"وحدها الآلام والأحزان والذكريات، تظلّ عالقةً في مكان ما، توخز قلوبنا، وتخدش أرواحنا، وتجبرنا على النحيب، كلما شعرنا بالوحدة والغربة... وما أقسى الوحدة حين تجتاحنا ليلاً، ونحن ننام في حضن الوطن"، كانت هذه هي خاتمة رواية "هولندا لا تمطر رطباً"، للكاتب علاء الجابر. قرأت الرواية، وأنا في عامي الثالث في الجامعة، أي قبل خمس سنوات، وأدركت من وقتها إلى الآن، أن هذه الكلمات تستطيع وصف شعوري تجاه مدينتي، ومسقط رأسي، الإسكندرية.
لم يكن خوفي واضطرابي في أول يومٍ وطأت فيه قدماي شوارع القاهرة، يوحيان أبداً أنه سيأتي يوم، وأفضّل العيش فيها، عن العيش في مدينتي الإسكندرية التي وُلدت وعشت فيها تسعة عشر عاماً من عمري. وربما السياق الوحيد والسطحي الذي أذكر فيه الإسكندرية بالخير، مثل الإسكندرانيين كلهم، هو أني من مدينة ساحلية، وليست أي مدينة، فهي عروس البحر المتوسط، وكما يقول أصدقائي القاهريون دائماً: "لديكم البحر طوال العام، تذهبون إليه متى شئتم". وإذا أتى عامٌ على أي إسكندراني، ولم يذهب إلى المصيف في أي مكان آخر، فهناك بحر الإسكندرية في أسوأ الأحوال، لا بأس به.
يرى الجميع أن الإسكندرانيين دائماً لديهم فخر شديد، وزهو لمجرد أنهم ينتمون إلى الإسكندرية، إذ يفخرون بشيءٍ ليست لهم يد فيه، وهذا صحيح. جميع الإسكندرانيين هكذا، فمنذ أن التحقت بكلية الألسن في القاهرة، وقابلت أمثالي من الطلبة الإسكندرانيين المتغرّبين للدراسة، كانوا يستنكرون عليَّ قولي إني لا أحب الإسكندرية، ولا أشعر أبداً بافتقادي إليها، من دون إبداء أسبابٍ مني لهذا.
لم أكن أعرف من مصر سوى محافظتي، الإسكندرية. كانت هي وطني الأكبر. ولكن ماذا يعني الوطن إذا لم تشعر فيه بالدفء؟ أي وطن هذا الذي تعيش فيه خائفاً، من دون أن يكون هناك داعٍ حقيقي للخوف، مثل أن يحتلّ معتدٍ وطنك؟
ربما وقتها لم أكن أدري لماذا لا أحبّها، أو كنت أدري، ولكني كنت أهرب من الحقيقة، ولا أستطيع الإباحة بها حتى لنفسي، لكن خلال ثماني سنوات عشتها وأعيشها في القاهرة، بدأت مواجهاتي مع نفسي، فماذا يعني أن يحب الإنسان مدينته، وهو لا يشعر بأي انتماء إليها؟ لماذا من الأساس قد يحبّ الإنسان مدينةً لا يتذكر فيها، أو منها، أي ذكريات تُحمَد؟ والأصعب، لماذا قد يحبّ الإنسان مكاناً لا يضمن له الإحساس بالأمان؟ نعم، "الأمان" هذا هو مربط الفرس.
الوطن الأصغر
في سنٍ صغيرة، مثل التي عشت خلالها وترعرعت في محافظتي، بالتأكيد لم أكن أفهم جيداً معنى شعور الوحدة الذي ذكرته في البداية، لكن كنت أعي معنى شعورٍ آخر، هو "افتقاد الأمان"، فكنت طفلةً، ثم فتاةً مفتقدةً الأمان تماماً، وما زلت، لكن وقتها كان الأمر أصعب بكثير، إذ عشت تسعة عشر عاماً قبل مجيئي للقاهرة لم أشعر فيهم بلحظة أمان واحدة في الإسكندرية، ولأن شعور الأمان إذا وجد كان سبباً في وجود شعور آخر وهو "الونس". افتقادي "الونس" هو ما خلق شعور الوحدة عندي، وكان وطني الأصغر، "بيتي"، سبباً رئيسياً في خلق دوامة الوحدة والخوف التي ما ظننت أني سأخرج منها أبداً.
