باختلاف لغتهم وأديانهم وثقافتهم، ترقد أكثر من 400 جثة لمهاجرين غير نظاميين، في مقبرة "حديقة إفريقيا"، في مدينة جرجيس التونسية (جنوب شرق)، وَحَّدهم حلم الهجرة إلى الجانب الآخر من المتوسط، لكن الرياح جاءت بما لا تشتهيه أرواحهم، فغرقت مراكبهم في عرض البحر، الذي قليلاً ما يلفظهم جثثاً هامدة على شواطئ الجنوب الشرقي التونسي.
قرّر الفنّان رشيد القريشي أن يفتتح مقبرة للمهاجرين المجهولين أسماها "حديقة إفريقيا" دون تمييز بين ديانتهم أو أصولهم في تونس
أمام العشرات من الجثث المجهولة الهوية، التي تعود إلى الجنوب، بعد أن حلمت بالوصول إلى الضفّة الشمالية، أصبحت "حديقة إفريقيا" التي أسسها الفنان التشكيلي الجزائري رشيد القريشي، محطتهم الأخيرة التي يرقدون فيها في انتظار التعرّف على هوياتهم، وليتمكّن ذووهم من دفنهم، أو توديع أرواحهم الشاردة.
هؤلاء المهاجرون الفارّون من ويلات الحروب، والمجاعات، والظلم، والتسلّط السياسي، والفساد، في بلدانهم، أتوا من أنحاء القارة الإفريقية كافة، سواء من دول شمال إفريقيا، أو من دول جنوب الصحراء الكبرى، وكانت أحلامهم المنشودة التي وعدوا بها ذويهم، ومنّوا بها أنفسهم، أن يجدوا عملاً، ووظيفةً، وكرامةً، في "الفردوس الأوروبي". لكن بدل هذا، أبحروا نحو موت محقّق، من دون قصد منهم. رشيد قريشي، الفنان الجزائري الذي استقر في تونس منذ سنوات، لم يجد لتكريم هذه الأرواح الشاردة، إلا أن يشيّد مقبرةً تليق بهم، وتجعل نهاية قصصهم محترمةً، على أن تُدفن رفاتهم في مكان لائق، إكراماً للذات البشرية، ليحظوا بالقليل من الحظ، مقابل كثيرين غاصت جثثهم في عرض البحر المتوسط، الذي أصبح يلقّب بالمقبرة البحرية.
محطة أخيرة
تُعدّ "حديقة إفريقيا" مكان لقاء أخير، وغير متوقّع، وحزين، لمئات البشر، لكنها تروي أيضاً إنسانية مؤسسها قريشي، الذي فكّر في أخيه الإنسان، وأكرم جثته بدفنها، من دون أي اعتبار للون البشرة، أو الديانة، أو الجنسية، فلا تجمعه بأصحاب الجثث في مقبرته سوى الإنسانية.
قريشي يعرف جيداً آلام فقدان قريب في البحر. فالرجل الذي يبلغ من العمر 75 عاماً، فقد بدوره شقيقه الذي غرق في البحر، وهو ما ضاعف من حساسيته تجاه هؤلاء الضحايا. وقد أنشأ مقبرة "حديقة إفريقيا"، من وحي معاناته الشخصية، على قطعة أرض مساحتها 2500 متر مربّع، اشتراها من ماله الخاص. يحكي لنا أسباب هذه المبادرة: "أسست هذه المقبرة لأكرّم جثث أناس عانوا الأمرّين، وخاطروا بحياتهم من أجل لقمة العيش، ثم لاقوا حتفهم غرقاً، وهذا أقل تكريم نقوم به من أجلهم، ومن أجل ذويهم".
تُعدّ "حديقة إفريقيا" مكان لقاء أخير، وغير متوقّع، وحزين، لمئات البشر، لكنها تروي أيضاً إنسانية مؤسسها قريشي، الذي فكّر في أخيه الإنسان، وأكرم جثته بدفنها
أمام مهابة الموت، أراد قريشي أن تكون المقبرة "روضةً" تضم رفات الضحايا، فصمّم المقبرة بطريقة فنية، وجعلها محفوفة بالنبات والأشجار، وهي طريقة لا تخلو من رمزية دينية. فالمدفونون هنا، من ديانات وأصول مختلفة. ولهذا أحاط القبور بخمس شجرات زيتون، ترمز إلى أركان الإسلام الخمسة، إلى جانب 12 شجرة تين ترمز إلى حواريي المسيح، أمّا بوابة المقبرة فقد صُمّمت بأسلوب هندسي تونسي قديم، وتفتح على مدخل ومسالك صغيرة مغطاة ببلاط من السيراميك المزخرف، تعلوها قبّة بيضاء، وقاعة صلاة لمختلف الأديان. إلى جانب هذا الاعتناء بالقبور، لم يغفل الفنان أن يحفظ معلومات دقيقة حول الموتى، علّ عائلاتهم تحظى بلحظة فراق أخيرة معهم، أو تنقل رفاتهم إلى بلادهم.
