شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"مجاذيب" ينادون الأجداد لمقاومة الظلم… أغاني "العيطة" في المغرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 28 أغسطس 201907:53 م

لم يستطع نسيم حداد (32 عاماً) أن يكبت شغفه بفن الغناء، خاصة المرتبط بمناطق جغرافية تبتعد عن المراكز الحضرية المغربية، في الصحارى والريف.

بحث حداد في التراث الشعبي، وهو الحاصل على دكتوراة في الفيزياء النووية، والمعروف بألبومه "رباعيات الغناء الشعبي"، تدور حول أغاني مثل الغيوانية والغناوية والعيساوية، ولكنه وجد في فنّ العيطة ضالته.

يحكي عن نفسه أنه في البداية قام بعدة أبحاث حول أنواع عديدة من الأغاني ،يقول حداد لرصيف22: "وجدت في العيطة أريحية أكثر، ربما لأنها تمثّل لسان حال المغاربة، وربما لأنَّ انتمائي لمدينة "أبي الجعد" وسط المغرب، المعروفة بانتشار هذا النمط الموسيقي، أو ربما لأنني وجدتُ بأن هذا النمط وهذا التراث الغنائي بات مُهدَّداً بشكلٍ كبير بالضياع".

إكرام العبدية، المعروفة بـ"مولات البندير" والتي تمكنَّت من نقش اسم بارز لها في الأغنية الشعبية، خاصة العيطة رغم صغر سنّها (22 عاماً)، تحكي عن سبب اختيارها لهذا الفن، وتميّزه، تقول لرصيف22: "اخترتُ هذا النمط الموسيقي لكونه فناً أصيلاً له جذور في التراث الشعبي المغربي الأصيل".

المقاومة

أُخذت كلمة "العيطة" من اللهجة المغربية، وتعني النداء، وبحسب مؤسس أول معهد لدراسة وتعليم العيطة بإقليم عبدة المغربي الفنان الشيخ جمال الزرهوني، تعني العيطة "مناداة المجذوب لأسلافه وإغاثته".

وتميزت بكونها الأغنية الشعبية بدوية النشأة، والكلام الحافل بالغناء الشعري وأنماطه وأشكال أدائه، يؤديها الذكور وتؤديها الإناث أيضاً، وعرفت انتشاراً في مناطق متنوعة من جغرافيا المغرب، كالشاوية ودكالة، والسهول الوسطى للساحل الأطلسي ومناطق أخرى كمنطقة الحوز وزعير.

باختصار، ظلت العيطة لسان حال القبائل وسكان الريف المهمشين، والمبرز للجانب المقاوم للظلم والاستعمار، في ظل تركيز التعليم ومظاهر التحضر في المدن الكبرى.

يشدد الشاعر المغربي حسن النجمي في كتاب له على أن الشعر  البدوي في غناء العَيْطَة هو "فجر الشعر العربي في المغرب"، رغم أن تاريخ الشعر هناك ما زال لم يكتب حتى الآن.

كان عهد العلويين من أفضل العصور في تاريخ هذا التراث، إذ شهد هذا الفن ازدهاراً كبيراً حيث كانت العيطة تُغنّى لدى السلاطين، ليصبح في منتصف القرن التاسع عشر، أي في فترة الحماية الفرنسية بالمغرب، مرادفاً لـ"مقاومة الاستعمار والنضال من أجل التحرّر وطرد المستعمر".

"هذا الفن وُجِدَ لمواكبة ما يخالج نفوس المغاربة والتعبير عن أفراحهم وأحزانهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة"

عُرف الكثير من شيوخ وشيخات العيطة، من بينهم الشيخة "خربوشة"، بمشاركتهم في مقاومة المستعمر أو الحاكم الظالم بأغانيهم وأشعارهم، وكانت عبارة "بَاشْ قَتَلْتِي بَاشْ تَمُوتْ، يَالِي مَشْمُوتْ" بمعنى، "كما تدين تدان، يا مُعتدي" من بين العبارات التي لا تزال حية في ذاكرة الشعبية للمغاربة ولا زال المغاربة يرددونها. وكانت عبارة "تحزموا كونوا رجالاً، ياودي كونوا عوانين، راه الجماعة طلعت للدير، راه المحلة حطت الرحال"، من الأبيات التي تغنّت بها الشيخة "امباركة البهيشية"، لتتم مطاردتها من قبل المستعمر الفرنسي بسبب أغانيها المناهضة له، وبدؤوا في تلطيخ سمعتهنّ، ووصمهن بأخلاقيات منافية للآداب العامة.

يقول نسيم حداد: " كان للعيطة تاريخ في مقاومة المستعمر، من خلال تحميس المقاومين ورفع هممهم. اليوم لها دور أيضاً في التعبير عن لسان حال المغاربة. ما لا شك فيه أن هذا الفن وُجِدَ لمواكبة ما يخالج نفوس المغاربة والتعبير عن أفراحهم وأحزانهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، حيث أننا نجد في الوسط بيت شعري معين يعبر عن حدث معين يعيشه المجتمع، مثل "العيطة الزهرية" المعروفة بمواكبة الأحداث المعاصرة وهموم الشارع".


شعر الفلاحين والرعاة

يُثمن الشاعر المغربي حسن النجمي القيمة الشعرية لأغاني العيطة في كتابه "غناء العيطة - الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب"،  وكيف أثر في جمالياتها ارتباطها بالمهمشين الذين لا صوت لهم، يكتب: "هذا النَفَسُ الساخن الصاعد من الدواخل، عبر الأصوات البشرية، الأنثوية والذكورية، والإيقاعات والألحان الآسرة، هو الذي أسعف على ميلاد تعبير شعري موسيقي شفوي ظل يخرج من الجراح الفردية والجماعية مثل النزف الدافق، ويلتصق بذوات وبمصائر الفلاحين والمزارعين والرعاة، والقرويين عموما، المتحدرين من ذاكرة عميقة ومن سلالات عربية لها تاريخ بعيد، مهمل، مكبوت ومسكوت عنه".

