شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
ثم يتساءلون لماذا لا ينجح العرب في ميدان الفن... عن صناعة الفنان التائب

ثم يتساءلون لماذا لا ينجح العرب في ميدان الفن... عن صناعة الفنان التائب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 22 يونيو 202111:24 ص

"أنا بريء أمام الله من الأعمال كلها التي عملت فيها. أسأل الله أن يغفر لنا جميعاً. وكل من حذف صورة من صوري المنشورة سأكون له من الشاكرين. شكراً والله ولي التوفيق إخوتي". تفهم، للوهلة الأولى، وأنت تقرأ نص هذه التدوينة، أن كاتبها اقترف ذنباً عظيماً، ثم تاب عنه. تتخيل أنه ربما كان تاجر مخدرات، أو ممثل أفلام إباحية، أو لصاً، أو ربما أجرم جرماً كبيراً لن تكفّر عنه إلا هذه التوبة العلنية. تتوجه بالدعاء إلى الله كي يتقبل توبته، ويهديه إلى الصراط المستقيم، قبل أن تكتشف أن صاحبها ليس إلا الممثل المغربي الصاعد هشام البسطاوي، ابن الفنان الراحل محمد البسطاوي، والفنانة سعاد النجار، والشقيق الأصغر للفنان أسامة البسطاوي. 

هذه "التوبة" عن ممارسة الفن ليست ظاهرة جديدة على الساحة الفنية العربية، والتبرؤ من الأعمال السابقة ليس حكراً على هذا الفنان المغربي. فقد سبق أن فاجأ المغني اللبناني فضل شاكر في نهاية عام 2012 جمهوره بإعلانه اعتزاله الفن، بسبب صراع ديني في داخله عاشه في السنوات التي سبقت إعلانه القرار، و"حزنه على الوضع العربي، وما تتعرض له الشعوب العربية، وخاصة الشعب السوري من مجازر تودي يومياً بمئات الضحايا من الأبرياء"، حسب ما صرح به للصحف حينها، قبل أن تُصدر المحكمة العسكرية الدائمة في لبنان في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2020، حكمين غيابيين في حقه، يقضي الأول بحبسه 15 عاماً بتهمة "التدخل في أعمال الإرهاب التي اقترفها إرهابيون، مع علمه بالأمر عن طريق تقديم خدمات لوجستية لهم"، والثاني بسجنه مدة سبعة أعوام، وتغريمه خمسة ملايين ليرة بجرم تمويل مجموعة أحمد الأسير المسلحة، والإنفاق عليها، وتأمين ثمن أسلحة وذخائر لها، وذلك بعد مدة قصيرة من عودته إلى الساحة الفنية، إثر تراجعه عن قرار الاعتزال.

أما ما يهمنا فعلياً، فهو الناحية الأخلاقية، والنفسية، وعقدة الإحساس بالذنب التي تزرعها المجتمعات العربية في نفوس مواطنيها، إلى درجة أن يشتغل الفنان طوال حياته في الميدان، وهو يحمل فوق كتفيه إثماً مزعوماً

القرار ذاته اتخذه مغني راب مغربي يدعى Nizzy-bee، داعياً جمهوره من الشباب إلى عدم استغلال قرار توبته، والعودة إلى سماع أغانيه، ومشاركة صوره، وقال: "أنا بريء منهم، بيني وبينهم الله". كذلك، كانت الفنانة شادية قد أعلنت هي الأخرى اعتزالها، وارتداءها الحجاب، عندما بلغت سن الخمسين. فحذت حذوها فنانات كثيرات من بينهن حنان ترك التي تحجبت، ثم اعتزلت بعدها بمدة من أجل التفرغ للعبادة، وحلا شيحا التي تحجبت ثم أعلنت أنها ستعمل كـ"داعية إسلامية" في مركز ديني، لتنشر بعدها صورتها بالنقاب معلنة التزامها باللباس الشرعي، قبل أن تخلعه وتعود إلى الفن مرة أخرى في السنوات الأخيرة.

هذه الحالات المذكورة جميعها، ما هي إلا غيض من فيض، فلا مجال لحصر عدد الفنانين والفنانات العرب الذين اتخذوا قرار "التوبة" عن الفن، والعودة إلى الله، متبرئين من كل ما سبق أن قدموه. وهذا ما يطرح السؤال حول الحالة النفسية، والصراع الداخلي الذي يعيشه هذا النوع من محترفي الفن، الذين يعدّون أن ما يقومون به خطيئة لا يمكن أن تمحى إلا بالتوبة. وكيف يتم ربط الفن الذي من المفترض أنه رسالة نبيلة، بالرذيلة، وضرورة التوبة عنها؟

