"البيانات هي النفط الجديد". جملة نقرأها كثيراً وتعود إلى عالم الرياضيات والخبير في علم البيانات البريطاني كلايف هامبي Clive Humby. عندما قال عبارته الشهيرة والتي صارت رائجة بشدّة، عام 2006، لم يفته التنويه إلى أن البيانات كالنفط أيضاً لا قيمة لها بلا تكريرها، "لذلك يجب تقسيمها وتحليلها لتكون ذات قيمة".
كل شيء نقوم به يُنتج بيانات وهناك مَن يجمع هذه البيانات لأن عالمنا الجديد أعمى بدونها وبحاجة إليها في كل القطاعات من الاقتصاد وصولاً إلى السياسة.
عندما نمضي أوقاتاً على مواقع التواصل الاجتماعي لا ينتهي الأمر بقضائنا وقتاً ممتعاً. كل حركة نقوم بها تُنتج بيانات: ما نكتبه، إعجاباتنا، ما نقرأه، ما نشاهده... كل هذا يتجتمع في "البيانات الضخمة" Big data.
هذه البيانات المجمّعة هي "نفط خام". بعد تجميعها، هناك مَن يحللها ويبوّبها تحت معايير حسب الطلب: جنس المستخدمين، أعمارهم، مواقعهم، سلوكهم الاستهلاكي... لتتحوّل إلى ما يشبه البوصلة في عمل الشركات.
على ضوء هذه البيانات، تتحدّد السياسة التسويقية للشركات، كالفئة المستهدفة من الإعلانات الموجّهة، ومحتوى الحملات الترويجية، لا بل تساعد في تخصيص الإعلانات بحسب خلفيات كل متلقٍّ ليجري استهدافه شخصياً بنوع معيّن من السلع. كل هذا طبعاً يمكّن الشركات من زيادة أرباحها وتقليص نفقاتها.
لا يقف استخدام البيانات عند الاقتصاد والتجارة. للتكنولوجيا في السياسة شؤون. أثناء حملته الانتخابية، عام 2016، أطلق فريق المرشح الرئاسي حينذاك دونالد ترامب حملات دعائية سياسية موجهة عبر منصات التواصل الاجتماعي، بالاعتماد على خدمات شركة كامبريدج أناليتيكا Cambridge Analytica. وفي ما بعد، كشفت الأبحاث تواطؤ شركة فيسبوك في القضية التي عُرفت باسم "فضيحة كامبريدج-فيسبوك"، وتبيّن أن الأخيرة باعت بيانات 50 مليون حساب عندها، ليتوضّح لاحقاً أن هذا هو النشاط العادي لشركات كثيرة: بيع البيانات.
البيانات ركيزة للإنتاج
"إضافة إلى الركائز الأربع التقليدية للصناعة: الأرض، اليد العاملة، التكنولوجيا والتمويل، تحوّلت البيانات هي الأخرى إلى ركيزة خامسة أساسية للإنتاج في أيامنا هذه. لم تعد البيانات أداة للإنتاج، وإنما صارت مصدراً للثروة"، يقول وزير تكنولوجيات الاتصال التونسي السابق نعمان الفهري.
صارت البيانات مادة أساسية للعديد من الشركات، خاصة الشركات الناشئة. تشتري هذه الشركات البيانات من شركات أخرى مثل غوغل، فيسبوك ومواقع التسويق، وتحللها لتحديد "التراندات"، كالميول في الموضة مثلاً بالنسبة إلى متاجر بيع الملابس، أو المواضيع الأكثر إثارة لاهتمام القرّاء بالنسبة إلى المواقع الصحافية الإلكترونية.
يطرح الفهري أيضاً معادلة: "البيانات = المعرفة". "تسوماني التغيير التكنولوجي غيّر كل شيء تقريباً"، يقول. وهناك عامل ثالث في المعادلة التي يطرحها وهو الفجوات. يعيد الفجوة الجغرافية بين دول الشمال ودول الجنوب، والفجوة السياسية بين الحكام والمحكومين، إلى ما يتوفّر لكل طرف من بيانات ومعلومات.