الأمر ليس صراع أجيالٍ، كما يظن البعض، إطلاقاً. الأمر يتعلق بتفاصيل صغيرة، لكنها تُشكّل أمراً أعقد بكثير، وتظلّ التفاصيل تنقص شيئاً فشيئاً، حتى تصبح الأمور أكثر تعقيداً، وحتى يتلاشى كل شيء، فالأمر يتعلق بالاهتمام بمشكلاتنا التافهة، قبل الكبيرة، ويتعلق بمحاولة احتوائنا، حتى لو كانت محاولةً غير فعّالة، ويتعلق بالحفاظ على مشاعرنا وكرامتنا.
لم يكن خوفي واضطرابي في أول يومٍ وطأت فيه قدماي شوارع القاهرة، يوحيان أبداً أنه سيأتي يوم، وأفضّل العيش فيها، عن العيش في مدينتي الإسكندرية.
الوطن الأكبر
لم أكن أعرف من مصر سوى محافظتي، الإسكندرية. كانت هي وطني الأكبر. ولكن ماذا يعني الوطن إذا لم تشعر فيه بالدفء؟ أي وطن هذا الذي تعيش فيه خائفاً، من دون أن يكون هناك داعٍ حقيقي للخوف، مثل أن يحتلّ معتدٍ وطنك؟ مع الوقت، فهمت أن الاعتداء والخوف لا يقتصران على العدو فجسب، وإنما قد يأتيان من أقرب الأقربين. يذكّرني هذا بجملةٍ سمعتها في عرضٍ مسرحي؛ "أول من رأى الشمس"، من تأليف محمد عادل، تقول: "للحظةٍ، تخيّلت أن الحرب بكل ما فيها، فيها ميزة عظيمة، أن من يريد أن يقتلك يقف دائماً أمامك، لا بجوارك، ولا خلفك، الحرب واضحة على عكس الحب"، هذا ما كنت أشعر به في وطني الأصغر، ومن كنّ يخففن من وقعه بعض الشيء، هنّ صديقاتي اللواتي يحطن بي، في وطني الأكبر. لكن... دائماً ما كان هناك شيء ناقص.
لي صديقة تقول إنها دائماً تشعر بالغربة، وهي في مسقط رأسها، وتشعر بالغربة أيضاً في حياتها الجديدة في القاهرة. وعندما سألتها عن اللحظات التي قد لا تشعر فيها بالغربة، قالت: "اللحظات التي أكتب فيها، أو ألعب فيها مع أولادي"، مما يعني أن الإحساس بالوطن لا يرتبط بالانتماء إلى الأرض، أو المكان، لكن يرتبط بالانتماء إلى أفعال معينة.
الوطن الحقيقي
"الوطن يكون حيث يكون من نحبّ"؛ هذه الجملة من العرض المسرحي نفسه. ربما هي جملة تصف جزءاً من الواقع، لكن الوطن لا يوجد فحسب حيث يكون من نحبّ، فأنا بالتأكيد أحمل مشاعر حبٍّ لأسرتي، ولأصدقائي في الإسكندرية، إنما الوطن يكون حيث يكون من نحبّ، وما نحبّ، وما يشبهنا، وما ومن ننتمي إليه/ م، باختيارنا الحر.