هكذا قام الفنان بترقيم القبور، ووضع بعض المعلومات عليها، مثل "رجل يلبس ثوباً أسود"، أو "شاطئ فندق خمس نجوم"، ليسهل على ذويهم التعرّف عليهم، وإن طلبوا تحليلاً جينياً للحمض النووي، قد يسهل عملية التعرف على الدفين، وإن كان حقاً على علاقة عائلية بمن يأتي للبحث عن ذويه، ويملك نتف معلومات عن آخر لحظاتهم، وملابسهم، أو ملامح وجوههم، أو مقتنيات بسيطة.
جمعتهم الإنسانية
هذه المقبرة حلّت مشكلات عديدة في المنطقة التونسية، فقد كان المهاجرون يُدفَنون في مقابر جماعية، لصعوبة توفير مقابر خاصة بهم، وهو ما كان يعيق إمكانية التعرف على هوياتهم لاحقاً. لكن اليوم، أصبحت لهم قبور فردية تليق بالكرامة البشرية، كما يُدفنون بتقنيات علمية، حسب ما أكده لنا منجي سليم، المسؤول في الهلال الأحمر التونسي، التي تعمل بالتعاون مع قريشي.
وأضاف سليم: "نستخدم طرقاً عصريةً في الدفن، لكي نتمكن من استخراج الجثة للتعرّف على صاحبها، إذا ما تم البحث عنه، وغالبيتهم نأخذ منهم عينةً للحمض النووي (DNA)، وتحمل كل جثة رقماً خاصاً بها، للتعرف عليها، وهي طريقة ناجعة، وخير مثال على ذلك أنه تعرّفت عائلة ليبية مؤخراً على جثة ابنها الذي مات غرقاً، وهو بصدد الهجرة إلى أوروبا، وقد دُفن في مقبرة حديقة إفريقيا".
ما زالت المقبرة قيد الإنشاء، لكنها حظيت بترحيب واسع، فقد حضرت تدشينها المديرة العامة للأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو"، أودري أزولاي، ووفد من مسؤولي المنظمات الدولية والتونسية المهتمة بالهجرة، ومسؤولون من السلطة المحلية التي واصلت الاعتناء بها، تثميناً لدورها الإنساني.
يقول رئيس بلدية جرجيس، مكي العريض، لرصيف22: "زار الأخ رشيد القريشي مدينة جرجيس، واكتشف أعداد المهاجرين الذين يموتون غرقاً، ويلفظهم البحر على سواحلها، والصعوبات الكبيرة التي نواجهها في عمليات الدفن، فاستشارنا في الموضوع، ووجد عندنا ترحيباً كبيراً، خاصةً وأن المقبرة المخصّصة للمهاجرين، بلغت طاقتها الاستيعابية. وقد بدأ في تأسيس مقبرة حديقة إفريقيا التي استُخدِمت قبل أن ينتهي بناؤها، لأن عدد الجثث الملقاة على الشواطئ في ارتفاع، وأصبحت المقبرة تحت إشراف المنظمات الدولية والتونسية، وأسسنا لجاناً للاعتناء بالمقبرة ذات التصميم الفني".
أصبحت مدينة جرجيس التونسية رائدةً في مجال دفن جثث المهاجرين غير النظاميين الذين يلفظهم البحر على كامل شواطئ الجنوب الشرقي التونسي، حيث أُسِست أول مقبرة لهم، وهي مقبرة الغرباء التي شيّدها البحّار شمس الدين مرزوق، ابن المنطقة، لكنها بلغت طاقة استيعابها الكاملة، لتكملها مقبرة "حديقة إفريقيا" التي تتطلب توسعةً هي الأخرى، فقوارب الموت هناك لا تتوقف عن لفظ الموتى، في مأساة إنسانية عنوانها "الحلم بالفردوس الأوروبي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...