حديث الفهري المذكور أتى خلال جلسة بعنوان "الابتكار والبيانات"، ضمن جلسات "منتدى الابتكار في السياسة – 2021" الذي نظّمته مؤسسة "فريدريش ناومان من أجل الحرية" الألمانية بالشراكة مع المركز الليبرالي الدولي السويدي، في العاصمة التونسية، يومي 11 و12 كانون الثاني/ ديسمبر 2021.
"إضافة إلى الركائز الأربع التقليدية للصناعة: الأرض، اليد العاملة، التكنولوجيا والتمويل، تحوّلت البيانات هي الأخرى إلى ركيزة خامسة أساسية للإنتاج في أيامنا هذه. لم تعد البيانات أداة للإنتاج، وإنما صارت مصدراً للثروة"
وعن معنى الابتكار في السياسة، يقول نعمان الفهري لرصيف22: "ليس المعنى هنا هو توظيف التكنولوجيا في السياسة. هذا خطير. رأينا كيف وُظّفت التكنولوجيا في السياسة، وأدّى هذا إلى بروز الشعبوية والخطاب الشعبوي".
برأيه، "الآليات السياسية القديمة، كالانتخابات وغيرها أدّت إلى كوارث كما نرى في ما يُعبَّر عنه بأزمة الديموقراطية التمثيلية. لهذا إذا ما استمرينا باعتماد نفس القواعد التقليدية، وأمام معضلة توظيف البيانات الضخمة في السياسة، نحن نتجه نحو كوارث سياسية واجتماعية على المدى المتوسط والبعيد".
"لو وضعنا قيوداً ثقيلة على شركات تحليل البيانات ومواقع التواصل، فهذا يفتح الباب للديكتاتوريات"، يقول. لذلك يكمن "التحدي الحالي" في "المواءمة بين "ضمان السلام العالمي من جهة، وضمان حرية التعبير من جهة أخرى".
استغلال جماعي للبيانات
يطرح استخدام الشركات للبيانات بهدف خلق الثروة تحدياً أمام احترام خصوصية الأفراد ومعلوماتهم الشخصية، وهي مسألة تحتاج إلى إيجاد حلول، بحسب مسؤولة ملف الحقوق المدنية وسيادة القانون في "المعهد الليبرالي" تيريزا ويدلوك.
في الجلسة المذكورة نفسها، قالت ويدلوك: "السؤال المطروح الآن في أوروبا، إلى جانب حماية الأفراد من التجسس، هو كيف نجعل البيانات متاحة للجميع، أي ليس فقط الشركات، لاستخدامها في ما يحتاجون إليه"، مشيرة إلى أن "البيانات هي إنتاج جماعي فلماذا لا يتم استخدامها جماعياً؟".
من جهة أخرى، ترى الرئيسة التنفيذية وإحدى مؤسسي Forest Chain آنا بيريز غارسيا أن "الدعايات والحملات الترويجية الموجهة ليس لها أثر سلبي على حرية الأفراد".
"كيف نجعل البيانات متاحة للجميع، أي ليس فقط الشركات، لاستخدامها في ما يحتاجون إليه؟ البيانات هي إنتاج جماعي فلماذا لا يتم استخدامها جماعياً؟"
تقول لرصيف22 إن "وظيفة الدعايات في النهاية هي توفير المعلومات للشخص، ومن المؤكد، حسب رأيي، أن الشخص لن يشتري شيئاً لا يريده. إذا كان يحتاج قلماً أو يفكّر في اقتناء سيارة، لا يمكن للحملات الإعلانية إلّا أن تزوّده بمعلومات عمّا يمكن أن يجده في السوق. أما إذا كان لا يريد الشراء، فليس مجبراً على ذلك".