قبل أيام، عندما وصلت إلى القاهرة، بعد قضاء إجازةٍ صغيرة مع أسرتي في الإسكندرية. بمجرد أن وصلت العربة إلى القاهرة، وأخذت تطوف في شوارعها، شعرت بأنني كنت أفتقد الشوارع هنا، على الرغم من أني لم أغِب سوى أسبوعٍ واحدٍ فقط. في المقابل، أشعر في كل مرة أذهب فيها إلى الإسكندرية، بالاختناق، والوحشة، وتصيبني حالة سيئة إلى أن أعود إلى القاهرة مرةً أخرى. حالة سببها الذكريات السيئة كلها التي تنخر في عقلي، والتي يتعلق معظمها بأبي، فكثيراً ما أشعر بأن الإسكندرية ليست مكاني الذي يمكن أن أعيش فيه بقية من عمري. وإذا حدث هذا، فسيكون رُغماً عني، لأن شوارع الإسكندرية، ببحرها، وسحرها، لا تعني لي شيئاً سوى الألم.
وبالمقارنة، أسعد لحظات حياتي هي وأنا أسير وقت غروب الشمس، أو ليلاً، في شوارع القاهرة، مع أصدقائي، أو وحيدةً فآنس بالكثير من الذكريات. فأوّل دقة قلبٍ كانت في شوارع القاهرة. أيضاً التعرف إلى متعة الجلوس في المقاهي، وتذوق أطعمة الشارع كانا في القاهرة، واتخاذ قدر من الاستقلال، وإتاحة فرصة للتجربة، وفرصة تحقيق الأحلام، وكسب المال، وحتى فرصة الاختيار الحقيقية كذلك. هذا كله أعطتني إياه القاهرة. فبقدر ما أخذت مني، أعطتني. أما الإسكندرية، فأخذت مني فحسب. أخذت مني الإحساس بالدفء في أثناء برودة الشتاء القارص، فأصبحت أكره الشتاء، وتحديداً شتاء الإسكندرية الذي يحبّه الجميع، إذ كثيراً ما آلمتني برودة الشتاء، حتى اعتدت دائماً ألا أثقل ملابسي، مهما كان الجوّ بارداً، لأنه ليس هناك فائدة من هذا، فلن أشعر بالدفء.
بمجرد أن وصلت العربة إلى القاهرة، وأخذت تطوف في شوارعها، شعرت بأنني كنت أفتقد الشوارع هنا، على الرغم من أني لم أغِب سوى أسبوعٍ واحدٍ فقط. في المقابل، أشعر في كل مرة أذهب فيها إلى الإسكندرية، بالاختناق، والوحشة، وتصيبني حالة سيئة إلى أن أعود إلى القاهرة مرةً أخرى
بيتي الأول
في الأول من أيلول/ سبتمبر من عام 2019، صنعنا أنا وصديقتي زينب، التي اخترتها لتكون صديقتي بإرادة حرّة ومن دون أن تفرضها الظروف عليَّ، بيتاً مختلفاً تماماً عن حياة دور الطالبات وسكنهنّ التي عشنا فيها مدة ست سنوات، بيتاً كل ما فيه من اختيارنا. أول شيء أسسناه ورتّبناه في هذا البيت، هو مكتبة صغيرة تجمع كُتبي وكتبها، إذ لا نمتلك، لا أنا ولا هي، مكتبةً في بيوتنا. علّقنا صور ممثلينا ومخرجينا المفضّلين، واخترنا وضع الأسرّة المريح لنا، والطريقة المناسبة لترتيب ملابسنا، وقررنا ما نحتاج إليه بالفعل، وجرّدنا البيت من أي شيء لا يُشبهنا، فأصبح لدينا بيت صغير وبسيط جداً يُمثّلنا. أصدقائي كلهم الذين أتوا لزيارتي فيه، أحبّوه على بساطته، وشعروا بالشبه الكبير بيننا وبينه. في الفترة القادمة، نفكّر في الانتقال إلى بيتٍ أكبر، لكني لا أعرف كيف يمكن أن أنتقل وأنزع من جدران هذا البيت ذكرياتي، وأرحل، وهذا هو بالضبط الإحساس الذي لا بد أن نشعر به تجاه الوطن.
أكثر جملة أستطيع أن أصف بها وحشة حياتي في الإسكندرية، وامتناني لحياتي في القاهرة، هي أن أسوأ يوم قضيته في القاهرة أفضل من أفضل يوم عشته في الإسكندرية، لأنه نتيجة اختيارات حرّة، وانتماء حقيقي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...