شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
هذا مقال عن الخوف، كتبته وأنا خائفة

هذا مقال عن الخوف، كتبته وأنا خائفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الخميس 16 ديسمبر 202111:35 ص

كنت أفكّر في كتابة مقالٍ عن الخوف الذي أشعر به، وأنا في القاهرة؛ لكنّي كنت خائفةً. أشعر بالخوف دائماً على جسدي، ولا أستطيع النوم في البيت الذي أستأجرت منه غرفةً في القاهرة، لظروف الدراسة. هناك إحساس دائم بعدم الأمان، والخوف من الاغتصاب، أو الاعتداء، أو التحرّش. أخبر صديقاً بأنني أريد أن أجرّب، ولو مرةً واحدةً، أن أمشي بلا خوفٍ على جسدي، مثل الرجال، فيخبرني بأن الرجال لا يشعرون بالأمان التام كما أتخيّل.

أتذكّر حياتي في البلد الخليجي الذي هربت إليه من الخوف أيضاً، والذي تتضائل فيها نسبة الجرائم للغاية، حتى أن الناس يتركون أبواب بيوتهم مفتوحةً؛ لكني كنت خائفةً من الأعباء المادية، ومن الوحدة، ومن الترحيل، بسبب كتابة منشورٍ على فيسبوك. أخاف من الدخول في علاقة عاطفية كي لا أتعرّض لإساءةٍ نفسية أو جسدية، وأخاف من أن يقرأ أمن الجامعة أفكاري، ومن سائقين التاكسي، وأخاف من الكتابة على فيسبوك. أخاف من فقدان الأصدقاء، ومن عدم استطاعتي دفع ثمن جلسة الطبيب النفسي، وأخاف ممن يفشي أخباري، أو ممن يحوّل شكواي إلى منشورٍ مضحكٍ على فيسبوك.

هناك إحساس دائم بعدم الأمان، والخوف من الاغتصاب، أو الاعتداء، أو التحرّش. أخبر صديقاً بأنني أريد أن أجرّب، ولو مرةً واحدةً، أن أمشي بلا خوفٍ على جسدي، مثل الرجال، فيخبرني بأن الرجال لا يشعرون بالأمان التام كما أتخيّل

دخلت في عزلةٍ إجباريةٍ مثل الجميع، منذ آذار/ مارس 2020، بعد بدء جائحة كورونا، عندما كان الموت في كلّ مكان، وأصيب العالم كله بالخوف. لم نكن نعرف ما نحن مقبلون عليه، نرى الموت الجماعي، ونخاف من أن نقتل أحباءنا، ونحن لا نعرف. أُصِبت بالرعب من أن أصاب بفيروس كورونا، وأنقل العدوى إلى أمّي. انتهى الحجر، لكن الخوف لم ينتهِ. أصبت بمتلازمة الكهف، ولم أعد قادرةً على التواصل مع الأصدقاء. أفكّر في أني ربما أنا أبالغ قليلاً في الخوف، وأسأل الصديقات: هل تشعرون مثلي بعدم الأمان؟ يخبرني البعض بأنني لا أبالغ؛ إننا نشعر جميعاً بعدم الأمان.

أخاف من الاعتقال، وأخاف من أن أكتب أنني أخاف من الاعتقال. أنا مصابة بالكلاستروفوبيا (الخوف من الأماكن المغلقة)، فكيف سأمكث في السجن إذا تعرّضت للاعتقال؟ ماذا ستفعل أمي حينها؟ كان الجميع يتعجّبون من شجاعتي، وحماستي؛ كيف أصبحت اليوم أخاف من مجرّد الخروج من البيت؟ أتذكّر جملة صديقي الكاتب أحمد ناجي، الساخرة: "أنت كمصري أكيد هتتسجن في مرحلة من حياتك". أضغط على زرّ عدم المتابعة للأصدقاء الذين ينشرون أخباراً عن معتقلين؛ لم أعد أحتمل المزيد. لكن أفكّر لماذا قد أتعرّض للاعتقال؟ ليس لي أي نشاطٍ سياسيٍّ من أيّ نوع؟ لكن "الخاص أيضاً سياسي". لا أعرف، ولا أحد يعرف. هل أترك البلد، وأحاول البحث عن الأمان في بلدٍ آخر؟ أم أن عدم الأمان متغلغل في داخلي، ولن يتركني؟ لكن كيف سأبتعد عن أمي، ولمن أتركها؟ إذ تعاني أمي من الوحدة بعد وفاة أبي. وإلى أين سأذهب؟ وماذا سأعمل؟ هل سأصاب بالحنين إلى الوطن؟ هل سأتآلف مع المجتمع الجديد؟ أخاف من الاحتمالات كلها.

