تخيلي أنك ذهبت البارحة إلى الجامعة، وفي اليوم التالي طردكِ رجالٌ غرباء، لأنه لن يُسمح من اليوم للنساء بالتعلم. تخيلي أنك استيقظت كما في كلّ يوم، للذهاب إلى عملك، لكن تنظيماً متشدداً طردكِ، لأن النساء سيُمنعن من العمل في بلدك، تخيلي أنك كنت البارحة تمتلكين ثياباً ملونة، وبناطيل، وفساتين، وتنانير، واليوم تقفين أمام خزانتكِ عاجزةً عن ارتدائها مرة أخرى، وستكتفين بالبرقع، أو الحجاب؟ تخيلي أن هذا كله، حصل مع آلاف الفتيات والنساء الأفغانيات، بين ليلة وضحاها!
التطرف قريب جداً من حياتنا
خشينا، أنا وعدد من الصديقات، من تعرضنا لانتهاكات مشابهة لما حصل في أفغانستان، لا بل عانت بعض صديقاتي من الكآبة والقلق. قد يتساءل سائل ما الذي قد يخيف نساءً وفتيات، يعشن بعيداً عن طالبان، آلاف الكيلو مترات؟ نعم قد تكون طالبان بعيدة بالفعل، لكن التطرف أقرب مما يخيّل إلينا، وتنظيم الدولة داعش، ما زال ينتشر في البادية السورية، وعلى أطراف العديد من المدن والقرى، فلماذا تخاف الفتيات هنا؟ لأن التطرف، ومعاداة النساء، ليسا محصورين بمكان أو بزمان محددين، إنما فكر له اتباعه، ومن يغذيه، ويعمل على بناء عالم لا مكان لحرية المرأة فيه. التطرف قريب جداً من حياتنا، وقادر على تدميرها في أيّ لحظة.
رعب النساء من حولي، جاء بشكل أساسي، من عودة طالبان بشكل مفاجئ، بعيداً عن الأسباب السياسية، ومصالح أمريكا في المنطقة. اعتقدت الكثيرات من النساء، أن العالم تجاوز تطرف التنظيم، بطريقة أو بأخرى، لتتحقق أكبر مخاوفهن بين ليلة وضحاها، في أفغانستان، كأن التطرف مستعدٌ على الدوام للظهور، في أي وقت، محطِّماً حياة النساء، وأحلامهن. ألا تكفي هذه الفكرة لإثارة الرعب في نفوس النساء؟
إذاً، أحد الأسئلة الذي تطرحه الحالة الأفغانية: هل يكفي وصول النساء إلى أهدافهن، وحقوقهن، في التعليم والعمل؟ وهل يعني هذا أنهن حصلن على هذه الحقوق إلى الأبد؟ ما فعلته طالبان يؤكد أن التقدم الذي حصلت عليه النساء، قد يخسرنه بالفعل، في أي لحظة، وهذه الفكرة مرعبة في حد ذاتها، أي أن تحصلي على الحرية، وتخسريها بعد سنوات، بعد اعتيادك عليها بالفعل، وعدّها أمراً بديهياً، وكأن على النساء التفكير جدياً بالطريقة التي يتوجب عليهن فيها الحفاظ على مكاسبهن الصغيرة والكبيرة. فلو حصلن على حق التعليم، كيف يمكن الحفاظ عليه؟ ولو كان لهن حقّ الاختيار، ماذا سيفعلن غداً لو فقدنه؟ لا يكفي النساء النضال للحصول على حقوقهن، بل يجب أن يناضلن في كل يوم، للحفاظ عليها.
لماذا تخاف الفتيات هنا؟ لأن التطرف، ومعاداة النساء، ليسا محصورين بمكان أو بزمان محددين، إنما فكر له اتباعه، ومن يغذيه، ويعمل على بناء عالم لا مكان لحرية المرأة فيه. التطرف قريب جداً من حياتنا، وقادر على تدميرها في أيّ لحظة
رواية حكاية الجارية
تستطيع النساء تخيل عالم يسعى إلى السيطرة جنسياً على النساء، والاستعباد الجنسي واحدٌ من الأهداف الرئيسية لأي تنظيم متطرف، وله أشكال مختلفة، منها تزويج القاصرات، وإرغام النساء على الزواج، أو سبيهن، أو إزاحة النساء من الحياة العامة، وحصر أدوارهن في الزواج والتربية.
