شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
القاهرة... لا أسرار  يكشفها زجاج هذه المدينة

القاهرة... لا أسرار يكشفها زجاج هذه المدينة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز

السبت 18 سبتمبر 202101:18 م

يعيش أهل بلدي

 

أخيراً ولّى أغسطس... موجاته حارة ونهاره كئيب، أقول لنفسي حان الوقت لشرب زجاجتي بيرة ينتظران في ثلاجة من قادر على تحمّل طعمهما المُر دون تأفف ليمنحاه ما يصبو إليه، اتجه إلى باري الأثير بوسط القاهرة، صديقي كيرلوس يأتي بطلبي بمجرد أن لمحني، تلك ميزة الاعتياد على المجيء والتعرف على العاملين، نتبادل النكات والهموم دون إفصاح.

عيناي تدوران حول الجالسين، هل هناك وجوه جديدة أو مثلي زبائن دائمون نتهادى ببسمة صامتة دليلاً على الألفة؟ أمامي فتاة تترك شعرها للهواء البارد مبتسمة أمام رجلها المتوتر والمكتفي بمياه غازية، هناك سيدة أربعينية "دائمة التواجد" تُداري همها الظاهر في عينيها بالعبث بكرات الثلج في كأسها، وضحكات عالية من آخرين يجلسون بجواري، أما أنا فوحيد كالعادة، أتطلع إليهم ثم إلى عقارات وسط البلد التي اتمتع برؤيتها من أعلى، بعض سكّانها خرجوا أخيراً للنوافذ يشتّمون نسمات سبتمبر، ماذا لو تحولت كل تلك المباني إلى زجاج يكشف ما بداخلها؟!

أردد الكلمات التي فاجئني خروجها، لم تخطر الفكرة على بالي من قبل، أنظر إلى زجاجتي الثانية، مازالت ممتلئة... إذن مازلت بخير، تغازلني الكلمات مرة أخرى محاولاً إدراك معناها، أردد بقوة: صحيح ماذا يمكن أن تكشف القاهرة العريقة إن تحولت لمدينة زجاجية؟

فوجئت حين فكرت قليلاً أن الإجابة لن تكون صعبة إلى هذا الحد، أو حتى متعددة، ملايين البيوت المتلاصقة بجوار بعضها البعض في شوارع ضيقة وحارات أضيق قادرة أن تفصح عما تحتويه، الأسقف المنخفضة والنوافذ رديئة الطلاء، سمة نصف سكان مدينتي الواهمين أنفسهم بأن هذا الجو الخانق في تلك المُعلبّات السكنية يجسّد روح القاهرة التاريخية، كلمات للمواساة وتهدئة الأنفس العاجزة، لكن الحقيقة أن ما رأيته من خلف الزجاج بعين رجل لم ينته من زجاجته الثانية بعد، أن ملايين البيوت تلك يسكنها ملايين الفقراء، فقراء بالوراثة وفقراء جدد سقطوا من طبقة متوسطة استطاعت العيش حتى وقت قريب.

أردد الكلمات التي فاجئني خروجها، لم تخطر الفكرة على بالي من قبل: ماذا لو كانت القاهرة زجاجية؟ أنظر إلى زجاجتي الثانية، مازالت ممتلئة... إذن مازلت بخير... مجاز في رصيف22

يفضح الزجاج كل شيء، يشعرنا كم نحن متشابهون، شقق تتكون من حجرتين أو ثلاث حجرات وكلاهما لن يتخطى مساحة المائة متر، متوسط مساحة شقق المدينة التي يتكدس فيها ملايين النساء ويستلقي بداخلها ملايين الرجال العائدين من أعمالهم طوال اليوم عسى أن يلبّوا طلبات الحياة، ألوان الجدران والأجهزة متطابقة، المفارش عادية، اشتروها من أسواق الغورية الشعبية بوسط البلد، أو من أصحاب محال اشتروا تلك المفارش أيضاً من الغورية لبيعها للجمهور، كي تدور عجلة الحياة.

حتى وقت مضى كان يمكن وصف الصباح بالهاديء والليل بالسكون، لكن تلك رفاهية لم تعد متاحة، البيوت مستيقظة طوال الوقت، في منتصف النهار وخلف الزجاج رجال يخطفون ساعتي نوم لاستكمال نوبة عمل أخرى، رغم ضجيج الأطفال وأصوات البائعة، وخلف الزجاج شباب جالسون أمام هواتفهم التي تسرق أعمارهم بعد أن فشلوا في الالتحاق بوظيفة، يعانون البطالة ويعانون مرور مرحلة الشباب دون زوجة، يبحلقون في الشاشات على وصلات إنترنت زهيدة الثمن، يشاهدون من خلالها ما عجزوا عن الوصول إليه، وآخرون تمكّنوا من الزواج فلم يعودوا يملكون سوى دقائق يمارسون فيها فن الحب مع زوجاتهم لإثبات أنهم مازالوا على قيد الحياة، تنتهي الدقائق ويخرجون للعمل حتى اليوم التالي.