أنظر إلى الغرباء في الشوارع، وأعرف أننا بالتأكيد يجمعنا خوف مشترك.

شاهدت الفيلم القصير لا أنسى البحر، للمخرجة هالة القوصي، في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، في دورته الثالثة والأربعين، والذي يدور في مكانٍ مجهول حول سيدة الحكايات التي تقوم بدورها منحة البطراوي، وتحكي لشابٍ يقوم بدوره الممثل أحمد مالك، حكاياتٍ عن البحر، وتقول: "كان يا ما كان مش من زمان، ناس خايفة، من كتر الخوف خيالهم هرب"، وتحكي له عن البحر، الذي أصبح الناس يخافون من الذهاب إليه. أصاب الناس خوف جماعي، لأسبابٍ لا داعي لذكرها، وتحكي السيدة لكيلا تنسى، ولكيلا ننسى، لأن الخوف يقود إلى النسيان، ولا تملك السيدة سوى أن تحكي.

أمشي في شوارع وسط البلد في القاهرة، وأتذكّر أننا امتلكنا هذه الشوارع ذات يوم، أو هكذا كنّا نعتقد، وأتذكر وجه الطبيب الذي كنت أساعده في تضميد جراح المصابين في محمد محمود، ولا أعرف اسمه. أصبحت أخاف من القاهرة، المدينة المتوحشة.

أخاف من الاعتقال، وأخاف من أن أكتب أنني أخاف من الاعتقال. أنا مصابة بالكلاستروفوبيا (الخوف من الأماكن المغلقة)، فكيف سأمكث في السجن إذا تعرّضت للاعتقال؟ ماذا ستفعل أمي حينها؟ كان الجميع يتعجّبون من شجاعتي، وحماستي؛ كيف أصبحت اليوم أخاف من مجرّد الخروج من البيت؟

تربّيت في بيئةٍ ريفيةٍ، كانت شديدة الملل والرتابة، وكنت متمردةً، ولا تناسبني الحياة في بيئةٍ ريفيةٍ. كنت أنام وأحلم بالعيش في القاهرة، بدلاً من هذه القرية سيئة الخدمات، التي تنقطع فيها وسائل المواصلات بعد الساعة السادسة مساءً. كنت أخاف من أن أموت في هذه القرية، ولا أرى العالم الواسع. في فيلم "خرج ولم يعد"، للمخرج الراحل محمد خان، صوّر الخروج من الريف، كمحاكاةٍ لخروج آدم من الجنّة، وذهابه إلى القاهرة، حيث الزحام، وأزمة السكّان، وضيق العيش. كنت أودّ الخروج من الجنّة، وحياة الدعة، في القرية، إلى القاهرة المدينة التي لا تنام، وكنت أريد أن أعمل في الصحافة، وكان ذهابي إلى هناك هو الأمل بالنسبة إليّ، فهناك الفرص كلها...

مرّت السنوات، وذهبت إلى القاهرة هرباً من قصةٍ عاطفيةٍ فاشلة، وعشت بمفردي مدة ثلاث سنوات، وتعرّفت على مستوياتٍ عدّة للخوف. أكثر ما كنت أخافه، هو أن أنسى مفتاح شقّتي، وأمكث في الشارع. لم يكن لي أصدقاء عندما بدأت بالعيش هنا، وكنت شغوفةً بالتعرّف إلى أشخاص جدد. الآن، أصبحت أجاهد لكي أردّ على الهاتف. أصبحت أخشى التعرّف إلى أيّ أحد. لم أستطع التعوّد على إيقاع الحياة السريع في هذه المدينة المزدحمة، ولا على قذارة مطاعم الأكل. أنظر إلى الغرباء في الشوارع، وأعرف أننا بالتأكيد يجمعنا خوف مشترك، لكن ربما نرجع ذات يومٍ لنرى البحر.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard