شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
دفاتر مايا... نبش في الذاكرة للتصالح مع آلام الماضي

دفاتر مايا... نبش في الذاكرة للتصالح مع آلام الماضي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الجمعة 17 ديسمبر 202111:00 ص

الحياة تحت سقف واحد لا تعنى بالضرورة أننا نعرف الأشخاص الذين نعيش معهم أو على دراية بكل جوانب شخصياتهم، حتى لو كانوا أباءنا وأمهاتنا، ومع تطور الزمن وتأثيرات التكنولوجيات الحديثة على المجتمع، يزداد حجم الفجوة الجيلية بين الشباب والآباء والأجداد يوماً بعد يوم، حيث يعيش كل جيل في عالمه ويرفض التنازل عن قناعته الخاصة.

أجيال ضد الأجيال

عرّف عالم الاجتماع المجري الألماني كارل مانهايم مفهوم الجيل بأنه مجموعة من الأفراد ذوي الأعمار المتشابهة، شهدوا حدثاً تاريخياً جديرا بالملاحظة في غضون فترة زمنية معينة، وفى فيلم جوانا حاجى توما وخليل جريج "دفاتر مايا Memory box "، نعيش قصة إنسانية تدخل بنا إلى عالم ثلاثة أجيال مختلفة، من خلال جدة وأم وابنة فقدوا القدرة على التواصل دون أن يدركوا الاسباب التي تلعب تجاربهم وأسرار حياتهم دوراً كبيراً فيها.

لقطات من فيلم "دفاتر مايا"

يعيدنا الفيلم لذكريات الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، دون أن نرى الحرب نفسها، في محاولة لرصد تأثيرها الاجتماعي والنفسي على من عاصروها واضطروا للتعايش مع ما فعلته بهم لما تبقى من حياتهم، وحتى بعد أن تركوا الوطن خلفهم وأسسوا حياة جديدة في بلد غريب.

في فيلم جوانا حاجي توما وخليل جريج "دفاتر مايا Memory box "، نعيش قصة إنسانية تدخل بنا إلى عالم ثلاثة أجيال مختلفة، من خلال جدة وأم وابنة فقدوا القدرة على التواصل دون أن يدركوا الاسباب التي تلعب تجاربهم وأسرار حياتهم دوراً كبيراً فيها

ألكس ابنة جيل زد، مواليد الألفية الجديدة، ولدت ونشأت بمدينة مونتريال الكندية، لم تطأ قدماها يوماً أرض لبنان ولا تعرف شيئاً عن تاريخ أمها وجدتها في بيروت، فما بالك بالحرب الأهلية وما تركته من أثر.

حياتها مرتبطة بعالم التكنولوجيا والإنترنت الذى نشأت في ظلاله، تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للترفيه، وتجتذبها الصور والفيديوهات أكثر من المعلومات، وتشارك أصدقاءها تفاصيل حياتها برسائل الشات، وتلجأ إليها في كثير من الأحيان للشكوى من عزلتها وغياب اللغة المشتركة بينها وبين أمها الغائبة باستمرار، بسبب أو بدون سبب.

لقطات من فيلم "دفاتر مايا"

تنقلب حياة ألكس رأساً على عقب عندما تجد أمامها وسيلة سهلة للكشف عن أسرار أمها الخفية، وهى دفاتر مذكراتها وشرائط كاسيت مسجلة بصوتها خلال فترة المراهقة في الثمانينيات، تدفع أليكس -ذات التربية الغربية- للاعتقاد في البداية أن هذه الأم منافقة، فرغم أنها عاشت حياة الحرية والانطلاق والحب الأول، إلا أنها تفرض عليها القيود وترفض التحاور معها، ولا ترى منها دائماً سوى الحزن والغضب والعصبية، في حين أن حياتها كمراهقة كانت مشرقة.

ذكريات ممضّة

أفقدت الحرب الأهلية اللبنانية مايا –الأم- ابنة جيل أكس من مواليد السبعينيات، الكثير من روحها، وحاولت على مدار سنوات طويلة في الغربة استعادتها دون جدوى، وعندما يصل في ليلة عيد الميلاد صندوق مليء بالدفاتر والصور والرسائل وشرائط الكاسيت التي أرسلتها من بيروت إلى صديقتها ليزا في فرنسا، خلال الفترة من 1982 إلى 1987.

لقطات من فيلم "دفاتر مايا"

يعيدنا فيلم "دفاتر مايا" لذكريات الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، دون أن نرى الحرب نفسها، في محاولة لرصد تأثيرها الاجتماعي والنفسي على من عاصروها واضطروا للتعايش مع ما فعلته بهم

تتجدد أحزانها وذكرياتها التي ترفض إطلاع ألكس عليها لتحميها من هذا التاريخ المؤلم، دون أن تدرك حجم الصدع الذى خلقه هذا القرار في علاقتها بابنتها لأنها لا تقبل إلا الصراحة، ولا تدرك حجم التشابه في هذا الموقف بينها وبين أمها –الجدة- التي اعتقدت أن هجرتهم من لبنان منذ أكثر من 30 عاماً، ستمحو كل ما حدث من ذاكرة مايا، لتبدأ حياة جديدة وكأن شيئا لم يكن.

