وهي الحكومة التي لم تقبلها لندن أبداً، فأشعلت حرباً مع العراق لشهر كامل، أبدى فيها أعضاء "الجماعة السرية" جهوداً كبيرة في تنظيم أعمال المقاومة الشعبية، ولا عجب في ذلك، فكوادرها الرئيسية أعضاء في الحكومة المقاتلة، كما أن منهم أيضاً من شغل مناصب حكومية مؤثرة، مثل صديق شنشل، مدير الدعاية والأنباء والإذاعة، ودرويش المقدادي، مدير دار المعلمين العليا في بغداد.
ومن ميليشيات الحركة، انتقى قياديو جماعة الكتاب الأحمر أعداداً مقاتلة من الشباب، جرى زجّهم في الحرب ضد بريطانيا بعدما منحتهم اسم "كتائب الشباب"، بذل أعضاء هذه الكتائب جهوداً مضنية في قيادة الجهود العسكرية الشعبية في الدفاع عن العراق ضد الإنجليز.
رغم كل هذه الجهود، فشل العراقيون في الصمود، وفي منتصف 30 مايو/أيار 1941م، غادر أعضاء الحكومة وكبار المسؤولين العراقيين البلاد، وعلى رأسهم رشيد الكيلاني والعقداء الأربعة والمفتي أمين الحسيني.
عيّن الكيلاني قبل رحيله لجنة رباعية لإدارة البلاد ومحاولة التوصل لهدنة مع الإنجليز، شملت: أمين العاصمة أرشد العمري، ومدير الشرطة العام حسام الدين جمعة، والعميد الركن حميد نصرت ممثلاً عن الجيش، وخالد الزهاوي متصرف لواء بغداد.
فور تقّلدها زمام الأمور، سعت اللجنة الرباعية لكسب ود الإنجليز لحماية بغداد من مذابح الدماء، فأبعدت ما تبقّى من قيادات جماعة الكتاب الأحمر إلى خارج العراق، مثلما جرى مع يونس السبعاوي وصديق شنشل اللذين وضعا مكبّلين في سيارة قادتهما قسراً إلى إيران، وأيضاً أعلنت اللجنة حلّ "كتائب الشباب".
بعودة الإنجليز عادت عقارب الساعة إلى الوراء من جديد، فعاد الوصي على العرش الأمير عبدالإله إلى بغداد في 1 حزيران سنة 1941م ومعه فريق السياسيين المؤيدين لبريطانيا، وعلى رأسهم نوري السعيد وعلي جودت وغيرهم، أما "الجماعة" فبات وجودها في العراق من المحظورات.
احرقوا الكتاب الأحمر
عقب فشل الحركة في فلسطين وفي العراق، عانت من مصاعب جمّة وبات الانتماء إليها عبئاً ثقيلاً على أفرادها. عبء ازدادت جسامته عقب نشوب الحرب العالمية الثانية وما تبعها من فرض الأحكام العسكرية العرفية.
بادر أعضاء الحركة إلى التخلص من نسخ الكتاب الأحمر بالحرق والتمزيق، حتى لا يتعرّضوا للمتاعب على أيدي البريطانيين الذين دانت لهم السيطرة كاملة في المنطقة بعد انزواء الدور الألماني.
تحوّل أعضاء الحركة إلى مطاردين من قوى الأمن، يعيشون في السر، خوفاً من أن يلاقوا مصير قادة الحركة، يونس السبعاوي والعقداء الأربعة الذين شنقوا في مايو/أيار 1942م. امتنعوا عن الاجتماعات وعن ممارسة أي نشاط خوفاً من أعين رجال الأمن، وشيئاً فشيئاً تلاشت القوة التنظيمية للجماعة حتى غاب أثرها وضاعت أخبارها، أما الكتاب الأحمر فلم تنج منه إلا نسخ قليلة حافظ عليها أصحابها، أملاً أن ينصفهم التاريخ بعدما خذلهم الحاضر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 14 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 20 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com