ويشدد النجمي على أن الشعر في غناء العَيْطَة (الشعر البدوي) هو "فجر الشعر العربي في المغرب"، وذلك رغم أن تاريخ الشعر في المغرب ما زال لم يكتب حتى الآن، بالمعنى الدقيق لتاريخ الآداب والفنون.

كانت العَيْطَة، يضيف نجمي في كتابه، "شعراً وغناءً وموسيقى وأداء، تصدر عن مجتمع قروي قبلي معين في المغرب. ولأن المجتمع القروي المغربي عاش تطورات تاريخية واجتماعية وسياسية قاسية طبعتها مظاهر الإقصاء والتهميش، فقد تساءلت دائماً عن السبب الذي يجعل القبيلة في المغرب "بلا لسان" لدى البعض، أو يجعل البعض الآخر يتجاهل صوتها وتعبيرها أو يجردها منهما بكل بساطة، في التأريخ، في البحث العلمي الاجتماعي والثقافي، وفي تشييد الأفكار والنماذج الفكرية. كما تساءلت أيضاً، في السياق نفسه، كيف تمت دراسة هذا المجتمع القروي القبلي تحديداً بكل هذه الرحابة والسعة، ووضع الكثير من ظواهره وقضاياه تحت المجهر، بينما ظل تعبيره في الظل، بعيداً عن أي اهتمام علمي، سواء فرجة أو موسيقى وغناء؟ "

ويشير حسن النجمي، أنه "بالرغم من التحول البنيوي في النسيج الديموغرافي للمغاربة، من أغلبية سكانية قروية إلى أغلبية حضرية اليوم، فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا ظاهرة "ترييف" المدن التي تجعل الكثير من سكان الحواضر الكبرى يواصلون حياتهم القروية والقبلية حتى داخل فضاءات المدن. وذلك مع جدية الفقدان أو التفتت الذي يمكننا ملاحظته على مستوى ما لحق ببعض القيم والتقاليد والرموز الاجتماعية والفرجوية والفنية، خصوصاً في ظل بعض الانعكاسات السلبية لدور وسائل الإعلام الحديثة، خاصة الفضائيات والقنوات التلفزية والتسجيلات السمعية البصرية المختلفة، والتي رغم أهميتها وضرورتها ووظيفتها، كان لها سوء تقدير لظاهرة الفن الشعبي والتراث عموماً".


صنّف باحثون في مجال هذا النمط الموسيقي، العيطةَ إلى ثلاثة أشكال، العيطة "المرساوية"، العيطة "الحوزية" والعيطة الملالية"، إلا أن دراسات حديثة أقرّت بوجود أنماطٍ أخرى تعتبر أساسية، كالعيطة "الحصباوية" والعيطة "الزعرية" ومنها ما هو فرعي كعيطة "الخريبكية" والعيطة "الورديغية" و"الجيلالي" والساكنة".

و يرى نسيم حداد، بأن الحديث عن تراث العيطة هو حديث عن ممارسة موسيقية منتشرة في مجموعة من المناطق المغربية، وهناك من يتحدث عن تسعة أنماط، وأرى بأن هناك أكثر من تسعة، لأن العيطة تختلف حسب الجغرافية الفنية العجيبة في المغرب، فمثلاً عندما ننتقل من منطقةٍ إلى منطقة تتغير الجغرافية، سواء من الناحية الثقافية أو البيئية، وكذلك تناول العيطة يختلف بشكل من شكل لآخر وتختلف القصائد والألحان، والتحدي الذي كان لدي في البداية، يقول حداد، هو "أنني عملت مزج بين جميع هذه الأنماط والإبداع في كل نمط، دون الميل لنمط معين".

ظلّت العيطة لسان حال القبائل وسكان الريف المهمشين في المغرب، والمبرز للجانب المقاوم للظلم والاستعمار، في ظل تركيز التعليم ومظاهر التحضر في المدن الكبرى.

تراث يحتاج إلى "روح الشباب"

بالنسبة لحداد العيطة ليس مجرد فناً، فعندما نتحدث عنه "نتحدث عن ممارسةٍ غنائية جاءت بعد تراكم مهاراتٍ فنيةٍ لمجموعةٍ من الفنانين، والأكيد أن الشباب سيكون له دور كبير في استمرار هذا الفن، وفي تحقيق التراكم في تراث العيطة من جانب آخر".

ويلفت حداد النظر إلى اختلاف جيل الشباب المهتمين بهذا النوع من الفن، يقول: شباب اليوم المهتمين بهذا الفن لهم نظرة مختلفة عن نظرة الشيوخ، ما سيضمن انتقال العيطة من شكلها التقليدي إلى شكل يمكن أن يقبله الجيل الجديد.

 وينهي حداد حديثه قائلا: "نحن أمام ضياع جزء كبير منها نتيجة لغياب التوثيق والمواكبة الإعلامية، وهنا يكمن دور الشباب. وبالتالي فإعادة مجد العيطة يحتاج إلى ثورةٍ فنيةٍ وهذه رسالة إلى الشباب، حتى يكون هناك إبداع وتجديد مصحوبين باهتمام من الشارع ومن المستمعين، لأنه لا يمكن تقديم العيطة للشباب الحالي في ظل العولمة وفي ظل التطور الاعلامي الكبير، وننتظر نتيجةً مغايرةً عن النتيجة التي عهدناها".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image