تغوص بنا جوانا حاجى توما وزوجها خليل جريج، في النصف الأول من الفيلم الذى اشتركا في كتابته وإخراجه، داخل عالم مراهقة مايا الصاخب المليء بالألوان والموسيقى، حيث نراه من خلال أعين ألكس وخيالها بمشاهد تبنيها في عقلها من واقع الصور المرفقة في دفاتر مايا، وهى أقرب إلى يوميات ترصد حياة اليومية لمايا وأصدقائها ومشاعرها وتفاعلاتها مع الأحداث المحيطة بها في هذه الفترة، إلى أن تبدأ ألكس تدريجياً في لمس عمق الجرح الذى تسببت فيه حرب لا تعرف عنها شيئاً.

لقطات من فيلم "دفاتر مايا"

ولا تطلعها المذكرات على أسبابها و أطرافها المتناحرين بقدر ما تطلعها على أثرها على أبناء جيل مايا، الذى عاش أجمل سنوات عمره تحت دوي الرصاص والقنابل، فقدوا فيها أعزاء، أما كنتيجة طبيعية للعنف أو بسبب الإحباط وضياع الأمل في المستقبل، وفى النهاية عليهم الاستمرار والتعايش مع هذا الواقع المؤلم.  

الفيلم محاولة لنقل الذاكرة للأجيال الجديدة، والتأكيد على أنه لا يمكن الانفصال عن الماضي لأنه يحيط بالحاضر وشبحه يؤثر على المستقبل

استخدم صنّاع الفيلم الإضاءة وأسلوب التصوير لنقل مشاعر الشخصيات وإحساسهم بالعالم، فجاءت الإضاءة قاتمة في مشاهد ليلية داخلية مع شخصية مايا الأم وهى سجينة أفكارها وآلامها وذكرياتها، ومشاهد نهار خارجي مبهجة مع مايا المراهقة المنفتحة على الحياة رغم مرارة الحرب، وكثيراً ما ننتقل إلى شاشة الهاتف المحمول والرسائل الصوتية والمرئية التي تتبادلها ألكس مع أصدقائها طوال الوقت، وتعبر عن حياة جيل التكنولوجيا، وهى أيضا سجينة أجواء المنزل الكئيب المحاط بالثلوج في أعياد الميلاد، والفجوة النفسية التي تفصلها عن أمها وتدفعها للانغلاق على نفسها في عالمها الخاص.

 وتلعب الصور دوراً كبيراً في الفيلم، سواء في تقديم بيروت القديمة من خلال الصور الفوتوغرافية، وما يتعلق بها من أفلام خام تذكرنا بالثمانينيات وصعوبة التقاط الصور والحفاظ على جودتها، أو من خلال الصور الرقمية التي تلتقطها ألكس في الزمن الحاضر بهاتفها المحمول طوال الوقت، في مقارنة واضحة بين الزمنين. 

لقطات من فيلم "دفاتر مايا"

الفيلم محاولة لنقل الذاكرة للأجيال الجديدة، والتأكيد على أنه لا يمكن الانفصال عن الماضي لأنه يحيط بالحاضر وشبحه يؤثر على المستقبل، كما يعكس العلاقة بين الأجيال من خلال إعادة التفكير في السيرة والصورة ومكاننا في الواقع وعلاقتنا بالآخرين، معتمداً في قصته على الرسائل الحقيقية التي تبادلتها جوانا حاجى توما مع صديقتها في فرنسا، على مدار ست سنوات في ثمانينيات القرن الماضي أثناء فترة الحرب الأهلية، قبل أن تنقطع الاتصالات بينهما لأكثر من 25 عاماً.

وكان لقاؤهما من جديد منذ ما يقرب من خمس سنوات سبباً في ميلاد فكرة الفيلم للنبش في الذاكرة وما مدى التغيرات التي تطرأ عليها بتغير الزمن، فليس بالضرورة أن ما يبقى في الذاكرة هو الحقيقة، لأن الذاكرة مرتبطة بالمشاعر أكثر من ارتباطها بالوقائع.

في الوقت الذى يمرّ فيه لبنان بالكثير من الاضطرابات على المستويين السياسي والاقتصادي، يواصل صناع الأفلام اللبنانيون تألقهم عالمياً، ويثبتون حضورهم بقوة من خلال أعمال تعبر عن الأزمات التي تركت أثرها على الأجيال المتتالية

كما أنه دعوة لتجديد الأمل وتجاوز هموم الماضي والتصالح معها كي تستمر الحياة ونبنى مستقبلاً أفضلاً، ونلمس هذا في البوح ومحاولات رأب الصدع وبناء جسور التواصل بين مايا وألكس، ثم العودة إلى بيروت لمواجهة الماضي المؤلم واستعادة الأحلام وبناء ذكريات جديدة، فكل دمار لابد أن يكون بعده نور.   

لبنان سينمائياً

في الوقت الذى يمرّ فيه لبنان بالكثير من الاضطرابات على المستويين السياسي والاقتصادي، يواصل صناع الأفلام اللبنانيون تألقهم عالمياً، ويثبتون حضورهم بقوة من خلال أعمال تعبر عن الأزمات التي تركت أثرها على الأجيال المتتالية، "دفاتر مايا" أعاد السينما اللبنانية للمنافسة على الدب الذهبي للمسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي الدولي في 2021، بعد غياب دام أكثر من 39 عاماً.

كما حصد جائزة سعد الدين وهبة لأحسن فيلم في مسابقة آفاق السينما العربية، بالدورة الـ43 لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي التي شهدت العرض الأول للفيلم بقارة أفريقيا، ويعرض حالياً في قسم "روائع عربية"، في الدورة الأولى من مهرجان البحر الأحمر بجدة في السعودية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image