ولهذا السبب، ترافقني رواية حكاية الجارية "The handmaid's tale"، للكاتبة الكندية مارغريت آتود. منذ أن شاهدت المسلسل، ثم قرأت الكتاب، لاحقاً، لا أنفك عن تخيل عالم يجب أن أنقذ نفسي فيه، لأني امرأة فحسب. تروي آتود، مستقبلاً متخيلاً تقلصت فيه أعداد الولادات بشكل مقلق، وارتفعت نسب التلوث في العالم، ثم تتبدل الحياة في أمريكا عقب ثورة سياسية متطرفة.
استندت الجماعة في نموها، إلى انخفاض الولادات في العالم، بسبب سياسات تحديد النسل من جهة، وعمليات الإجهاض والتلوث الإشعاعي، لتوجِدَ نظاماً إنجابياً يقوم على تجنيد النساء قسراً (جاريات)، ومهمتهن إنجاب الأطفال، بعد دورات تدريبية يخضعن لها، في معسكرات أقل ما يقال عنها إنها مرعبة.
خشينا، أنا وعدد من الصديقات، من تعرضنا لانتهاكات مشابهة لما حصل في أفغانستان، لا بل عانت بعض صديقاتي من الكآبة والقلق
تؤسس الجماعة المتطرفة سياستها، على العهد القديم من الإنجيل، وتتّبعه بحرفيته، ويغدو اسم أمريكا "جلعاد". وسط عالم ديستوبي مرعب. تنقسم أمريكا إلى طبقات يقودها الزعماء والقادة الذين يسيطرون على كل شيء، وعلى الرغم من تعرض الرجال أيضاً، للكثير من الانتهاكات، لكن الضحايا الأُوَل هن النساء. يتصاعد نفوذ جلعاد شيئاً فشيئاً، مغيراً نواحي عديدة في حياة النساء بشكل أساسي، فيفقدن أبسط حقوقهن، كإمكانية الحصول على المال من حساباتهن المصرفية، وضرورة وجود وصيّ، وموافقته، وصولاً إلى تسريحهن من وظائفهن. هذه التغيرات كلها، ستقود إلى التغيير الأكبر، وسحق النساء تماماً، في النظام الديني البطريركي الجديد، وهي السياسة التي اتّبعتها جلعاد بالفعل، وخططت لها زمناً طويلاً، ليتم تدجين النساء شيئاً فشيئاً. ووسط عالم تُستخدم فيه شتى وسائل الترهيب، والقمع، والتطرف الديني، والسياسي، تنهزم كثيرات من النساء، ويتم اغتصاب الأَمَة، أو الجارية، في كل موعد للإباضة، من قبل القائد، بحضور زوجته، ضمن طقوس دينية، حتى يتم الحمل. تعيش الأَمَة، في منزل القائد، حتى تلد، ليؤخذ الطفل منها فور ولادته، ويمنح لزوجة القائد التي تتلقى التهاني من صديقاتها، وكأنها حقاً أنجبته للتو.
ما بين جلعاد المتخيلة وطالبان الحقيقية
عالم الرواية المتخيل، ممكن الحدوث في أي مكان، وفي أي زمان، ضمن قوالب وأفكار مختلفة، لكن جميعها تصب في استعباد النساء. حين شاهدت المسلسل، قالت لي إحدى صديقاتي: "المخيف أن هذه الأحداث قد تحصل في أي مكان حولنا". وحين دخلت طالبان إلى أفغانستان، وأمرت شخصية بارزة في التنظيم بتزويج الفتيات من الثانية عشرة حتى الـ45 عاماً، اتصلت بي صديقتي مرددة: "ألم أقل لكِ؟".
نقاط التشابه بين الرواية، وواقع طالبان اليوم، ليست مجرد صدفة، إنما هو دراسة دقيقة لآتود، حللت من خلالها الفكر المتطرف المعادي للنساء، والذي قد لا يختلف من مكان إلى آخر، أو حتى من زمان إلى آخر. في الرواية، تقوم جماعة جلعاد، وهو الاسم الجديد لأمريكا، بإحصائيات في المشافي والمراكز الصحية، تنظم من خلالها قائمة بأسماء النساء الأكثر خصوبة، أو اللواتي خضعن لعمليات إجهاض، لتلاحقهن، وتقبض عليهن، ليصبحن جاريات لقادة التنظيم. وعند وصول طالبان، تطلب من أئمة المساجد تزويدها بقائمة الفتيات، والأرامل، اللواتي فوق الثانية عشرة، وتحت الخامسة والأربعين من العمر، لتزويجهن بالإكراه من عناصر التنظيم.
في حكاية الجارية، تبدأ العديد من الدول، بتقبل جلعاد كدولة جديدة، لا بل وتتبادل العلاقات الدبلوماسية معها، بعد إثبات جلعاد قدرتها على زيادة عدد الولادات لديها، والتخفيف من التلوث، حين راحت تعتمد على نظام بيئي صحي، متجاهلين تماماً ما تتعرض له النساء من انتهاكات مرعبة. وكذلك الأمر مع طالبان التي أبدت الصين رغبة في إقامة علاقات معها.