و Forest Chain هي منصة رقمية مختصة بتتبع الأخشاب من الغابة إلى المستهلك، باعتماد تقنية "البلوك تشاين"، وهدفها توفير معلومات حول مدى احترام منتجي الخشب لمعايير المحافظة على البيئة، ويمكن اعتبار عمل المنصة نفسها مؤشراً آخر على ما للداتا من أهمية في حياتنا.
في الجلسة التي شاركت فيها غارسيا كان حاضراً أيضاً دايفيد كارول، الأستاذ المساعد في تصميم وسائل الإعلام في جامعة "ذا نيو سكول". ولكن لديه رأي مختلف. يقول: "العلاقة بين البيانات والتلاعب بمشاعر الناس والماكينة الاقتصادية هي معادلة خطيرة سلبية. وهذا ليس في صالح الديموقراطية".
البيانات والرأي العام
منذ قرن مضى، كتب إدوارد بيرنيز كتابه "بروباغندا". تحدث فيه عن التحكم بالرأي العام في الديموقراطيات، وعن وسائل توجيهه وعن سيكولوجيا الجماهير.
وقتها كانت الأمور أبسط بكثير مما هي عليه اليوم. وكان أحد الحلول لمنع تفاقم المشكلة التي تحدّث عنها برنيز وآخرون وضع مسودات أخلاقيات للإعلام، كتحرّي الموضوعية في نقل الخبر لتجنّب توجيه الرأي العام والتلاعب به.
أما في أيامنا، ومع تطوّر وسائل التواصل، صارت الأمور أصعب. "الانفلات" الذي تشهده وسائل التواصل الاجتماعي دفع الشركات المؤسسة لها إلى اعتماد معايير لضبط النشر وتحديد شروط الاستخدام، كحظر نشر خطاب الكراهية والتحريض على الغير...
"العلاقة بين البيانات والتلاعب بمشاعر الناس والماكينة الاقتصادية هي معادلة خطيرة سلبية. وهذا ليس في صالح الديموقراطية"
"لا تزال التشريعات حول حوكمة البيانات في مرحلة مبكّرة وبصدد التطوّر. لا يمكن الإحاطة بكل الجوانب على كل حال. التكنولوجيا تتطوّر بشكل سريع، وكلما صدر تشريع ما أو ميثاق، يتم تجاوزه في غضون سنتين. لذا الحل هو المتابعة والتطوير المستمر، تقول تيريزا ويدلوك في حديثها عن قدرة التشريعات الحالية على مواكبة التطوّر التكنولوجي.
تبدي ويدلوك اعتقادها بأن "لا تشريع نهائياً يمكن الحديث عنه". تضرب مثلاً بقوانين التجارة الإلكترونية في أوروبا والتي جرت مراجعتها مؤخراً بعد مضي 20 سنة من سنّها. "لكن لا يجب أن ننتظر 20 سنة أخرى"، تقول مضيفة: "يجب تطويرها وملاءمتها دورياً، كل سنتين مثلاً".
"إلى جانب أن التطوّر التكنولوجي أتاح ملاعب جديدة للخطاب والتواصل السياسي، فإن الابتكار يستدعي أن نفكّر في ما لدينا حالياً من أدوات وآليات وفي التوفيق بين حوكمة الشأن المحلي والتحديات الإقليمية في ظلّ العولمة"، يقول مدير المكتب الإقليمي لمؤسسة فريدريش ناومان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ديرك كونتسه.
لـ"منتدى الابتكار في السياسة" هدفان، يوضح، "الأول هو التعرّض للوضع الحالي وما يتضمنه من أدوات فعل سياسي واجتماعي، ووسائل تواصل بين الحكام والمحكومين، والتحديات المطروحة؛ أما الثاني فهو محاولة التفكير واستشراف مستقبل الابتكار من خلال التعرّض للوسائل التكنولوجية قيد التطوير، والتفكير في مدى تأثيرها في السياسة والسياسات العامة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...