من الناحية الدينية، لم يستطع الفقه بعد أن يحسم في التحريم المطلق، أو الإباحة، أو حتى الجواز بشروط، في موضوع الفن. وحتى أكثر الشيوخ تشدداً، ومنهم الشيخ محمد الفيزازي المغربي، سبق أن صرح في حوار مع جريدة المساء أنه ليس ضد الفن، ولكنه مع الفن الراقي، واعترف بولعه في شبابه بالفنان عبد الحليم حافظ. أي أن الشيخ رأى في مجمل حديثه أن الفن، ما دام راقياً لا ابتذال فيه، ولا إخلال بالحياء، جائز سواء عملاً أو استماعاً، خصوصاً وأنه لم ترد آية أو حديث صحيح يفيد بتحريم الغناء، باستثناء فتاوى بعض المغالين في الدين طبعاً. وفي حين وردت أحاديث تبيح الشعر، وكون الغناء في الأصل شعراً مصحوباً بالموسيقى، فهو مباح. كما أن الآية 17 من سورة النساء تقول بوضوح: "إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم، وكان الله عليما حكيما"، أي أنه من المشين، وغير المقبول، أن يمتهن المرء عملاً يعدّه حراماً، ثم يعتزله، ويتبرأ منه بعد أن يجني منه أموالاً طائلة. فإذا كان الفن حراماً، فإن المنطق والدين أيضاً، يقولان إن الأموال التي ترتبت عن ممارسته، واكتُسبت منه، حرام هي الأخرى، ويجب التخلص منها.

هذا التعريج على الناحية الدينية للموضوع ليس إلا للاستئناس فحسب، كون الفنانين الذين نتحدث عنهم هنا، هم من اعتزلوا بناءً على منطق التوبة، والحلال والحرام. أما ما يهمنا فعلياً، فهو الناحية الأخلاقية، والنفسية، وعقدة الإحساس بالذنب التي تزرعها المجتمعات العربية في نفوس مواطنيها، إلى درجة أن يشتغل الفنان طوال حياته في الميدان، وهو يحمل فوق كتفيه إثماً مزعوماً عما يفعله، ويتحين الفرصة للتكفير عنه.

اعتزال ميدان ما، أياً كانت طبيعته، هو حرية شخصية لا دخل لأحد فيها. لكن التوبة عن العمل فيه، هو حكم يصدره الشخص المعتزل في حق زملائه السابقين، ويعدّهم خطائين

اعتزال ميدان ما، أياً كانت طبيعته، هو حرية شخصية لا دخل لأحد فيها. لكن التوبة عن العمل فيه، هو حكم يصدره الشخص المعتزل في حق زملائه السابقين، ويعدّهم خطائين لا يزالون يمارسون الرذيلة، فيما هو، في المقابل، استطاع إنقاذ نفسه، واستدراك خطيئته. الأمر الطبيعي هو أن يعتزل الشخص إذا شاء، من دون أن يقرع الجرس للمنتمين إلى المجال، ولو عن غير قصد، أو الرأي العام الحساس أصلاً تجاه الدين. فالفنان، في الأساس، يعاني من مضايقات المتزمتين، وهجومهم المتكرر، ويشكل درعاً واقياً للمجتمع ضد المد الظلامي الذي نعيشه في العصر الحالي، عن طريق الأعمال التي يقدمها، والتي من المفترض أن تحمل في طياتها رسائل نبيلة تحقق التوازن.

لكن الخلط المفاهيمي بين قرار الاعتزال، والتوبة، يفسد هذا التوازن، ويزكي فكرة كون الفن رذيلة، والفنان خطاء، بدليل اعتراف زميله في المهنة. هنا تفسد مهمة التأطير، والتوجيه، التي يؤديها الفن، ويحولها في وعي المجتمع إلى مهمة إفساد وتضليل. بل يجعل المنزعجين من هذه الظاهرة يظهرون بمظهر المفسدين المحاربين للدين، والرافضين لصلاح المجتمع.

بالإضافة إلى أن ما حصل مع بعض الفنانين، مثل فضل شاكر، يوضح أن من يعتزلون أعمالهم تائبين، على عكس من يتخذون قرار الاعتزال لسبب آخر، ويكونون في الغالب ضحايا جهل ديني يستغله المتطرفون من أجل تضليلهم فكرياً، ولخدمة أجندتهم. وتساعدهم على ذلك المجتمعات العربية التي تضفي قدسية هائلة على كل ما يتعلق بالدين، وترفض انتقاد أي أفكار مرتبطة به حتى لو كانت مغلوطة، ومضرة به أكثر من النقد.

الخلاصة هي أن هذه المجتمعات تحترف غرس "الشيزوفرينيا" في مواطنيها، وتصنع لنا إنساناً متناقضاً مع ذاته، لا يؤدي أي فريضة، لكنه في المقابل مستعد للقتل من أجل دينه. ويحلم باستعادة أمجاد الدولة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يحلم بالهجرة إلى الدول "الكافرة". يمتهن الفن، ويعدّه خطيئة يجب التوبة عنها. ولا تكتفي المجتمعات بصناعة هذا النوع من المواطنين، بل تتعامل معهم بالإضافة إلى ذلك كأسوياء، وتعدّ انفصامهم مجرد "ضمير حي"، ثم تتساءل لاحقاً: لماذا لم ننجح في ميادين الفن، والثقافة، والعلم، وغيرها، مثل الدول الغربية.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image