تحاول طالبان اليوم تحسين صورتها القديمة، وخاصةً بسبب ترافق بسط نفوذها، مع موجة من السخط، والخوف، والقلق على مصير النساء الأفغانيات، وإعراب العديد من منظمات حقوق الإنسان عن مخاوف تتعلق بسلامتهن وحريتهن. وهذا تماماً ما حدث في الرواية، إذ سعت جلعاد لإيهام العالم أن الأمهات البديلات، أو الجاريات، راضيات عن حياتهن، لا بل هن من اخترن أن يكن جاريات، وهن راضيات بدورهن في الحياة.
حاولت طالبان بث الطمأنينة، مؤكدة أن المرأة ستحصل على حقوقها، وستعمل، وتتعلم، لكن ضمن حدود الشريعة الإسلامية. لكن هذا يدعو إلى القلق، خاصةً أن حدود الشريعة فضفاضة، وغير آمنة، وفيها تفاسير متعددة يمكن استخدامها بسهولة، ضد النساء وحريتهن
طالبان حين تُضحكها الديمقراطية
حاول تنظيم طالبان بث الطمأنينة، مؤكداً أن المرأة ستحصل على حقوقها، وستعمل، وتتعلم، لكن ضمن حدود الشريعة الإسلامية.
لكن هذا يدعو إلى القلق، خاصةً أن حدود الشريعة فضفاضة، وغير آمنة، وفيها تفاسير متعددة يمكن استخدامها بسهولة، ضد النساء وحريتهن، وأي مقارنة بين ما كان عليه التنظيم في التسعينيات من القرن الماضي، واليوم، مقلقة، خاصةً حين الاعتقاد بأن حصول النساء على بعض الحقوق، يعني تغييراً في تفكير طالبان، وسعيها إلى التعامل بطريقة مختلفة مع النساء، وحقوقهن.
لكن النساء الأفغانيات كن قد حصلن بالفعل على الكثير من حقوقهن الاجتماعية والسياسية، وما يحصل مع طالبان اليوم، انتكاسة مرعبة لإنجازات المرأة الأفغانية، التي ترتبط حقوقها بشكل أساسي، بالسياسة والمصالح الدولية، لتتحول إلى ورقة سياسية رابحة في يد طالبان، لا أكثر.
المسعى الأول للتنظيم اليوم، هو إثبات وجوده بإقامة علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى، والتي ظهرت بوادرها في اللقاء الصيني مع طالبان. ولو أرادت طالبان إثبات نفسها، ونيتها في بسط الحرية والديمقراطية، فهي مضطرة إلى الرضوخ للديمقراطية العالمية، بشكل أو بآخر، أو على الأقل إيهام المجتمع الدولي بأنها قادرة على ذلك. فخروج مذيعة من وسط كابول، سيمنح التنظيم صورة مشرقة، ويبيّض تاريخه المشؤوم مع الأفغانيين. لن تستطيع الصين إقامة هذه العلاقات، لو رفض المجتمع المحلي ذلك، بحجة تطرف التنظيم. لكن الصين تستطيع اليوم طمأنة شعبها، وتقديم دلائل ملموسة، وهي بضع مذيعات استمرين في عملهن الميداني، بين عناصر طالبان، وبيانٌ للتنظيم يسمح فيه للنساء بالعمل والتعلم.
إذاً لا يمكن اليوم القول عن قرارات طالبان إنها مكاسب للمرأة الأفغانية، لأن المرأة الأفغانية كانت قد تجاوزت العديد من المراحل التي ما زال التنظيم يمنعها. أي أنها كانت لديها مكاسب مسبقة. إذاً ما يعلنه التنظيم هو خسارة للنساء، وليس مكاسب.
يكفي استذكار الفيديو الذي ظهر فيه أحد عناصر التنظيم، في مقابلة، وحين أصرت المذيعة على تساؤلها حول هل حصول المرأة على حقوقها، يعني أنها ستتمكن من التصويت بكل ديمقراطية؟ ليضحك العنصر، ويطلب إيقاف التصوير. طريقة سخرية العنصر تختصر فكر التنظيم، فهو يستهجن السؤال، ويحاول اللف والدوران حوله، ليبدو التنظيم منفتحاً. لكن، وحين تصر المذيعة على إجابة واضحة، لا يستطيع كبت ضحكته الساخرة من مجرد الفكرة. إذاً، كيف يمكن أن يكون الأمر على أرض الواقع؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...