خارج الحجرتين أو الثلاث،يكشف الزجاج إنه لم يتبق سوى صالة صغيرة مُكدسة بالكراسي التي تصلح لزوار من نفس الطبقة، وتصلح للنوم على أرضيتها ليلاً إذ لا يراهم أحد، منضدة صغيرة وُجدت للطعام، لكنها تتحول لمكاتب يستذكر الأطفال دروسهم عليها، أطفال سبيلهم العلم، يحلمون بوظيفة تُمكّنهم من شراء شقة بحجرات ضيقة ومنضدة يجلس عليها أولادهم في المستقبل، ليلقوا نفس المصير، لا خاتم سليمان قادر على تحقيق أحلامك، ولا دولة قادرة أن ترعاك، أنت وحدك... وحدك تماماً.

وسط البيوت الكثيرة، تظهر شقق من خلف الزجاج بها من الأسرّة الكثير، أعرفهم، مطاريد الأقاليم المجبرون على العيش في العاصمة، باحثون عن لقمة عيش أو نجاح في بلد مركزي لا يعترف إلا بقاهرته القاهرة، يتراصون بجوار بعضهم منتظرين أملاً لم يعلن عن موعده بعد.

أما الفتيات، مطاردات الأقاليم الذي لم يكشفهن الزجاج لي لسترتهن، لا يختلف الأمر معهن كثيراً، لكنهن يخضعن لسلطة صاحب أو حارس العقار للدخول بمواعيد والخروج بمواعيد، خضن معركة الاستقلال مع أهاليهن وانتصرن وخضعن أمام من يملك طردهن في أي وقت.

 هؤلاء جميعاً توّحد بينهم الأحلام البسيطة والعيش بسترة، وألا تفاجئهم الحياة بما لا يستطيعون تحمّله، هؤلاء أيضاً تكدّسوا في حجرات ضيقة طوال أغسطس بطقسه المقيت، قليل منهم القادر على شراء مبرد هواء، وحتى هؤلاء خائفون من استهلاك كهربائي يلفت أعين الحكومة فيُحرمون من أي دعم، لذلك يحمل سبتمبر لهم بشرى سارة، نسائمه تنعشهم وتجعلهم يخرجون للنوافذ، ينظرون سكّان آخرين للعاصمة، قاطنيها الجدد الذي لا يشبهونهم سوى بالجنسية وسكن نفس المدينة.

لا يطمع سكان مدينتي الأصليون في عيشة كالسكان الجدد، تلك أرزاق قسّمها الخلاق، لكنهم يخشون أن يفقدوا بيوتهم، مغادرة الأسقف المنخفضة والحجرات الضيقة تحت مبرر التطوير والتحديث وإزالة العشوائيات التي تقتطع جزءاً من أراضيهم كل يوم وتمنحها للأثرياء... مجاز في رصيف22

هؤلاء... السكان الجدد... نصف سكّان مدينتي الآخر، يقبعون في مباني شاهقة، جيدة الطلاء، ذات أسقف مرتفعة، يتمددون باستمرار ويشعرونا بضآلتنا، لنراهم يجب أن نرفع رأسنا لأعلى، يعملون ساعات كثيرة مثلنا لكن يجنون الملايين، وينحني لهم الجميع، جميلون طوال الوقت، لا أثر لتعب ولا كلمة لتقدم العمر، لا يعترفون بالمائة متر، زجاجهم لامع، يكشف أن ورائه حجرات واسعة ومتعدد، حجرات لا يسكنها سوى فرد، وأحياناً تظل مغلقة لعدم الحاجة إليها، أسرّتهم تتسع لـ5 أجساد، وحدائقهم تبدوا بعيدة، والصالات الرياضية مستقلة لا تخفى على أحد.

خلف الزجاج اللامع رجال لا يحتاجون لاقتناص دقائق لممارسة الجنس، يفعلون ذلك بأريحية، ولا يضطر الواحد منهم لضبط منبه كيلا يتأخر عن عمله، يمنحون كل قطعة وظيفتها الأصلية، منضدة الطعام للطعام، مكاتب كثيرة للأطفال الذين يحلمون بتكرار معيشة أهاليهم لتبقى الأمور كما هي، نصف ينظر من النوافذ على نصف يسكن في المباني الشاهقة.

رغم ذلك، لا يطمع سكان مدينتي الأصليون في عيشة كالسكان الجدد، تلك أرزاق قسّمها الخلاق، لكنهم يخشون أن يفقدوا بيوتهم، مغادرة الأسقف المنخفضة والحجرات الضيقة تحت مبرر التطوير والتحديث وإزالة العشوائيات التي تقتطع جزءاً من أراضيهم كل يوم وتمنحها للأثرياء، استكثروا على الفقراء العيش بوسط المدينة، حيث الموقع الاستراتيجي الذي يقيّمه البعض بالجنيه، وبالتالي رُفع شعار "لمن يدفع".

على مرمى البصر تظهر آثار القاهرة التاريخية، تشهد على الصراع ومغادرة سكانها الأصليون الذين يلتجئون إليها ويعيشون بونسها، آثار لم تتحول إلى زجاج، لم أر ما بداخلها، كأنها ترفض أن تصبح مستباحة: من يريد الرؤية فليقترب.

تنتهي زجاجتي الثانية، أقول لنفسي لا أسرار يكشفها زجاج هذه المدينة، صنفان لا ثالث لهما، سكان ينظرون من النافذة على سكان آخرين وكلاهما يخشى الآخر، أغادر للسير في شوارع وسط البلد،أنا مثلهم، لكني لا أحب مشاهدة السكان الجدد، يكفيني فتارين الكتب، والبار الذي أجلس فيه فأشاهد كل ما أريد دون الحاجة إلى النظر إلى أعلى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard